Damas, Ville de Magie et de Poésie
دمشق مدينة السحر والشعر
Genres
همت بسحرها في سحرها، وبشمسها تأفل وراء شجرها، وراقني وابلها وطلها، ونداها وضبابها، وجليدها وجمدها، وثلجها وبردها، ودمقها وزمهريرها، نسيمها وأعاصيرها.
غنتني طيورها بأطيب الأنغام ترددها من وكناتها في جناتها، وما تبرمت الأذن بنعيق البوم ونعيب الغربان، وعواء بنات آوى، ونباح الكلاب، ونقيق الضفادع، في المظلم والمقمر من لياليها، واهتززت للديكة تصيح، والغنم تثأج، والمعيز تثغو، والبقر يخور، والخيل تصهل، والحمير تنهق.
أقبلت مرة أقلب حديقة لنا أنقي أدغالها، وأعزل صخورها وأحجارها، فنبشت على ذراعين من سطحها مقبرة فيها قليل من عظام نخرة، وكثير من خواتم وأقراط وأساور ودمالج، كانت فضتها ونحاسها وحديدها وزجاجها تتفتت لساعتها بأيدينا.
وما فرقنا بين الرجل والمرأة من نزلاء مدينة الموتى، وما بان معنا الشاب من الفتاة، ولا الشيوخ من العجائز، ولا إذا كان من لحدوا فيها مجوسا أو صابئة أو نصارى أو مسلمين، ولا إن كانوا من العرب أو السريان أو اليهود أو الروم، وغاية ما نم عليه ذاك العظم الرميم أنه بقايا أشلاء بشرية كان أربابها يهيجون ويسكنون، ويلؤمون ويبرون، ويشقون ويسعدون. وأبصرت على خطى قليلة من المدفن أثر حوض بديع شيد بالآجر والحجر النحيت، يظهر من ترخيمه أنه بناء بان صناع اليد، وانتهت إلى ديماس عميق فيه جرار عظيمة، وأدوات نشأت من مدينة كانت بنت هذه التربة الزكية، نعم بها أهلها ما قدر لهم أن ينعموا، فلما ناداهم حادي الرحيل تخلوا عن مصانعهم ومرافقهم، وغادروا ديارهم كأن لم يغنوا فيها.
أدركت أجيالا ثلاثة من الناس، وقبلي رأى الراءون ألوف ألوف الألوف، وكلهم كان شأنهم كشأننا، خلقوا على صورتنا، وركبت فيهم أحاسيسنا وغرائزنا، واستحكمت فيهم الشهوات والمطامع، وكانت لهم آمال وأحلام، نزح صالحهم وطالحهم، وراح لطيفهم وكثيفهم، وما عرفوا لم جاءوا ولا إلى أين ذهبوا، ولم جدوا وجهدوا، ولم انصرفوا على ألا يرجعوا. أما أجسامهم فقد نخرت وتبخرت، وتبعثرت ذراتها في الفضاء. وأما أرواحهم فانتقلت إلى عالم لم ندركه بالحس، ولا قدر معنا بحساب، وما علمنا عنه إلا ما أشار إليه الكتاب.
ذهب من درجوا على هذا الصعيد الطيب، تاركين ما كدحوا وجمعوا، ناسين من أحبوا وأبغضوا، وما حال دون قفولهم عطف الأمهات والزوجات، ولا بكاء الأولاد والأخوات، هلك الغني والفقير، والصحيح والمريض، والحبيب والبغيض، وناح النساء على الأعزة الذاهبين يندبون ويولولون ، ثم لحق النائحات والنوادب بالصحاب والصواحب. •••
حقا إن الغوطة كانت على الأيام ساحة تحول، تحولت فيها حتى أزياء الجنسين من سكانها، فغير الرجال في هذه الحقبة لباس رءوسهم ثلاث مرات، وكذلك كان دأب النساء بملائهن.
شاطرت القوم أفراحهم وأتراحهم، وكاثرتهم في مواسمهم وأعيادهم، ورأيتهم يلبسون الخلق البالي، ورأيتهم يلبسون الزواق الحرير، ورأيتهم يطعمون طيب الطعام وأمرأه، ورأيتهم لا يشبعون من خبز الذرة والشعير، راقبتهم في سكونهم وهوشاتهم، وفي تلاتلهم ومشاكلهم، وفي سعتهم وضيقهم، وعاشرتهم وسامرتهم، على نقص محسوس في تربيتهم، أدركتهم يستعيضون عن اللبن والطين والقصب والكلس في بنيانهم بالقرميد والآجر والحجر والأسمنت، وعهدتهم يمتطون الفره من الخيل والبغال والحمير، ويحملون أثقالهم على الجمال، ويجرونها بالثيران، ثم اتخذوا المركبات والعجلات، وركبوا الدرجات والسيارات.
أدركتهم تبيض الأمية وتفرخ في رءوسهم، ويعم الجهل كبيرهم وصغيرهم، وذكورهم وإناثهم، وما كانت عقول الأذكياء منهم تصل إلى أبعد من القرى المجاورة، واغتبطت أن صار بضعة في الألف من شبانهم وكهولهم يتلون الصحف والكتب، ويستطلعون طلع الأخبار، ويعنيهم النظر في المصالح العامة، ويظهرون في مظهر من يحاول مجاراة الزمن في حضارته، يستبدلون الأدوات الحديثة في الحرث والتذرية والعصر والاستخراج بأدواتهم القديمة التي جمدت على حالة واحدة لم تتبدل من عهد عاد وثمود، كل ذلك ببطء وتثاقل ليناسب اقتباسها قانون الزروع والغراس عنهم: تنمو بحرارة معتدلة وإذا سقيت سقيت بمقدار. إقليم تتصادم عناصر الطبيعة فيه بلا انقطاع، الفناء رابض أبدا إلى جانب البقاء والتبدل على قد غلوة من الاستقرار. عاينت كل هذا فرجعت بمناظر متشاكلة، ولا تزال تتكرر على مر الجديدين. لم أهتد سبيلا إلى تعليلها، ولا أدركت ولا أدرك أرباب المدارك هذا السر الدفين في صدر الليل والنهار.
هنا يبدو للعين كفاح الغوطي في كسبه ورزقه، وصراعه في سبيل شهواته وأثرته، هنا تلمح جور القوي على الضعيف، وأن الإنسان في هذه الأرجاء على نحو ما هو في كل مكان، ظالما ومظلوما، قاتلا ومقتولا، وعزيزا وذليلا.
Page inconnue