وتعرفت على صديقة شقيقتي الصغرى، وكانت تسعى للحصول على تأشيرة خروج، كانت تود العمل في الخارج، وأتعبها موظفو الأمن في المجمع، كل منهم له أسبابه الوظيفية والشخصية، وكان البعض يريد أن يصادقها، يدعوها للخروج معه، ثم يدعوها لمنزله. فكانت ترفض، وبالتالي كانوا يأجلون الموافقة على إصدار التأشيرة. وحاولت مرة أن أزورها في بيتها، قابلني البواب سائلا: «إلى أين يا أستاذ ؟» فأحرجت في الإجابة، ثم وجدتني أتأسف له بأنني أخطأت في عنوان المنزل ورقمه.
وكانت الجامعة في مصر هي المكان الطبيعي الذي يمكن أن أعثر فيه على شريكة للحياة وزوجة للمستقبل ، فقد كنت قد بلغت أوائل الثلاثينيات وهو عمر طويل للباحثين عن الزواج. وقد كانت الأقرب لي معيدة في أي قسم من أقسام الكلية، تعرف واجبات العلم وانشغال العلماء. وكان قسم الصحافة ما زال قسما بكلية الآداب قبل أن تشيد كلية الإعلام فينتقل إليها. وكانت أول دفعة تخرجت منه ثلاث فتيات مؤهلات للدكتوراه ليكن نواة لأساتذة بالقسم دون الاستعانة بأساتذة من أقسام التاريخ واللغة العربية أو كليات الحقوق والعلوم السياسية. تخرجت ثلاث معيدات وشددن انتباهي؛ إحداهن بجمالها، وبالرغم من صغر وقلة حجمها، كانت تسبح ذات يوم في حمام سباحة نادي التوفيقية كالسمكة الفضية عندما تعكس الشمس أشعتها عليها، ولما رأت الإعجاب في عيني أخبرتني أنها متزوجة من ضابط وتفكر في الانفصال عنه، كان ما زال لي ترسبات وتراكمات شرقية، منها أن زوجة المستقبل لا بد أن تكون عذراء، فلم أستطع التقدم لهذه المعيدة التي تنوي طلب الطلاق من زوجها.
كان أحد المعيدين يحبها، وفي ليلة ليلاء سهرنا ثلاثتنا في منطقة الأزهر والحسين. اشترينا لها عروسة المولد النبوي، فضمتها على صدرها، وذهبنا بعدها إلى منزل المعيد، فرقصت لنا حتى الصباح. لم تستمر العلاقة بينهما طويلا؛ لأن المعيد هاجر إلى الخارج. وما زال مهاجرا لم يعد ولم يسمع أحد عنه خبرا، وربما غادر هذه الدنيا. وتركت أثرا رومانسيا في قلبي ما زال حتى الآن عندما تراني أو أراها، أو تتصل بي هاتفيا، أو أتصل أنا بها في إحدى المناسبات. تزوجت مرتين بعد ذلك، وهي الآن جدة لها أحفاد.
وكانت هناك معيدة أخرى جميلة ولكنها منطوية على نفسها عكس المعيدة السابقة؛ فخشيت منها؛ فأنا لا أريد فقط ربة منزل، ولكني أريد رفيقة عمر وشريكة درب، وأنا منفتح على العالم، فلا بد أن تكون هي الأخرى منفتحة على العالم.
كانت رقيقة، منخفضة الصوت، وأنا أريد زوجة قادرة على الدخول في المناقشات والحوار الذي يحتاج إلى بعض الصلابة والقدرة على المحاورة والمواجهة. ومع ذلك ظلت تثير في العواطف الرومانسية الأولى.
وكانت هناك المعيدة الثالثة، ذات شعر أسود، وذات قامة تميل إلى الطول، وكانت ذات بشرة سمراء. لم تبتسم مطلقا، لم أرها تداعب أحدا، أو تمازح الآخر من الزملاء؛ فانقبض قلبي منها، وأنا الضحاك المهزار، المازح، المداعب، صاحب النكات. كانت تنظر إلى الأرض. وأنا الناظر إلى السماء.
تعرفت على عميد دار العلوم الذي يقع بحي المنيرة، وتقول الرواية إن له ابنتان؛ الأولى شقية، مرحة، حية، جذابة؛ والثانية أكثر هدوءا واستقرارا ورزانة. وكأنني بين عائشة وخديجة في رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ. لم أرهما، ولكن هكذا كانت تقول رواية أحد الأصدقاء بدار العلوم. وكيف أحب الغائب؟ وكيف يحب القلب ما لا يراه؟ تساءلت وفكرت مهما كانت مسافة القرب والبعد، ومهما قيل كما في الأغنية الشعبية: «القريب منك بعيد، والبعيد عنك قريب» لنجاة، تظل حرارة اللقاء غائبة.
وفي مرة أخرى كنت أصحب أستاذا في التصوف الإسلامي كما كان يفعل أحد الأساتذة من قبل، من بيته إلى الكلية، وكنت أقدر له أنه لم يعطني درجة سيئة في البحث المفروض على قسم الامتياز بالسنة الرابعة، والذي كان موضوعه «المعرفة والسعادة عند الغزالي» وكنت في ذلك الوقت ضد الغزالي؛ فالمعرفة عندي عقلية وليست تذوقية، والسعادة عندي في التمرد وليست في الرضا. ورفضت المقامات والأحوال عند الغزالي. فجاء الأستاذ بمقص وجعلني أقص هذه الخاتمة وأبقي على العرض فقط؛ فخرجت غاضبا، وأغلقت خلفي الباب بعنف.
وكانت له ابنة تقف بين غرفة الاستقبال وغرفة المعيشة، رأيتها عدة مرات، لم تكن جميلة ولا بيضاء، بل كانت قصيرة سمراء، فلم تدخل قلبي، ولا أثرت في وجداني، وفي أحد الأيام قابلتها في المجلس الأعلى للثقافة، ويبدو أنها كانت تعمل هناك، فسلمت علي وقالت: «ألا تذكرني؟» قلت: «لا.» قالت: «أنا ابنة الأستاذ الجامعي.» فرحبت بها، يبدو أن الذكريات لا تكون إلا نابعة من القلب.
وعندما كنت أذهب إلى العطوف لأنادي على صديقي وأصحبه إلى معهد شفيق الموسيقي لتعلم العزف على الكمان، كنت أنادي عليه باسمه من أسفل المبنى؛ فكانت شقيقته ترد علي من فوق.
Page inconnue