وكنت قد تعلمت وأنا في الثانية الثانوية بعد البلوغ وبطريقة تلقائية عندما احتك القضيب بفخذي فقذف، وبلل البنطلون، وشعرت بلذة فائقة. وما جاء مصادفة تحول إلى فعل قصدي طوال مرحلة الثانوية، ثم قرأت بعد ذلك عن عيوبها، وتوقف بعد مغادرتي إلى فرنسا بأربع سنوات عام 1961م عندما أدركت أن العمل الطبيعي أفضل من العمل الصناعي؛ فالعمل الطبيعي به أنس وضحك وتعرف على الآخر، في حين أن العمل الاصطناعي خوف ووحدة وتأنيب ضمير.
وكان العمل السياسي ما زال مستمرا؛ فقد كانت الأربعينيات هي الثورة الوطنية ضد القصر والإنجليز. وكان الأستاذ علاء مدرس الرياضة البدنية في حيرة من أمره مع الطلاب في المظاهرة أم مع النظام المدرسي والدفاع عنه؟ كان في مصر في ذلك الوقت أربعة تيارات رئيسية: الأول، الوفد وهو التيار الرئيسي الأول، وكان يقود المظاهرات. وكان اليسار الوفدي قد بدأ في الظهور وبه مصطفى موسى الذي كان يسير في شوارع باب الشعرية يسلم على الناس في انتخابات عام 1951م، وهذا ما فعله معي وأنا سائر على الرصيف، وتساءلت: هل لي هذه الأهمية الكبيرة؟ وهو ما يحدث حتى الآن من المرشحين بالإعلان عن ذلك تأييدا لهم. الثاني، الإخوان المسلمون بشعار «الله أكبر ولله الحمد». والثالث، مصر الفتاة وكان متهما بإقصاء خصومه السياسيين عن الحكم. والرابع «حدتو» وهو اختصار للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني شبه الماركسي الذي كانت تحية كاريوكا عضوا فيه. وكان الطلبة لا يحبون الوفد لأنه حزب القصور والباشوات والتخلي عن ثورة 1919م وحادثة 4 فبراير، ولا يقدرون قيمة أحمد حسين ومصر الفتاة، ويخافون العنف والأعمال السرية، وكانوا تحت الفكرة الشائعة بأن الماركسية مادية وإلحاد، ولا تتفق مع المجتمع المصري، فلم يبق لديهم إلا الإخوان المسلمون، فانضموا تحت لوائهم، واستمعوا لنداءاتهم في المظاهرات. وفي باب الشعرية كان هناك سيد جلال مرشحا في انتخابات 1951م، بنى مستشفى باسمه، ولم يكن وفديا بل كان سعديا - على ما أذكر - مناهضا للوفد، فكنت في صراع أكون مع من ضد من؟ ولماذا عارض السعديون الوفد؟ هل صراع على السلطة؟ وما عيب يسار الوفد؟ ولم تكن فكرة الائتلاف قد بزغت بعد. وهنا ظهر الإخوان المسلمون وكأنهم المظلة الوحيدة للعمل السياسي دون علم بالخبايا والصراعات الداخلية والتنظيم السري ومقتل السيد فايز، وكنا نسمع عنه أنه كان يمثل يسار الإخوان أو على الأقل المعارضة العاقلة بوضع قنبلة على نافذته.
وفي عام 1951م ونحن على مشارف الإخوان بدأت حرب الفدائيين في قناة السويس، وتعرف الإخوان على كمال الدين رفعت الذي كان يقود حرب الفدائيين، وكان من الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة 1952م، وكان الشهداء ينقلون من الإسماعيلية للصلاة عليهم في جامع الكخية بميدان الأوبرا، وكان إخوان مدرسة خليل أغا يقودون المسيرة بلباسهم الكاكي والعصا وراء ظهورهم تشبيها بالسلاح. وكنت أسمع الناس يهتفون على الجانبين «حماكم الله»، «حرسكم الله»، فكان ذلك امتدادا للتعاون بين الإخوان والثورة منذ 1948م في فلسطين؛ فليست العلاقة بين الاثنين صفحة سوداء دائما. وكان عمري وقتئذ ستة عشر عاما، وكان المقاتلون أنفسهم لا يظهرون، ولم يكن الضباط الأحرار معروفين في ذلك الوقت. ونمت في روح الوطنية استمرارا للاشتراك - وأنا بمدرسة السلحدار الابتدائية - في مظاهرات جامعة القاهرة مع لجنة الطلبة والعمال عام 1946م. وفي يناير 1951م وقع حريق القاهرة، ولم أكن أفهم معنى الحدث، لماذا؟ وما الهدف؟ هل ثورة أم فوضى كما يقال الآن؟ هل نضال وطني أم «انتفاضة حرامية» كما وصفت - فيما بعد بربع قرن - انتفاضة يناير 1977م ضد غلاء الأسعار؟ هل لإقالة حكومة الوفد التي تناضل ضد القصر والإنجليز، من تدبير القصر والمعارضة؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت كي أراها، ولكني نزلت شارع الجيش حتى ميدان الأوبرا سيرا على الأقدام؛ فقد تعطلت المواصلات، ورأيت فندق الكونتننتال وهو يحترق، والناس تجري، معظمهم بجلابيب، وتساءلت: شعب أم لصوص؟ مع الشعب أم ضده؟ ولم أكن أفهم في التحليل السياسي كما يحدث الآن.
وفي صيف 1952م في 23 يوليو انقلبت الموازين، واندلعت الثورة المصرية، وكنا في بداية الصيف. وظهر لنا محمد نجيب زعيما وطنيا مصريا سودانيا، وحوله مجموعة من الضباط الأحرار، فانتهت الحيرة بين التيارات السياسية الأربعة، وانضم الجميع تقريبا إلى الثورة خاصة وأن بياناتها الأولى تتحدث عن القضاء على الاستعمار والإقطاع والملكية والتحقيق في اغتيال حسن البنا، وإعداد جيش قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، فانضم الجميع إليها. وكان خطابه الأخير يتحدث عن وحدة الأمة الإسلامية وليس فقط وحدة مصر والسودان. وكان الإخوان مع الثورة في البداية لأنها أبقت عليهم، ولم تحلهم كما حلت باقي الأحزاب خاصة الوفد حتى لا يكون خصما للثورة المباركة. وجاء نجيب إلى جامعة القاهرة، وألقى خطابا دعا فيه إلى الوحدة الإسلامية الجامعة، فضجت القاعة بالتهليل والتكبير. وكان بجواره أو وراءه قليلا ضابط واضع يديه على صدره، وهو يرى هذا المنظر ولا يشارك في الإعجاب أو التصفيق أو يحيي الطلاب، عرفنا بعده أنه عبد الناصر الذي استطاع تصفية معارضيه من الضباط الأحرار، بما فيهم الإخوان، مع أنه كان قد جعل رشاد مهنا، وهو من الإخوان، وصيا على العرش. وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة اثني عشر، نصفهم من الإخوان مثل كمال الدين حسين الذي عين وزيرا للتربية والتعليم وصاحب شعار «مدرستان في يوم واحد»، ثم استقال عندما وجد عبد الناصر ينفرد بالحكم. وجاءت مأساة 1954م، واتهام الإخوان بمحاولة اغتيال عبد الناصر بعد أن أطلق أحد أعضائهم في شعبة إمبابة النار عليه وهو يخطب في المنشية متطوعا بنفسه دون أخذ أمر مباشر من مرشد الجماعة حسن الهضيبي والذي كان ضد استعمال العنف، فحلت الجماعة، وفك التنظيم السري لعبد الرحمن السندي، وقبض على معظم قيادات الإخوان بمن فيهم المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد وسيد قطب، وحوكموا أمام محكمة الثورة، وهي محكمة عسكرية، إما بالإعدام مثل المفكر القانوني المستشار عبد القادر عودة صاحب «التشريع الجنائي الإسلامي»، وكانت كل جريمته أنه استقبل المتظاهرين في ميدان عابدين، ورفع قميصين ملطخين بالدماء تنديدا بهذا الفعل الوحشي. وكان حسن الشافعي أحد أعضائها وبرياسة جمال سالم، وما زال الشافعي يتهرب من هذه الذكريات الأليمة. وفي السنة الثانية شاركت في مظاهرات 1954م بعد أن كان عبد الناصر قد وقع مع بريطانيا اتفاقية الجلاء التي تخرج بريطانيا طبقا لها من قاعدة التل الكبير ومن منطقة القناة، وتجلي معسكرها الأحمر على ضفاف النيل مكان الجامعة العربية حاليا، ولكنها تسمح بالعودة إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى»، خطوة إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف. وما زلت أذكر الشهيد عبد القادر عودة وهو يهز قميصا ملطخا بالدماء من شرفة عابدين قائلا إن هذه هي أخلاقهم. كنا نهتف في المظاهرات: «يا جمال للصبر حدود.» وأتذكر أغنية أم كلثوم «للصبر حدود»، وفيما بعد قرأت آية
فما أصبرهم على النار . وكان هذا هو أحد الدوافع التي جعلتني أتحدث عن ذلك في «من الفناء إلى البقاء». وقد اختفيت في فندق سيمراميس الذي كان يطل على ميدان التحرير الذي كان قبل الثورة يسمى ميدان الإسماعيلية نسبة إلى الخديوي إسماعيل في القاهرة الخديوية، وسط البلد. وفرحنا بالثورة وبقوانين الإصلاح الزراعي، والقضاء على الإقطاع، وتحرير الفلاح، وإعطاء كل فلاح خمسة فدادين ملكا له والقضاء على الملكيات الكبيرة وأولها أراضي القصر وأبعديات الباشوات التي كان يسير فيها القطار بالساعات، مجتمع النصف في المائة. وكان القصد ليس فقط تميلك الفلاح الأرض بل تحرير الفلاح من عبوديته للباشا والملك عن طريق ملكية الأرض. فإذا قيل لقد تفتت الملكية وأصبح من الصعب «ميكنة» الزراعة قيل إن هناك الجمعيات التعاونية التي نشأت من أجل ذلك. وقررنا أنا وبعض الأصدقاء: عبد المحسن حسين عبد الله الذي أصبح طبيب عظام وزوجا لأختي علية، محمد وهبي عبد العزيز صديق العمر من الجامعة العربية، العطار أستاذ الرياضة البدنية، فيما بعد، الذهاب من القاهرة إلى الإسكندرية سيرا على الأقدام، نرى الريف قاع المجتمع، والفلاح عماده. واتفقنا على أن المبيت في مقار هيئة التحرير، التنظيم السياسي الجديد للثورة والذي طلب عبد الناصر من سيد قطب أن يرأسه فرفض. وأخذ كل منا حقيبة صغيرة فوق ظهره، وكانت أول محطة بنها، وسألنا عن مقر هيئة التحرير، فأشاروا إلى بدروم عليه يافطة «هيئة التحرير » تحوط به المياه الطافحة، حتى جاء رجل، وحسب أننا من الحكومة فارتعد، وطمأناه أننا لسنا من الحكومة بل طالبو معرفة بأحوال الريف حبا في الثورة، ونمنا الليلة على الأرض، ولم نجد أحدا نحادثه أو نسأله عن شعور الفلاحين بعد الثورة. وفي الصباح استأنفنا السير حتى طنطا، وسألنا نفس الشيء: أين مقر هيئة التحرير؟ فأشاروا علينا بدور أول في مبنى فارغ ليس به أحد إلا اليافطة. واستأنفنا السير في اليوم الثالث من طنطا إلى كفر الزيات، وهنا أشاروا علينا بمصنع زيت وصاحبه بلا يافطة. ولما ظن أننا من الثوار انتابه الفزع والفرح في آن واحد، وأمر بالكباب، وكان يسمى ناشد، وطلب منا أن نستريح ليلة لديه بدلا من الاستئناف إلى كفر الدوار ثم إلى دمنهور، فوافقنا لإجهادنا، وقلنا له إننا سنخطر القيادة في مصر بحسن الاستقبال حتى تتأكد رياسته لهيئة التحرير، ثم صعوده بعد ذلك إلى أعلى سياسيا. واستأنفنا السير إلى دمنهور، وهناك أحسسنا بالتعب بالفعل، وبدأت أقدامنا تلتهب، ومع ذلك وصلنا إلى الإسكندرية، وذهبنا إلى هيئة التحرير في ميدان المنشية، فوجدنا أخا عبد الحكيم عامر، فرحب بنا، وتركنا ننام في شرفة ميدان المنشية الذي تمت فيه محاولة اغتيال عبد الناصر. وبعد الاستراحة عدة أيام، أخذنا القطار عائدين إلى القاهرة، وكانت ذكرى علاقة التنظيم السياسي الذي لا وجود له بالشعب الذي لا يعرف عن هيئة التحرير شيئا، والدولة التي لا تعبأ بشيء. وعلمنا في هذه السن المبكرة أنه لا يمكن بناء تنظيم سياسي من فوق على عكس الإخوان أو حتى قيام نخبة عسكرية بالثورة.
وكنت أذهب إلى شعبة الإخوان بباب الشعرية مساء بين الحين والآخر، ثم تعلمت كيف أذهب إلى المركز العام بالحلمية الذي أصبح الآن قسم الدرب الأحمر. وهناك تعرفت على سيد قطب وسألته أنني أريد أن أحول الإسلام إلى منهاج إسلامي عام، فنصحني بقراءة أبا الأعلى المودودي. وتعرفت أيضا على علال الفاسي الزعيم والمفكر المغربي، وسمعته بلهجته المغربية، ورأيته بلباسه المغربي. وكانت المحاضرة الأسبوعية كل يوم ثلاثاء، وكنت صغيرا ، وكانوا كبارا. وكنت وأنا ذاهب إلى الشعبة بباب الشعرية أحمل كماني معي فيقول لي أحد الإخوة: ألا تعلم يا أخ حسن أن الموسيقى حرام؟ كيف حرام وهناك موسيقى القرآن؟ وقد استقبل الأنصار المهاجرين بالدفوف والغناء كما حفظنا ونحن صغار، وكما ينشد في الأفلام المصرية:
طلع البدر علينا
من ثنايات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
Page inconnue