وكانوا قد أخبروني في العيادة أن رئتي اليمنى مصابة بالدرن وهي أول مرحلة في السل، ولا بد أن أمكث في العيادة الطبية عدة أشهر حتى أعالج من هذا المرض القاتل، عن طريق إدخال محاليل لازمة عن طريق الأوردة والشرايين؛ ففعلت . فقالوا لي بعد مدة إني أحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أشهر أخرى للعلاج حتى يختفي الدرن. فقلت: وماذا عن غرفتي بالمنزل الألماني؟ قالوا: ندفع نحن أجرتها. قلت: وماذا عن كتبي التي اشتريتها ولم أدفع ثمنها بعد وموجودة في المكتبة؟ قالوا: نشتريها لك؛ فشكرتهم على هذه التسهيلات. ومكثت في العيادة الطبية لمدة أربعة أشهر. كنت آكل أربع مرات في اليوم، وأذهب للنوم مبكرا. فتحسنت صحتي، بل وبدنت. وحين حان وقت الخروج أخبروني بأنني لن أستطيع أن أعود لأعيش بالأسلوب الذي مضى. وعلي أن أختار بين دراسة الفلسفة أو الموسيقى؛ لأنني لن أستطيع الجمع بينهما وإلا قضيت على نفسي بنفسي، وإن لم أفعل سيضطرون إلى إرسالي لمصحة الجامعة فوق جبال الألب؛ لأستنشق هواء الجبل النظيف، ولكني سوف أفقد الفلسفة والموسيقى معا. وكانت لحظة صعبة؛ لحظة الاختيار بين حبيبين، بين طفلين. ولكن أصر الأطباء على حسم قراري. وتوقيع شهادة أوافق فيها على شطب اسمي من الكونسرفتوار وأبقى في السوربون، أو أن أوقع شهادة شطب اسمي في السوربون وأبقى في الكونسرفتوار. تصورت نفسي مؤلفا موسيقيا مثل بيتهوفن وسيد درويش، أو عازف موسيقى في أوركسترا غربي أو شرقي. وتساءلت ماذا قدمت إلى العزف مع جماعة عازفين بألحان غيري؟ ثم تصورت نفسي مفكرا، أعطي للناس مناهج للتفكير وسبلا للحياة. وأني مؤثر في الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد، وأن أكون جيلا جديدا من المفكرين والباحثين يستطيعون إكمال الرسالة من بعدي، كما فعل الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين.
فاخترت الفلسفة وأنا أغنيها، وفضلت الفكر وأنا أصدح به، واخترت الثقافة وأنا ألحنها، واخترت الجامعة وأنا أعزف لها؛ تركت موهبة الرسم لصالح الموسيقى، ثم تركت الموسيقى لصالح الفلسفة، وما زلت حتى الآن عندما أسمع بيتهوفن أو سيد درويش تدمع عيناي تأثرا بفراق صديقين قديمين ما زالا يعيشان في الذاكرة.
جذبني إلى بيتهوفن إمكانية قراءة فلسفة موسيقاه والتي تقوم عليها سيمفونياته التسع؛ فالسيمفونيتان الأولى والثانية كانتا أقرب إلى موزار. ولم تظهر شخصية بيتهوفن إلا في السيمفونية الثالثة؛ سيمفونية «البطولة»، وكان قد أهداها إلى نابليون. ولما كان قد وجد أنه نصب نفسه إمبراطورا على فرنسا بعد الثورة الفرنسية فلم يعد هناك فرق بينه وبين لويس السادس عشر الذي طارت رقبته تحت المقصلة.
وكانت الحركة الثالثة في هذه السيمفونية تمثل بطلا يعيش بين جنوده؛ وهو ما جعل بعض النقاد العرب يقولون إن محمد عبد الوهاب قد قلدها في إحدى أغنياته.
وبعد أن استراح بيتهوفن في السيمفونية الرابعة، عاد وانتفض في السيمفونية الخامسة «القدر»؛ فافتتاح السيمفونية في الحركة الأولى هي دقات القدر. ويقال إن محمد عبد الوهاب قلدها أيضا في افتتاح أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات».
وبعد أن استراح بيتهوفين في السيمفونية السادسة، ألف السابعة يغني فيها للريف وجماله لدرجة أنها سميت سيمفونية الريف «الباستورال». وبعد أن استراح بيتهوفين في السيمفونية الثامنة، ألف التاسعة عن «الفرح». وختمها بأنشودة الفرح للشاعر «شيلر».
فسيمفونيات بيتهوفن مؤلفات فلسفية، وبالمثل يقال على فلسفة هيجل التي كانت أشبه بسيمفونيات بيتهوفن وقد كانا متعاصرين. فكتاب «ظاهريات الروح» سيمفونية الوعي الإنساني الذي يتطور من الحس إلى العقل إلى القلب إلى الروح المطلق.
وأظن أنني قد أحسنت الاختيار؛ فمشروع «التراث والتجديد» الفلسفي يملأ الآفاق في مصر، والوطن العربي، والعالم الإسلامي، بل وفي الغرب والشرق على السواء. تمت ترجمة أجزاء منه إلى كثير من اللغات خاصة التركية، والفارسية، والماليزية، والإندونيسية. وكتبت الدراسات عنه، وألفت الكتب حوله، واختير موضوعا لكثير من الرسائل الجامعية، وأشعر بالراحة النفسية عندما أسمع عنه وهو موضوع للمناقشة بين العلماء خاصة. وقد كتبته على ثلاثة مستويات؛ المستوى العلمي للمتخصصين، والمستوى الثقافي للمثقفين، والمستوى السياسي للجماهير.
وقد يكون أثره الآن محدودا، ولكن سيكون له أبلغ الأثر في المستقبل وعلى مجرى التاريخ، فإذا كان تاريخ الحضارة الإسلامية في مرحلتها الأولى يؤرخ بمقدمة ابن خلدون وهو يصف نشأة الحضارة الإسلامية وتطورها وانهيارها. فإن تاريخ الحضارة الإسلامية في مرحلتها الثانية يؤرخ بمشروع «التراث والتجديد»، بداية بعصر النهضة والإصلاح الديني، ثم بالثورات العسكرية، ثم بالثورات الشعبية. ومن يدري متى تكون ثورة المجتمع المدني؟
وكتاب «علم المنطق» لهيجل وتقسيماته الثلاثية تعبير عن الجدل مثل: «الوجود والماهية والصيرورة» أشبه بسيمفونية الصراع بين الخير والشر وتحولهما للمحبة والديمومة، وهكذا فعل في باقي مؤلفاته.
Page inconnue