تعودت ذات أن تحمل في حقيبة يدها منديلا صغيرا من القماش المطرز الحواف، تمسكه في يدها عندما تعرق، أو ترتبك، وتمسح بطرفه ما قد يتجمع في ركني عينيها من إفرازات، أو يسيل حولهما من كحل في الأيام الحارة. وقد ظلت متمسكة بهذه المناديل الصغيرة رغم انتشار بدائلها الورقية؛ إذ كانت عاجزة عن تمثل نفسها في صورة أخرى غير السيدة ذات المنديل القطني الصغير، لكنها اضطرت أخيرا أن تحني رأسها أمام زحف الحضارة، عندما عجزت المناديل التراثية عن مواكبة غددها الدمعية، فملأت حقيبة يدها بكتل من البدائل الحديثة، واحتفظت بعلبة كاملة منها في درج مكتبها. وبهذا صار في إمكانها أن تتخلص سريعا من أية إفرازات غير مناسبة؛ لتنكب على لصق وتضبير القصاصات التي يختارها الرئيس في الأيام التي يتصادف وجوده فيها (لأن موسوعته على عكس أمينوفيس تتطلب الحركة)، وعلى تصفح مصادرها الأصلية التي تتراكم في الأركان قبل أن تباع بالكيلو؛ صحف ومجلات لا حصر لها. استجابت للضيق الشائع بالخطاب السياسي الفارغ وبالشعارات الطنانة، فقدمت خدمة صحفية جديدة بالمرة، احتل فيها النبأ الخاص بأن الأرز ليس مسئولا عن البدانة، مكان المانشيت القديم الممل عن الاعتداءات الإسرائيلية، أو المرحلة الجديدة (دائما جديدة) التي تواجه العمل القومي. وبمرور الوقت بدأت تشارك في جلسات الأكل والبث، التي تلقت خلالها فيضا من المعارف المفيدة، فماذا قدمت هي؟
ذات الطيبة لم تكن تملك غير براعتها في التنظيم والإدارة التي اكتسبتها على يد الأم الصارمة؛ فهي تحتفظ في الفريزر بكمية من البصل المبشور والثوم المهروس، وفي الثلاجة بنحو كيلو ونصف من اللحم المسلوق، وصلصة مطهية. وقبل النوم تعكف على تنظيف الخضراوات وهي تتفرج على التليفزيون، ثم تغسلها وتودعها الثلاجة. وفي الصباح تخرجها وتتركها على طاولة المطبخ (الفورمايكا)، وبهذا يكون كل شيء معدا عندما تعود من العمل بعد الظهر، بحيث يجري إعداد وجبة تكفي يومين أو ثلاثة، بينما تقوم بغسيل الأطباق والأكواب المتخلفة من الإفطار، ولم الأشياء التي تبعثرت في الصباح (قميص نوم دعاء، وجورب متعفن لعبد المجيد)، ونقع الملابس المتسخة في المياه استعدادا لتشغيل الغسالة بعد الظهر. وفي المساء تقوم بتنقية الأرز أمام التليفزيون، وتغسله في الصباح وتطهوه عند عودتها من العمل، وبهذا يتوفر لها الوقت في اليوم الثالث لإعداد طبق إضافي أو بعض الحلوى (كريم كرامل أو جيلي) أو ترتيب دولاب الملابس، أو تنظيف دواليب المطبخ، أو رتق الجوارب وتثبيت الزراير، أو، أو، إلى آخر أعمال البيت التي لا تنتهي.
تتميز ماكينات الأرشيف بالشراهة؛ ولهذا فخبرة مثل هذه لا تصلح إلا لمرة بث واحدة، تحول اهتمام الماكينات بعدها إلى قنوات أكثر إثارة، فتورطت ذات في سباق لم تكن مؤهلة له؛ جربت ما يحدث لها في يومها فألفته تافها غير جدير بالماكينات الجليلة، وحفظت عن ظهر قلب نكات دعاء وزينب وعفاف وهناء، فوجدت أنها تنساها بمجرد أن تدخل القاعة وتتجه إلى مقعدها (بخطوات متعثرة ووجه مذعور) وسط خطوط البث المتشابكة، واستعانت بأحد أفلام عبد المجيد (الذي تعرض فيه لتهديد ثلاثة من اللصوص المسلحين بالمدى، فلكم أحدهم بيده اليمنى، والثاني بساقه اليسرى، ونال الثالث بضربة قاضية من مقدمة رأسه)، فارتفعت الحواجب ومصمصت الشفاه.
هل تسرب إليها اليأس؟ أبدا؛ فما إن تنتهي من ذرف الدموع المناسبة، حتى تحاول من جديد.
2
إضافة اسم
أنور السادات
إلى النصب التذكاري الذي أقامته إسرائيل باسم «ضحايا حرب الظلام والصمت».
جريدة
الأخبار
Page inconnue