ولما صارت نيابة دمشق إلى يلبغا الناصري استقدم يلبغا إليه الأمير فخر الدين عثمان وبعضا من ذوي قرباه، ثم جرت موقعة مع منطاش قتل فيها الأمير شجاع الدين عبد الرحمن بن إسماعيل وبعض من أصحاب الأمير فخر الدين عثمان، ثم توفي هذا الأمير في سنة 1393 غير متجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكان شاعرا مجيدا عزيز النفس بعيد الهمة. ولما كانت السنة 1424 سير الملك برسباي أسطولا إلى قبرص يريد فتحها، وأمر أمراء الغرب أن تسير مع جماعة الأسطول فسار الأمير صالح بن يحيى بن صالح بن الحسين بن خضر في مائة رجل؛ فنزلت العساكر في بر الماغوصة، وأتت فيه ما أتت من سبي ونهب، ثم حدثت مواقع بينهم وبين الإفرنج في البر والبحر، وكان الفوز فيها لعساكر الملك؛ فأسرت هذه العساكر سبعمائة أسير، وغنمت شيئا كثيرا من أدوات القتال، ثم سارت إلى مصر، فحبا الملك الأمير صالح بمائتي دينار وأكرمه إكراما كبيرا، ووهبه جوادا وفروة، ثم عاد الأمير إلى بلده.
وفي سنة 1444 جهز ابن الحمراء جماعة كبيرة وسطا بها على الأمير عز الدين صدقة بن عيسى بن أحمد وهو في داره في بيروت، فقتل بعضا من أصحاب هذا الأمير، وفر الأمير نفسه بأثواب النوم، واختبأ في مكان على شاطئ البحر، وقد مر به أعداؤه مرارا ولم يدروا، وحدث بعد ذلك أنه قطع رأس ابن الحمراء وأرسله إلى دمشق فأرسله نائب دمشق إلى الأمير عز الدين، ثم اتفق في ذات يوم أن الأمير عز الدين قبض على واحد من بني الحمراء كان مختبئا بين أفنان شجرة إلى جانب غرفة الأمير وهو يحاول أن يرميه بسهم، ولكنه لم يلبث أن أطلق سبيله ولم يمسه بأذى، وقد توفي هذا الأمير في هذه السنة نفسها، وكان مهيبا وقورا حسن السياسة شديد الحزم كبير الجاه نافذ الكلمة لدى الملوك والعمال، وكانت ولايته من حد طرابلس إلى حد صفد، وبيده زمام خفارة بيروت. وفي سنة 1520 مات الأمير شرف الدين يحيى بن أبي بكر بن زنكي، وقد كان بمكانة من الشجاعة والبسالة ومن الفطنة والذكاء، وفد على الملك الأشرف قانصوه الغوري بقلعة الجبل في مصر، ونال منه بغيته، ووفد على المغفور له السطان سليم بدمشق فصدق له على ما بيده من المناشير، وحدث أن الأمير ناصر الدين محمد بن الحنش صاحب صيدا والبقاعين خرج عن طاعة السلطان سليم، وفر من وجه سلطته فاتهم الأمير شرف الدين بالميل إلى العاصي فقبض عليه وعلى الأمير زين الدين والأمير قرقماز والأمير علم الدين سليمان من الأمراء المعنيين، وأرسلوا إلى قلعة صفد، ثم إلى قلعة دمشق، ثم سار بهم السلطان سليم إلى قلعة حلب، ولما قتل العاصي خلى السلطان سبيلهم، فقصد الأمير شرف الدين الفرات، ونال بغيته عند الوزير الأكبر هنالك، ثم عاد إلى بلده. وحدث في سنة 1584 أن إبراهيم باشا والي مصر قدم إلى عين صوفر من لبنان لمعاقبة أمراء الجبل بما اتهموا به من نهب الخزينة السلطانية عند جون عكة، فمثل بين يديه الأمير محمد بن جمال الدين وابن عمه الأمير منذر مستسلمين له، فاقتادهما معه إلى إسلامبول حيث برئت ساحتهما، وأطلقا وأقرا على ما كانا عليه في ديارهما.
وفي سنة 1612 سير الحافظ إلى قرية عبيه الشيخ مظفرا في فرقة من الجند العثماني لمعاقبة الأمير ناصر الدين، فدهمه الأمير في داره، فاقتتلا، فقتل عدة من الفريقين، وأحرق الشيخ القرية، ثم استسلم الأمير له، وصحبه إلى دير القمر، فطيب الحافظ نفسه وولاه الشوف. وفي سنة 1633 أتى الأمير علي علم الدين والي الشوف قرية عبيه، وقد كان من اليمنيين، فدعاه أمراء القرية - وهم: الأمير يحيى العاقل، والأمير محمود، والأمير سيف الدين - ليتناول الطعام عندهم، وبينما كانوا يأكلون إذ اندفع عليهم بأصحابه فقتلهم، ثم قتل أبناءهم؛ فانقرضت بهم سلالة بني تنوخ. (6) الأمراء الأرسلانيون
إن كلمة أرسلان ليست عربية ولكنها فارسية، سمي بها جد طائفة من الأمراء التنوخيين الدرزيين في جبل لبنان، كما سمي غيره من الأمراء الذين هم من قبائل عربية بأسماء أعجمية؛ مثل قرقماز وغيره، وهذه العادة مألوفة بين الجماعات من الناس، وإن كان يترتب عليها في الغالب إخلال في معرفة النسب، وضعف في التقاليد غير محمود العواقب. وقد سرى هذا الاسم إلى هذه القبيلة العربية التنوخية أيام كانت في جوار الفرس؛ إذ إنها قدمت مما بين النهرين وسكنت جبلا في ظاهر المعرة يقال له: الجبل الأعلى. كما تقدم ذكر ذلك.
فأرسلان بحسب ما علمناه من أقوال المؤرخين وما تبين لنا من كتب مسجلة في المحاكم الشرعية الإسلامية محكمة محكمة، متضمنة نسبة الأمراء الأرسلانيين، هو ابن الأمير مالك بن الأمير بركات المنذري، فقد جاء في الكتاب الأول منها الذي كتبه في اليوم الثاني من شعبان سنة 141 هجرية محسن بن حسين بن زيد الطائي متولي فصل دعاوى المسلمين في مدينة المعرة، وشهد فيه علي بن رفاعة المعري، وسليمان بن فضالة بن عميرة المعري الطائي، ومسلم بن عدي بن قاسط التغلبي، ويزيد بن سلام الكلابي، وخزام بن فند الكلابي، ونصر بن راشد بن طالب التنوخي، وإسحاق بن ميمون، وأبو حذيفة بن هشام، وأبو الوليد راشد بن رباح بن حراش اللخمي، وجذيلة بن سعدة بن رحمة اللخمي؛ أن حضر إلى القاضي المتقدم ذكره الأمير منذر وأخوه الأمير أرسلان - ولدا الأمير مالك بن الأمير بركات المنذري - وطلبا منه أن يكتب لهما وفيات آبائهم في رق ليحفظاه عندهما؛ خوفا من حوادث الأيام، وتحفظا من السهو والنسيان؛ لأنهما قد عزما على الرحيل إلى جبال بيروت بأمر أمير المؤمنين المنصور، فاستشهد من حضر، فحدثه داود بن المظفر بن زياد التنوخي عن أبيه عن جده، قال: لما قدم خالد بن الوليد المخزومي من بلاد العراق قدم معه الأمير عون بن المنذر المغرور ابن الملك النعمان أبي قابوس، وإن الأمير عونا حضر مع المسلمين فتح بصرى، وظهرت بها شجاعته، وإنه قتل بوقعة أجنادين من جرح أصابه في آخر يوم من المصاف، فتوفي منه بعد أيام قلائل، فحزن عليه أهله ولخم وخالد وأمراء الإسلام كثيرا؛ لأنه كان فارسا من فرسان العرب رحمه الله.
قال: وإن الأمير عونا كان له ولدان: الأمير مسعود وهو المشهور بقحطان، والأمير عمرو. فكان الأمير علي لخم بعده الأمير مسعود، وأخبرني رضوان بن هلال اللخمي عن غلاب بن هاشم التنوخي عن أبيه قال: حكى لي رافع بن عميرة الطائي قال: قدم معنا من الحيرة الأمير عون بن المنذر بن النعمان بن ماء السماء، فلم أر أشد منه صبرا على السفر، فلما قاتلنا رجال الروم على بصرى رأيت منه من الشجاعة ما لم أره من أحد، ثم حضر معنا - رحمه الله - واقعة أجنادين وجرح في صدره، فتوفي بعد أيام، وتوليت بنفسي دفنه رحمه الله، وحدثني همام بن رفاعة الطائي عن شديد بن آوى قال: أخبرني سليمان بن قيس النحفي قال: قال لي عوف بن مالك الأشجعي: استشهد الأمير عون بن الملك المنذر الذي سمته العرب المغرور ابن الملك النعمان أبي قابوس ممدوح نابغة بني ذبيان وهو قاتل عبيد بن الأبرص العامري داهية العرب، وهو ابن الملك المنذر ابن الملك المنذر ابن ماء السماء في أجنادين، فصار أمير لخم بعده ولده الأمير مسعود، وهو من أشد شجعان العرب، حضر فتح دمشق، وهو أول من دخلها وفتح بابا شرقيا لخالد بن الوليد حتى دخل بجيوش المسلمين منه، ثم حضر واقعة مرج الديباج ووقائع اليرموك، فو الله لقد قاتل هو ومن معه من لخم وجذام وكانوا زهاء ألف وخمسمائة فارس قتالا شديدا، وصبروا صبرا حسنا. وأخبرني همام بن رفاعة المذكور قال: أخبرني قيس بن جروان عن شديد بن عدي التنوخي بمثل ما روي عن عوف قال: وإن الأمير مسعودا وأخاه الأمير عمرا حضرا فتح بيت المقدس، وقابلا بفتحه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فانحط منهما ومما بلغه من شجاعة الأمير مسعود، وأمر أبا عبيدة بأنه متى فتح الله عليه المعرة وبلادها يضعه بأهله وقبائله بها، وإن الأمير مسعودا لما تم فتح بيت المقدس سار مع أبي عبيدة لفتح حلب، والأمير عمرو وابن عمه الأمير همام ابن الأمير عامر ابن الملك المنذر سارا بأهلهما وجمع كبير من لخم وجذام مع عمرو بن العاص لفتح قيسارية، فلما تم فتحها أراد الأمير عمرو أن يلحق بأخيه؛ فمنعه عمرو، ثم أخذه معه لفتح مصر وتوطن هنالك.
وأخبرني جابر بن هاني بن زيد بن عبيد التنوخي عن أبيه عن جده قال: أخبرني كعب بن ضمرة الضمري قال: لما أرسلني الأمير أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة لاكتشاف أمر صاحب حلب سار معي أبو النعمان مسعود بن عون اللخمي المنذري بجماعة من لخم، وحضر معي حرب قنسرين، فرأيت منه شجاعة عجيبة لم أرها من غيره في ذلك اليوم على شدة من العدو.
قال: ولما نصرنا الله وفتحنا حلب، وطلب أبو الهول من أبي عبيدة رجالا أشداء ليصعد بهم إلى القلعة؛ كان أول من قال: أنا. الأمير مسعود، وصعد مع أبي الهول إلى القلعة بجماعة من قومه، قال: ولما تم فتح حلب أرسله أبو عبيدة في أول جيش أرسل لغزو الروم بأنطاكية وفتحها، قال: ولما تم فتح الشام أقام بأهله في بلاد المعرة التي اختارها له أمير المؤمنين.
وحدثني عبد القادر بن عقيل بن تامر المعري، قال: أخبرني والدي عن أبيه، قال: لما توفي الأمير مسعود بن عون تولى إمارة لخم بعده ولده الأمير منذر الملقب بالتنوخي، فأكثر الغزو، وبلغ شهرة عظيمة. قال: وكان الأمير المنذر أصغر من أخيه الأمير النعمان سنا إنما كان أنجب منه، قال: وإن الأمير مسعودا توفي في سنة 45 للهجرة، وحضرت دفنه رحمه الله، وكان شاعرا لبيبا من أكرم الناس وأعقلهم.
وأخبرني أبو عمرو بن حاتم اللخمي وأبو الجماهر ابن الهيثم اللخمي، قالا: حدثنا أبو الميمون راشد بن سهل اللخمي، وكان من المعمرين وأهل الصلاح والدين، قال: حضرت وفاة الأمير مسعود بن الأمير عون وأنا ابن ثماني عشرة سنة؛ فو الله لم أر على لخم أشد من ذلك اليوم، قال : ولما توفي أقامت لخم أميرا عليها ولده الأمير المنذر لنجابته وفراسته، قال: وأنا أحسب وفاته فأرى أنه توفي في سنة الخمس والأربعين للهجرة.
Page inconnue