وكانت أقرب إلى عدم الأمانة المطلقة سيدة أبهرتنا بعملها وبنظافتها ومهارتها في الطبخ. ولم نكن نعلم أن هذا مجرد غطاء لإخفاء جوهرها الحقيقي. أخذت يوما ظرفا به بضع مئات من الدولارات، كان قد أحضرها مندوب جريدة الخليج مكافأة لمقال نشرته، وتركت زوجتي المظروف على حافة الأريكة بعد استلامه؛ لنجده وقد اختفى. وعندما سافرت معي إلى عمان، كان في جيبي أيضا ظرف آخر به مئات الدولارات لم أجده صباحا. وعندما أتت معي مرة أخرى في زيارة للخليج لحضور المائدة المستديرة لكتاب الاتحاد. أعطي لكل باحث جهاز حاسب آلي «لاب توب» وكان به الأبحاث التي سنناقشها في المائدة. أخذت جهازي وأخذت هي جهازا لها دون أن تستشيرني أو تستشير القائمين على الندوة. ولما عدنا إلى القاهرة أعطيت لزوجتي جهازي لأنها تستطيع التعامل معه أكثر مني. فوضعته زوجتي بين كومة الجرائد الأسبوعية التي احتفظت لي بها لأقرأها بعد عودتي من السفر. بحثت عن جهازي فلم أجده. فلما سألت المساعدة عنه، قالت إنها أخذته لأولادها؛ فأصبح معها جهازان، وكانت تسير في ردهات وطرقات الفندق في عمان كما تسير الملكة علياء؛ تضع على وجهها مساحيق التجميل، وترتدي أحدث الأزياء، وزوجا من الأحذية ذات الكعب العالي، فتصبح محط أنظار وإعجاب الجميع، وكنت أخجل أن أقول هذه مساعدتي؛ فقد يذهب الخيال إلى ما هو أبعد. كانت تقف على سلم الفندق في وضع وكأنها مستعدة للتصوير، لا فرق عندها بين المثقف المصري أو الأردني الذين يحضرون المؤتمر؛ فبالنسبة إليها كلهم رجال. وعندما عدنا إلى القاهرة اكتشفت زوجتي ضياع مبلغ من المال؛ فصرفناها من العمل بالمنزل. وكنت في مرة قد اصطحبتها معي إلى البنك فأخذت تنظر للأوراق بتمعن لتعرف كم هي المبالغ الموجودة بالضبط. وفي مرة أخرى ذهبنا لبنك آخر، كنت قد صرفت مبلغ ثلاثين ألف جنيه، وبينما أستلم المال سمعتها تبكي فسألتها لماذا تبكي، قالت: «إن أمها تحتاج المال، وإن أمها بالمستشفى تجرى لها عملية جراحية خطيرة في المخ، وإنها ربما تتوفى لو لم نعط لهم أجرهم.» تصورت نفسي مسئولا عن وفاة الأم لو لم أساعدها. فتبرعت لها بالمبلغ كله ورجعنا إلى المنزل وسافرت هي إلى البلدة التي كانت تعيش بها. وقبل أن تغادر كتبت إيصال أمانة على نفسها في حال لو لم ترد المبلغ. كنت أثق بها كثيرا فأخذت منها الورقة ومزقتها. كنت أومن أن مساعدة المحتاج لا تحتاج إلى وثيقة لإثباتها.
وبعد عدة شهور اتصل بنا قسم الشرطة في الصاغة بالأزهر وأخبرنا أنه تم القبض على سيدة تحاول بيع بعض المصوغات وتقول إنها تعرفكم، ووجدنا رقم هاتفكم في الموبايل الخاص بها، فأخبرت الضابط بأنها بالفعل كانت تعمل عندنا وصرفناها لسرقاتها، وعلمنا فيما بعد أن تهمة السرقة قد ثبتت عليها وأنها حوكمت بالسجن عدة أشهر.
وبعد مدة اتصلت بنا ذات مرة تلفونيا لتخبرنا أنها هاجرت إلى أمريكا، وتزوجت من أمريكي، وأقام لها مصنعا لبيع المنسوجات الشرقية. ويبدو أنها أرادت أن تقول لنا بشكل غير مباشر إن «الشغالة» التي كانت تعمل عندكم ذات يوم أصبحت الآن سيدة أعمال، تعيش في أمريكا ولا حاجة بها للعمل كشغالة مرة أخرى. وقد تكون الآن مليونيرة ومن سيدات الأعمال.
وبين القطبين المطلقين والنسبيين كانت هناك مساعدات المنزل اللواتي إما تكذب الكذبة بقول روايات غير صحيحة وتطلب بعض المال لعرض الملابس المستعملة للبيع، أو في رواية أخرى لها اقترضت مالا لتقيم «نصبة» للشاي والقهوة في آخر خط المواصلات للسائقين والمحصلين والمارة من العمال. ثم اكتشفنا بعد ذلك أنها لم تقم بالمال المقترض معرضا للملابس المستعملة ولا منصة للشاي والقهوة. ومرة أخرى غابت عدة أيام وطلبت إجازة بسبب وفاة والدها، واتضح بعد ذلك أنه غير صحيح. وفي أول عهدها بالعمل في المنزل، أخبرتنا أن هناك سائقا يريد الزواج منها، فرحبنا بذلك، ولكنها كانت متزوجة بالفعل ولم تطلق بعد، قلنا هذه جريمة تستحقين السجن عليها، فكيف يكون لك زوجان في نفس الوقت؟ وطلبت مني المساعدة أن نقنع زوجها ليطلقها رسميا حتى تستطيع أن تتزوج للمرة الثانية. واستطعنا ذلك، فعادت إلى المنزل ومعها ورقة الطلاق. ثم اختفى السائق الذي وعدها بالزواج. ولكنها على الأقل استطاعت أن تنال حريتها حتى وإن لم تتزوج ثانية. كانت ذات مرة تشتري لنا مواد غذائية من البقال بجوار البيت والذي كان يعرفني فقال لي إنه أمسك بها تحاول سرقة شيء ما من المحل، وحين قالت إنها تعمل عندي أطلق سراحها. وكانت زوجتي قد تعبت من كذبها المستمر وعدم خبرتها بأعمال المنزل فصرفناها. سمعنا بعد ذلك أنها تزوجت من عامل، وكانت وقتها تعمل في جمع صناديق القمامة وفرزها وتصنيفها، بين الزجاج والعلب الصفيح وأوراق الكرتون في حقائب، والقيام ببيعها لمصانع تدوير القمامة، وكانت تكسب في اليوم الواحد حوالي خمسين جنيها، وتترك أولادها مع والدها. ولما أصبح زوجها عاطلا عمل مع زوجته في جمع القمامة، وأصبحت موظفة في شركة تقوم بمثل هذا العمل. بعدها تأتي في الأعياد بدعوى تهنئتي، فلقد قضت معنا ما يقرب من الثماني سنوات فنعطيها العيدية لها ولأولادها.
وكانت هناك مساعدة أخرى لم تقم طويلا معنا. وكنا نسمع حركتها في الفجر تقلب أواني المطبخ. ظننا أنها ربما تعد شيئا لها تشربه في الصباح الباكر، ولكننا اكتشفنا بعد ذلك أنها تخرج الأواني واحدة تلو الأخرى لزوجها لسرقتها، فتم ضبطها، وصرفناها رغم أنها أبهرتنا بتنظيف المشربيات بعد أن فتحتها ومسحت الأتربة العالقة بين مربعاتها الصغيرة.
ثم جاءت بعدها سيدة قصيرة مطلقة، وبينما كانت تساعدني على الاغتسال والاستحمام مرة انزلقت من حافة «البانيو» ووقعت داخله ووقعت هي أيضا بعد أن دفعت قدماي ساقيها، لا أتذكر لماذا غادرتنا بعد وقت قصير؟
وكان لدينا مساعدة مصرية في شئون المنزل، كانت جدة ريفية. وبينما نحن في الساحل الشمالي تعاركت مع ممرضي المرافق الأول، ويبدو أنها سبته هو وعائلته، فأصر على أن تغادر هي أو يغادر هو؛ إذ لا يستطيع البقاء معها في نفس العمل. فصرفناها، ثم عادت واتصلت بنا عدة مرات ولم نرد؛ فسألت البواب وأخبرها أننا أحضرنا أخرى غيرها.
ثم أتت سيدة أخرى، كانت كفاءتها في المطبخ أكثر منها في التنظيف. كانت تعمل لدينا في الصيف لأنها كانت تعمل كمدرسة رسم في إحدى المدارس الخاصة، ولما لم يتجدد عقدها في المدرسة، طلبت أن تستمر معنا في العمل كمساعدة منزل. كانت أكثر المساعدات جمالا وشبابا وعناية بنفسها. ويبدو أن المدرسة التي كانت تعمل بها جددت لها العمل؛ فاعتذرت عن الاستمرار في العمل عندنا، فحزنا عليها كلنا خاصة رجال المنزل.
ومرة أخيرة أتت جدة شابة تعمل كمساعدة خاصة لزوجتي، كانت لا تجيد أعمال الطبخ أو التنظيف، طبخت الملوخية ونسيت أن تضع فيها «التقلية»، وفي الصباح قدمت الفطير عجينا نيئا. وعندما سألت ممرضي ومرافقي الدائم عن شيء لم يسمعها، فقال: «نعم!» قالت: «نعامة ترفسك.» غضب وأصر على أن تغادر السيدة المنزل. قالت وهي تقدم نفسها إنها تحب «تعامل باحترام» وإنها خدمت أسرة لمدة ثمانية عشر عاما. فعجبنا كيف أن طبيخها بهذه الرداءة؟ وكيف أنها بعد يومين سبت الممرض؟ ولم تعرف الأسرة ماذا تفعل. وكنت حريصا على الممرض المرافق الذي خدم عندي أكثر من أربع سنوات ولا أستطيع أن أضحي به من أجل مساعدة لم تقض معنا سوى يومين. نكتشف كل يوم منها أنها بلا كفاءة في الطبخ أو أدب في الحديث فنصحت الأسرة بصرفها.
ونرجو أن يكون ذلك آخر تغيير في المساعدين والمساعدات، بعد أن اطمأننا إلى من عندنا بما لديهم من كفاءة وأمانة.
Page inconnue