فسارعت أقول وقد أحسست أنني موشك أن أصل إلى أعماق سرها: يا سلام يا ستي، أقرؤها وأقرؤها وأقرؤها.
فقالت على عادتها: صحيح؟
فقلت: صحيح جدا.
فقالت في استخذاء: قم إلى الباب واقفله بالمفتاح؛ فإنك أول من يقرؤها، فأنا كما تعلم لم أقرأها أبدا ولم أبحها لأحد أبدا، اقرأها لي أنت، هل أحسنت إقفال الباب؟
وكنت قد رجعت عن الباب واستويت على كرسي بجوارها، وأعطتني الكراسة فأخذتها بيد ملهوفة وراحت هي ترنو إلى صورة جدي متهيئة لأن تسمع هذا الكلام الذي استغلق عليها السنوات الطوال. وفتحت الكراسة وقبل أن أعلو بصوتي لأسمعها رحت أمر بعيني على الصفحة الأولى.
لقد كانت كراسة ذكريات لا شك في ذلك. ولكن لم تكن جدتي هي محور هذه الذكريات، كان جدي يحب فتاة أخرى غير زوجته، رعاك الله يا جدتي كم أضعت من دموع وكم أفنيت من أوقات وكم بذلت من جهد في تجديد الشريط الذي يلم الذكريات وفي تنظيف الصندوق الذي ينضم على المذكرات، وانتاب لساني نوع من الشلل الداهش الحزين، واجتاح قلبي عاصف من الألم والحرقة والإشفاق على جدتي والحب لها، وفي لمحة خاطفة اتجه ذهني إلى طريق آخر، هل كانت سدى هذه الدموع، هل كانت هذه المجهودات التي بذلتها في المحافظة على الصندوق وتجديد الشريط بلا جدوى، هل كانت نظراتها الطويلة على السنين الطويلة في صفحات الكراسة هباء، أكانت جدتي تسعد بشيء قدر سعادتها بهذه النظرات الجاهلة وهذه الدموع المنسكبة وهذه العناية البالغة، ألم يستطع جدي أن يترك لها في هذه الكراسة الخادعة حياة لها تحيا بها في سنوات الكهولة والشيخوخة، لقد سعدت جدتي بالكراسة سواء كان ما تحويه حبا لها أم خداعا لها، لقد سعدت. لقد خيل إلي أن الصفحات قد أصبحت مطبوعة برسوم حروفها في عقل جدتي وعلى قلبها، مطبوعة بحروف أكثر ثبوتا وبقاء وعمقا من هذه الحروف الملقاة على صفحات الكراسة. وخيل إلى أن نظرات جدتي قد احتفرت على السنين حفرا في أوراق المذكرات أكثر جمالا من كل حب وأصدق إحساسا من كل كلام، أيذهب هذا جميعه سدى، وأيقظتني جدتي من سرحتي الطويلة لتقول في صوت تردد بين الخجل والتشوق والفرح: اقرأ.
ونظرت إلى جدتي طويلا وقلت: يا سلام يا ستي، كم كان يحبك جدي، كم كان يحبك!
ونظرت جدتي إلى الصورة المطلة عليها وابتسمت وهي تقول وقد تعثرت الألفاظ بخجلها: نعم، أعرف، اقرأ.
ورحت أقرأ جاعلا اسم الحبيبة التي تروى عنها المذكرات هو اسم جدتي، حذرا دائما مبتعدا دائما عن كل لقاء لم يكن في بيت، مختارا الكلام العام الذي لا توحيه مناسبة بعينها، وظللت أقرأ وظل وجه جدتي يتهلل ونظرتها إلى الصورة تزداد إنعاما فإن غشت عينيها الدموع راحت تزيحها عن عينيها وتنعم في صورة جدي حتى انتهيت من المذكرات ولم تكن طويلة وهدأت، لقد بلغت آخرها ولم أخطئ ونظرت إلى جدتي ورأيتها في سبحتها ما تزال رانية إلى الصورة فحولت نظري إلى الصورة معها وخيل إلي أن جدي يبتسم لي شاكرا فابتسمت له أنا أيضا رغم ما جعلني أعاني من حيرة وحسرة على ذكريات جدتي، ورغم المجهود الذي بذلته لأستر حقيقة مذكراته.
نعم لقد حطمت في غرفة جدتي كل مقتنياتها العزيزة ولكني تركت لها أحلامها المودعة في صندوق الذكريات والسنوات الطوال من الحب التي عاشتها في ظله لم أحطم منها شيئا.
Page inconnue