تذكرت ذات: «فعلا .. لما كنا نتكلم في موضوع البياض كان يتحسس المقاعد والسفرة والثلاجة».
أبدى عبد المجيد ضبطا رائعا للنفس أمام نظرات ذات الشامتة (ألم أقل لك؟) ودهاء بالغا إزاء توقعات عم محروس، فأكد له أنه سيستعين بخبرته عندما يشرع في البياض، لكنه بدأ في اليوم التالي مباشرة البحث عن سباك صادق وأمين، يأخذ الآلاف الخمسة، وشاركته ذات البحث، حتى حالفهما الحظ، وعثرا على واحد، وإن كان من تخصص مختلف بعض الشيء.
فقد ذهبت ذات إلى طبيب الجريدة تشكو من سعال مزمن، فنصحها بأن تعرض نفسها على جراح متخصص «من باب الاطمئنان». وفي المساء ذهبت مع عبد المجيد إلى ميدان الجامع لشراء حذاء، وأثناء عبور الشارع بالقرب من ميدان صلاح الدين لمحت مبنى حديث البناء من طابق واحد مقسم إلى عيادات طبية في مختلف التخصصات، حملت إحداها اسم جراح مشهور طالما لهج أبوها بذكره.
صعدا إلى عيادة ما زال العمل يجري في دهان جدرانها، لكن الطبيب رحب بالكشف عليها، معترفا بأنه ليس هو الجراح الشهير، وإنما قريب له من بعيد.
خضعت ذات لكشف دقيق ومستفيض لدرجة أثارت شكوكها؛ إذ ظل الطبيب يتحسس ثدييها ويضغط عليهما إلى أعلى وإلى أسفل ويعتصرهما ويفعص حلمتيهما. كان واقفا أمامها ورأسها في مستوى بطنه، وقاومت أن تهبط بعينيها إلى أسفل لتحسم الشك، وحسم هو الأمر عندما هز رأسه في وجوم، ثم أعلن لها أن العناية الإلهية ساقتها إليه في الوقت المناسب (له بالطبع)، وأنه سينتظرها في الصباح ليستأصل أحد ثدييها في محاولة لإنقاذ حياتها.
لم تضمن ذات برنامج البث المسائي المشترك مع سميحة شيئا عن زيارتها للطبيب؛ لأن سميحة سبق أن أعربت، مرارا، عن إعجابها بثديي ذات المتكورين وأسفها لأن ثدييها هي لم يتجاوزا حجم الليمون؛ وبهذا لم تدرك فداحة الكارثة إلا عندما لجأت إلى الفراش، فانهمرت دموعها، وشاركها عبد المجيد البكاء (لأول مرة منذ ليلة الدخلة)؛ ذلك أنه لم يفقد حرصه على سلامة البضاعة، بالرغم من أن سنوات الحياة المشتركة قد ارتقت بها إلى مستوى إنساني.
من هذا المنطلق (سلامة البضاعة) رفض عبد المجيد اقتراح الاستئصال، ولم تتقبله ذات بالمثل، فرغم عدم استخدام الثديين بالكثرة الملائمة (الرضاعة بكافة أشكالها)، فإنهما كانا جزءا من صورتها الخارجية، ومن جهاز لم ينته بعد عمره الافتراضي. هكذا توصل الاثنان في الصباح إلى قرار حاسم؛ لا عملية.
بدأت رحلة التفعيص على أيدي كبار الأطباء (لا في الثديين وحدهما) بعد الانتظار عدة ساعات تحت الإشراف الصارم لعدسات الفيديو، في قاعات مكيفة، مكتظة بخليط من بنات العائلات والبيروقراطيين والسباكين؛ أي بخلاصة الكريمة، ومزينة بالآيات القرآنية والصور الفوتوغرافية المكبرة للقطب الشمالي، واللوحة الروسية للطفل الباكي، والشهادات الأجنبية بالعالمية التي لا تشهد في الحقيقة على أكثر من الاشتراك في المؤتمرات (التي تنظمها شركات الأدوية لترويج بضاعتها).
تضمنت الرحلة الكابوسية زيارات لأماكن عديدة متباعدة لأسمائها رنين يبعث على الرهبة؛ مستشفى المعادي العسكري حيث رآها طبيب أمريكي من تكساس، عجز عن القطع برأي في شأنها، فنصحها بالاستئصال قائلا إنه أصبح في أمريكا إجراء عاديا مثل استئصال اللوزتين «أو النتوء إياه عندكم». ومستشفى عين شمس التخصصي حيث ذهبت لعمل الأشعة وجلست تنتظر دورها برفقة الفنيين إلى أن تذكر أحدهم المريض الراقد تحت الكاميرا فهرع إليه وهو يردد: «ربنا يستر. مفيش حاجة إن شاء الله.» وعندما استدعوها توسلت إليهم ألا ينسوها تحت الكاميرا، واعترضت على المحقن المستعمل الذي أرادوا ضخ المادة الملونة به في أوردتها، وعلى الملاءة القذرة التي بسطوها لها، فتوسلوا هم إليها: «سلمي أمرك لله سبحانه وتعالى.»
هكذا فعلت هي وعبد المجيد الذي عرف هو الآخر طريق الله، فبدأ يصلي بانتظام، لا من أجل خلاصها، وإنما من أجل خلاصه هو؛ ففي الركن الجنوبي الغربي من رأسه الأصلع، تجمعت خيالات غامضة، احتلت فيها امرأة أخرى أكثر قابلية لفنون الرضاعة المختلفة، مكان ذات التي أصبح اختفاؤها متوقعا، الأمر الذي كان يدفعه إلى الاستماتة في الدعوة لها بالشفاء، واللهاث وراء أنباء الاكتشافات الجديدة، ومعجزة الفليبيني الذي يستخرج الورم بيديه دون جراحة، وقصص الذين نجوا، والذين لم ينجوا.
Page inconnue