وظنت المرأة أني جننت، وسألت في ذهول: من؟ - أين هو، أين عمي سعد؟
وقالت المرأة: ألا تعرف؟ - نعم، أعرف أنه مات، أين هو؟ - في حجرته يا ابني.
ودخلت إلى الغرفة ووقفت أمام هذا الوفاء الراحل، وأطرقت إلى الأرض وأنا أقول: أشكرك، وأعتذر إليك!
عودا إليك يا أبي
لقد كنت هناك في الحانة ولكن أصحابي هم الشاربون وكنت جليسهم، أصدقاء الدراسة وأرادوا أن يحتفلوا بنجاحهم بالشراب وأبيت أن أشاركهم، ورأيتني فماذا أقول لك وماذا أصنع؟
اليوم أبي، اليوم فقط أستطيع أن أجثو عند قدميك أسألك العفو والغفران، عفوا وإن لم أرتكب ذنبا، ولكني بحسبي من الذنب أنك غاضب، وبحسبي من الأيام سوادا أن ألقاها وأنت عني غير راض، سنوات يا أبي منذ تركتك، لم تغب عن ذهني لحظة، كنت أتمثلك في كل طريق أروده؛ فأنت الأصل الذي كنت أسعى إليه، لا شيء إلا أنت، أنت وحدك يا أبي، فما أطيق - وحقك - الحياة بغير تلك البسمة التي تشرق على وجهك وتشرق لنا بها الأيام والأزمان والآمال والمستقبل. لا أطيق.
تركتك لأضرب في الأرض فكانت ابتسامتك هذه أملي أراها أينما أدرت وجهي، لقد كانت قطعة من نفسي، بل لقد كانت أغلى قطعة في نفسي، أبي إن أكن أصبت في الحياة نجحا؛ فلأنني كنت أطالع هذه الابتسامة دائما، كنت أراها عند الشدة الآخذة فينفرج من الأزمة ما كان مستحكما، وكنت أراها عند النصر فيزداد النصر عظمة وأزداد أنا تواضعا، كانت ابتسامتك المصباح في الظلام وكانت عند الفجر مجلاه وإشراقته.
أبي أتراك تذكر كم من الأعوام مرت لم ترني فيها؟ بل إنني حتى الآن لم أكتب إليك، عشرة أعوام كاملة، وقد قصدت أن أكتب إليك اليوم لأنني أحتفل اليوم بعيد مولدي، لقد ولدت في نفس اليوم الذي غضبت مني فيه وطردتني، فأردت يا أبي أن أكتب هذا في نفس اليوم، يوم مولدي، فإنه يخيل إلي أنني ولدت في هذا اليوم مرتين، مرة يوم التقيت بالحياة وعطفك يحيط بي، ومرة يوم التقيت بالحياة وحدي بلا عون حين طردتني.
أبي أتظنني غضبت أن طردتني، أتظن أنني انقطعت عنك طوال هذه المدة لم أعتذر ولم آت ولم أجث عند قدميك لأنني ذو كرامة؟ لا وحقك، فإنني عندك أنت لا كرامة لي، فأنا أعلم أن حبك يرعى من كرامتي ما لا أرعاه. لم يكن انقطاعي لشيء من هذا، وإنما لشيء آخر ستعرفه في نهاية هذا الكتاب.
أبي أتذكر يوم طردتني، نعم يا أبي، إنك تذكر ولكنك لم تعرف الحقيقة حتى اليوم ولم أشأ أن أخبرك بها؛ فقد كنت أخشى ألا تصدقني، وقد كنت وما زلت أحبك حبا يمنعني أن أخالف إشارة منك مهما تكن هذه الإشارة صادرة عن ظن لم يثبت، أو اعتقاد لم يتأكد. كنت وما زلت لا أجد لكلمة تصدر منك إلا الطاعة فأطعت، وخرجت، ومرت عشر سنوات. أما أنا فلم أكتب إليك لفكرة تسلطت على ذهني وألحت عليه وملكت علي كل أمري، وأما أنت فلم تسأل عن ولدك لأنك كنت تعرف من أمره كل شيء، وكنت تطمئن على حياته دون أن تظهر له ذلك.
Page inconnue