هو أقرب ما يكون إلى ذكريات كما اخترت العنوان، وأرجو ألا أكون قد اعتسفته اعتسافا، فإن جنحت هذه الذكريات إلى القصة، فهي قصص من صنع السماء ليس لي عليها إلا عمل الناقل لا الخالق. وإن جنحت إلى رسم شخصيات مما تعودت أن أكتب أحيانا، فهي الشخصيات أتحرى في رسمها الصدق لا الفن، فهي إذن صور فوتوغرافية، وليست صورا قلمية أضفي عليها من خيالي ما أشاء لأجعلها تبدو كما أريدها أن تبدو.
فالشخصية المرسومة قد تكون عدة أفراد جمعتها أنا في فرد واحد، ولكن هذا الذي ستشاهده في هذه الصفحات هي شخصيات عرفتها، وستدرك حقيقتها حين تجد اسمها الحقيقي الذي يعرفه من عرفها يعلن عن أنها بنت الحياة، وليست من بنات الخيال، ولا هي من شخوص لروايات.
أحسب أنني اليوم وأنا أقارب الخطو إلى ستينيات عمري لا يفصلني إلا سنوات قلائل نظرت إلى أيامي الماضية فوجدتني قد مررت بأقوام كثيرين، وبعهود شتى ربما لا تكون فيها غرابة، ولكن خيل لي أن فيها طرافة. فقد نشأت في بيت أبي المغفور له إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وهو رجل من رجال السياسة في عصره، ورجال السياسة في مصر يختلطون بكل الناس من شتى النحل والمهن، وأكثر صلتهم بناخبيهم الذين ينتخبونهم ليكونوا نوابهم في المجالس النيابية. وقد كان أبي عضوا في مجلس النواب منذ تكون إلى أن انتهت الحياة النيابية في مصر عام 52، فليس غريبا إذن أن أكون أنا على معرفة تامة بالحياة منذ وعيت الحياة. وهل الحياة إلا الناس وقد ولدت في زحامهم، وعشت بين أمواجهم، وشببت عن الطوق وأنا أتنفس الهواء الذي يتنفسون، وربما عرفت من أفواههم خفايا حياتهم التي يضنون بها على خاصتهم الأقربين؛ فقد طالما قصدوا إلي لأكون شفيعهم إلى أبي، والحديث إلى الابن الصغير أكثر يسرا من الحديث إلى الأب الذي يحيط به جلال شخصيته ووظيفته نائبا أو وكيلا لمجلس النواب أو وزيرا.
وقد عرفت الحياة وأبي واحد من هؤلاء الثلاثة؛ فقد ولدت عام سبعة وعشرين وتسعمائة وألف، وكان هو عضوا بمجلس النواب، وسمعت فيما بعد أنه كان مديرا لمكتب رئيس الوزراء محمد باشا محمود عام 28، ثم مديرا لمكتب عدلي يكن عام 29، ثم عاد بعد ذلك إلى مجلس النواب نائبا، ثم صار وكيلا للمجلس مرتين؛ مرة في عام 30، وأخرى عام 38.
وما دمت قد عرضت لما سمعته عن أبي فقد يحلو لي أن أروي ما سمعته عن نفسي، وإن كان قد خطر لي أن أروي مواقف أبي في ثورة 19، إلا أنني عدلت عن ذلك لأسباب تواثبت تباعا إلى ذهني؛ الأول: أنني لو دلفت من هذا الباب لاحتاج الأمر إلى كتاب بأكمله، والثاني: أن هذه المواقف مكتوبة في كل الكتب التي تناولت ثورة 19، والثالث: هو أنني أستطيع أن أروي بقلمي قصة صغيرة سمعتها، ولا تحتاج روايتها إلى مشاهدة وحضور. أما إذا رويت عن أبي في ثورة 19 فلا بد لي أن أكون معايشا لهذه الفترة معايشة تسمح لي أن أكتب عنها، وهذا ما لم يحدث، وما كان يمكن أن يحدث، وقد تزوج أبي من والدتي في عام 24.
ومما روي لي أن الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد كان من أشد أنصار سعد باشا زغلول، وكان العقاد صاحب قلم عنيف شديد الوطأة على من يخاصمهم في الرأي. وحدث أن كتب عدة مقالات يهاجم فيها محمد محمود باشا، وكان الهجوم فيه سباب كثيف، حتى لقد وصف محمد محمود بالشقي محمد محمود، ثم كتب مقالا آخر بعنوان الشقي رقم كذا، وكأنما محمد محمود أصبح من نزلاء السجون الذين يعرفون بأرقامهم. وضاق محمد محمود بهذا الهجوم، وفي نوبة من نوبات الضيق الشديد منه أقبل عليه أبي، فقال له محمد باشا: «أيرضيك ما يكتبه العقاد؟»
وقال أبي: «لا، لا يرضيني، وأنا قادر على الرد بما يسكته، ولكن بشرط واحد.»
وقال محمد باشا: «ما هو؟»
قال أبي: «تنزل مقالاتي إلى مطبعة السياسة مباشرة، ولا يقرؤها الدكتور هيكل رئيس التحرير؛ فهو لا يرضى مني العنف في المقالات، وسيحاول أن يخفف من قسوتها.»
فقال محمد باشا: «لك هذا.»
Page inconnue