وكانت والدتي تقوم بعمل قراقيش وتضعها في «صاجات» حيث يأخذها صبي الفران أيضا، وبعد خروجه من الفرن يأخذ صاحب الفرن من كل صاج قرقوشة بالإضافة إلى أجره، ومرة أخطأت الوالدة في عدد القراقيش في كل صاج، وظنت أن صاحب الفرن أخذ أكثر مما يستحق؛ فأرسلتني إليه لكي أبلغه، ففتح درج المكتب الذي يجلس عليه، ورأيت فيه عددا قليلا من القراقيش بدلا من النقود تساوي ثمنه، ودفع به على الأرض، كي يقول لصبيه عدوا معه؛ فأحرجت، وأحرجت والدتي، خاصة أن صاحب الفرن كان جارا لنا، يسكن في الطابق الأعلى، وكان ابنه صديقا لي، وبناته صديقات لأخواتي.
كنا نلبس الطربوش كالعادة في هذا الزمان، فنحن أفندية «صغار»، وعندما لا نجد كرة نلعب بها، كنا نلعب بالطربوش، نقذفه بأرجلنا ككرة قدم فيهترئ، وينكسر الخوص الذي بداخله، ونعود إلى المنزل خائفين، وكان الوالدان لا يستطيعان أن يشتريا طربوشا جديدا. فكانوا يأخذون القديم إلى دكان «مكوى» الطرابيش ليصححه قدر الإمكان، وينذرني الوالدان بأن هذه آخر مرة يقومون بكي الطربوش الذي كان يكلفهم أموالا. فكنت أمتنع عن اللعب به حتى لا أدخل المدرسة بغير طربوش كما هددوني بذلك.
ولما كثرت علينا المصاريف خاصة ونحن في المدرسة أو في الجامعة كانت والدتي تذهب إلى بني سويف حيث تغمزها جدتي ببعض المال. وتحزن خالتي لأن جدتي تفضل أمي عليها وتعطيها أكثر منها. كانت جدتي تقول لها: «أختك صاحبة عيال ولكن أنت لا تحتاجين.» وعلى مدى أربع سنوات، خاصة ونحن في الجامعة، كانت والدتي تذهب كل عام إلى بني سويف، كي تبيع منزلا من منازلها بمبلغ أربعمائة جنيه. وتأتي بالأموال كي نشتري البدلة والحذاء والحقيبة المدرسية الجديدة. كما كنا نطلي منزلنا من الداخل بالجير، ونشتري ما نحتاج إليه والذي لم نكن نستطيع الحصول عليه بمرتب الوالد القليل.
وبعد أن باعت والدتي منازلها كلها، طلبت جدتي من «خالتي أم عبد الله» أن تبيع منازلها وتعطي ثمنها لوالدتي لأنها أكثر احتياجا، وبالرغم من أن اسم خالتي «أم عبد الله» كانت عادة في الريف قديما، يطلقون اللقب على السيدة التي لم تتزوج ولم تنجب حتى لا تحزن وتشعر بالدونية تجاه الأم الولود.
وكانت خالتي تبيع منزلا كل عام وتعطي ثمنه لوالدتي، ولما توفيت جدتي وباعت خالتي منازلها إلا منزل جدتي عاشت فيه أولا بمفردها والمصاغ في يدها، خشينا عليها من الاعتداء والسرقة، وطلبنا منها أن تعيش معنا في القاهرة، مع أختها - والدتي - وفي حماية زوج أختها، ووسطنا. فرفضت في البداية ولكنها بعد ذلك وافقت، وأتت إلى القاهرة، وعاشت معنا في نفس المنزل في غرفة خاصة نخدمها، ونعتني بها ونسليها، فإذا غضبت منا يوما قالت: «ياللي بيعتوني بيوتي». وكان والدي يمزح معها، ويخطف طبق طعامها، وكانت هي تبصق في الطبق حتى لا يستطيع أحد أن يأكل منه بعدها.
ولما توفيت دفنت في مقبرة العائلة التي كان اشتراها والدي في منطقة البساتين وكانت خالتي أول من دخلها.
وكانت خالتي دائما ما تتهم بأنها تفضلني على أخي، وأنها تعطيني، سرا، بعض المال ولا تعطيه هو. ولما عاتبها والدي ووالدتي قالت: «أتيت للقاهرة لأكون بجوار أختي التي أوشكت على الولادة، ولما تأخرت عدت إلى بني سويف وبمجرد أن دخلت إلى المنزل وجدت خبرا؛ تعالي بسرعة أختك بتولد؛ فركبت القطار من جديد وعدت إلى القاهرة.» وكانت بجوار أمي وهي تلدني، لذلك سموني «حسن». فكانت خالتي تشعر دائما بأنني ولدها وأن لا ولد لها غيري.
فكانت والدتي حين تشعر بضيق ذات اليد وليس هناك إمكانية الذهاب إلى بني سويف، وكان لها خال والدتها، تاجر جلود في «الصنادقية» وهو شارع متفرع من آخر شارع المعز لدين الله الفاطمي، بالقرب من جامع ابن طولون؛ كانت ترسلني إليه لنقترض منه بعض الجنيهات لا أظنها كانت تزيد عن الاثنين أو الثلاثة جنيهات، فكنت أذهب إليه في محله وهو جالس ينتظر الزبائن من تجار الأحذية والصناعات الجلدية الأخرى. وكانت شخصيته جادة أقرب إلى العبوس منه إلى الابتسام، وكنت أسأله ما كلفتني به الوالدة، فكان يدخل يده في جيبه ويعطيني ما أطلب، ولما تكرر الاقتراض منه مع أننا كنا نرجع ما اقترضناه في ظرف شهر على الأكثر عندما يستلم والدي مرتبه؛ كان يعطيني ويقول لي أو في نفسه «دي فلوس ناس» أي رأس المال الذي يتاجر به حيث يبيع الجلود وبثمنها يشتري أخرى جديدة، والفرق بين البيع والشراء كان ضئيلا يكفيه بالكاد هو وأسرته، وكانت له بنتان جميلتان على «وش جواز».
وكانت والدتي لا تقترض أبدا من الجيران؛ حفاظا على كرامتها وكرامتنا. مع أنهم كانوا ميسوري الحال. ومع ذلك كان لدينا مصروف يومي وهو أجرة الأتوبيس للجامعة ذهابا وإيابا، وكان المبنى الثاني للكلية الذي به قسم التاريخ الآن وقسم اللغة الإنجليزية، كان بوفيه للطلاب، والذي كان ثمن الوجبات زهيدا فيه، الوجبة بسبعة قروش ونصف، وتسمى «وجبة العميد». والمشروب كان بقرش واحد، وبعد تحول هذا المبنى إلى قاعات للدرس لقسمي اللغة الإنجليزية والتاريخ، تحول البوفيه إلى عربات للمأكولات والمشروبات حول مباني الكلية وطرقاتها.
ولما كانت الوالدة تذهب إلى بني سويف كي تزور جدتي وخالتي، وكانت شقيقاتي يدرسن بمدارس المعلمات، وكان والدي يعمل في الجيش، كان أخي الكبير يقوم بدوره في رعايتنا وأثناء سفر أمي.
Page inconnue