وجبيل، وهي من أقدم المدن وبانيها بحسب التقليد الإله إيل، وبيروت وهي قد أسسها أهل جبيل وخلدوا، وموقعها يظن أنه في محل خلدة الآن، ويورفيريون ويظن أن موقعها في المحل المعروف اليوم بالجية، وصيدون القديمة وهي صيدا وسربتا المعروفة الآن بصرفند، وصور وأوس واسمها إسكندرونة كما سماها اليونان، وكيكينا وكان اسمها في أيام السلوقيين اللاذقية والآن تسمى أم العواميد، وأكزيب وهي المعروفة اليوم بالزيب، وعكة وهي التخم الجنوبي لبلاد الفينيقيين. وقد انقسمت هذه المدن على غير تساو بين القبائل على اختلافها، فأفضى الأمر إلى أن تألفت منها ممالك صغيرة، كل مملكة منها مستقلة عن أخواتها؛ فكانت مملكة الصيدونيين ومملكة الجبليين ومملكة العرقيين ومملكة السينيين ومملكة الصمريين، وفي بادئ الأمر كان للجبليين على جميع الفينيقيين سلطة حقيقية، وكان لهم مملكتان مملكة جبيل ومملكة بيروت؛ فجبيل كانت تفتخر بأنها أقدم مدينة في العالم، وأنها قد بناها الإله إيل في صدر الخليقة في مكان غير المكان الذي وجدت فيه بعدئذ، وقد افتخرت بيروت بأن بانيها الإله إيل أيضا، وهاتان المملكتان كانتا ضعيفتين لا تستطيعان حفظ استقلالهما؛ فاندرستا وأخذت مدنهما وأراضيهما، وإذ ضعفت جبيل فلم تلبث صيدون أن أصبحت من أعظم المدن الفينيقية مع أنها في أول نشأتها كانت بلدة حقيرة لصيد السمك كما يدل عليه اسمها، وكانت في المنزلة دون صور وجبيل وبيروت، والذي أنشأها بحسب التقاليد إنما هو إيل الذي أنشأ صور؛ وهو أجنور اليونان.
إن الأسباب التي بعثت الفينيقيين على أن يلتمسوا الكسب من أبواب التجارة هي التي بعثتهم على إتقان الصناعة، فبينما كان غيرهم من الأمم يسعى إلى إعلاء شأنه بقوة السلاح في ميادين القتال إذا هم كانوا مشتغلين بإتقان الصناعة والبحث عن محسناتها، فقادهم الاتفاق إلى اكتشاف اللون الأرجواني واستخراج مواده من حيوانات بحرية من ذوات الصدف، مما كان يوجد على شاطئ البحر بين حيفا وصور وعلى بعض الشواطئ اليونانية، فكانوا يستخرجونه لصبغ البرفير الذي رغب فيه القدماء واتخذه ملبسا كثير من الملوك، ولا سيما ملوك آشور وآرام وبابل وفارس ومدين كما يتبين لنا ذلك مما ورد في نبوات حزقيال وأرميا ودانيال. وكانت الملابس من هذا الصنف ينفق في أثمانها أموال كثيرة، حتى قيل إن أحد قياصرة الروم لما سألته زوجه أن تلبس البرفير أبى ذلك عليها؛ لما أن الدولة تتحمل به نفقة كبيرة. وقد مهر الفينيقيون في صناعة الصبغ على اختلاف أنواعها وتوفرت لديهم مواد الصبغ، فكانوا يأتون بنوع من النبات من بلاد العرب لونه كالأرجوان.
ومن أشهر المصنوعات الفينيقية الزجاج، وقد قيل إن المصريين سبقوهم إلى استنباطه، ولكن الزجاج الذي كان يصنعه المصريون لم يكن شفافا كالزجاج الفينيقي، وأما معامل الزجاج الفينيقي فكانت في صيدا وصرفند، ويوجد في متاحف أوروبا كثير من مصنوعاتها؛ مما يتبين منه مهارة الفينيقيين في هاته الصناعة. وقد اشتهر الفينيقيون بصناعة النقش والحفر وعمل الآنية الخزفية والمصنوعات المعدنية، ولا سيما الصفر (النحاس الأصفر). ويؤيد ذلك ما جاء في الفصل السابع من سفر الملوك الثالث؛ إذ قيل: «وأرسل الملك سليمان، فأخذ حيرام من صور؛ وهو ابن أرملة من سبط نفتالي وأبوه رجل من صور صانع نحاس، وكان ممتلئا حكمة وفهما ومعرفة في عمل كل صنعة من النحاس، فوفد على الملك سليمان وعمل كل صنعته.» وما جاء أيضا في الخطوط الهيروكلفية على عهد الدولتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة في مصر من ذكر آنية النحاس من صنع الفينيقيين موصوفة بكونها بديعة الصناعة مستكملة الإتقان. وجاء في كتاب إسترابون أن الفينيقيين كانت تجارهم تبعث إلى جزائر بريطانيا أسلحة من الصفر وآنية خزفية، وقد وجد في جزيرة قبرس وفي تسكانا من أعمال إيطاليا كئوس مصوغة من معادن ثمينة بأيدي الصاغة الفينيقيين. وذكر النبي حزقيال أن الصوريين كانوا بارعين في صنع العاج، ومعلوم أنه لم يكن عسيرا عليهم استجلاب أسنان الأفيال، وقد بلغوا بتجارتهم الهند وشمالي أفريقيا، وقد اشتهر الفينيقيون بصنع الأطياب أيضا.
تبين لنا مما تقدم أن أرض الفينيقيين لم تكن خصبة وسهلة المراس مثل أرض غيرهم من أقربائهم الكنعانيين والآراميين، ومع ذلك فإنها كانت متقنة زراعتها. ولم تزل آثار الإصلاح بادية فيما اشتغلت به أيديهم منها، كما يتبين هذا في أرض سواحل لبنان ولا سيما الجنوبية منها، فإنها مقطعة بجدران تقطيعا يصون ترابها، ويسهل مراسها لنصب الكروم فيها. ومهما غيرت الحوادث الطبيعية من حالتها، وقلبت سيول الأمطار من وجهها المتحدر، وغيرت أشجار الغابات من وضعها فإنه لا يغرب عن الناظر المحقق أثر ذلك التقطيع بتلك الجدران؛ لأنه لم يعف بل هو باق ينطق بمهارتهم واجتهادهم. وذكر لانورمان كثرة كروم العنب للفينيقيين في ضواحي صور وصيدا وبيروت وجبيل، وأنهم كانوا يعصرون منها ومن عنب لبنان خمرا جيدة فاقت بشهرتها في أيامها جميع أصناف الخمر، حتى رغب أهل رومة وبلاد اليونان فيها كثيرا، وقال رنان إنه اكتشف في ضواحي صور آلات للحراثة بالغة في المتانة والإتقان مبلغا تفوق به غيرها من الآلات المستعملة اليوم. وليس بكبير على الفينيقيين أن يصلحوا أرضهم ويصنعوا لها مثل تلك الآلات، وقد اشتهروا في فن الكسب من أبواب التجارة والصناعة، ونما فيهم الميل إلى الاقتصاد والتدبير؛ فلا غرو أنهم لم يدعوا شيئا لهم ربح منه إلا أتوه، واستدروا المنافع منه بقدر ما وصل إليه إمكانهم.
إن الفينيقيين - فيما أجمع القدماء عليه - هم أول من وضع الكتابة بالحروف وجاءوا بها اليونان، وقيل إنهم أخذوها عن الخطوط الهيروكليفية. وأثبت هذا العالم شمبوليون الذي اشتهر بحل الرموز الهيروكليفية. وروى هيرودوت أن الفينيقيين الذين صحبوا قدموس إلى اليونان أدخلوا بين هؤلاء علوما مختلفة، منها علم حروف الكتابة. وأثبت هذه الرواية ديودور وتاسيت وميلا ويوسيفوس وكلامانس وألكسندريتوس وأوسابيوس. وقال رنان إن حروف الفينيقيين كانت صنفا في جملة أصناف البضائع التي كانوا يشحنونها، وجاء في كتاب لانورمان أن الحروف الفينيقية هي أم لجميع الحروف، فمن هذه الحروف ما تفرع عنها مباشرة، ومنه ما تفرع عن فروعها، والسبب في ذلك كله أسفار الفينيقيين للاتجار؛ فإنهم أذاعوا حروفهم في معظم المعمور من الأرض كما نشروا تجارتهم فيه. أما لغة الفينيقيين فسامية وإن كانوا كنعانيين، وهي أخت اللغة العبرانية التي تكلم بها العبرانيون من الساميين وأخت اللغة العربية التي تكلم بها العرب من الساميين أيضا، أما علوم الفينيقيين فلا شك أنها كانت أوسع نطاقا من علوم جميع الأمم في تلك الأعصر القديمة؛ لأنه يستحيل أن يبلغ هؤلاء القوم ما بلغوه من إتقان التجارة والصناعة ما لم يكونوا قد برعوا في العلم؛ فإن الحركة الفكرية التي دفعتهم إلى استيفاء معدات الحضارة ساقتهم إلى مباحث العلم. ولكن لم يبق لنا من آثار علومهم ومن كتبهم شيء يذكر إلا ما ترجمه فيلون الجبيلي من كتاب سنكن يتن البيروتي وما نقله أوسابيوس وبرفير والدمشقي من بعض المقاطيع منه، وهو يشتمل على الكلام في أصل العالم وموالد الآلهة ألفه سنكن يتن، وأتحف أبيبعل ملك بيروت به. أما ديانة الفينيقيين
7
فلا يعلم من أمرها إلا ما دلت عليه أقوال سنكن يتن وما وجده الباحثون من المسكوكات والأصنام الصغيرة في قبرص.
قال أوسابيوس: «إنه من المعلوم الثابت أن الفينيقيين والمصريين هم أول من جعل الألوهية في الشمس والقمر والكواكب، وصرح بأنها علة للحياة والموت.» أما المصريون فكانوا يسمون معبودهم الشمس رع، أو عمون رع، والكنعانيون يسمونه بعل شمائيم أي رب السماوات، وأما الاسم الذي انتشر أكثر من غيره من جميع الأسماء فهو إيل أي القوي، والأول وهو الذي كان الجبليون يسمون به أخص آلهتهم، وقد جرى هذا الاسم على ألسنة الآراميين والكنعانيين والعرب، ونطق به يسوع المسيح وهو على الصليب؛ حيث قال: «إيلي إيلي لماذا شبقتني؟» يعني: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وهو أقدم من غيره من الأسماء، وربما كان آراميا، نطق به الجبليون القدماء قبل سؤدد الفينيقيين. والاتفاق في هذه التسمية بين العبرانيين وسائر قبائل الآراميين وبين الجبليين يدل على وحدة أصلهم من سام. وقد اتخذت العشائر الآرامية والكنعانية أسماء أخرى؛ كل اسم منها يدل على صفة من صفات الألوهية، فالحثيون الشماليون سموا الإله ست أو ستخ، وأرادوا به القدير على كل شيء، وبعض الآراميين هدد وأرادوا به الواحد الأحد، والعمونيون ملوك (ملوخ) وأرادوا به الملك والمتسلط وغير ذلك كثير مثل عليون أي العلي، وبعل أي السيد، وأدوني أي سيدي، وأيون أي الأزلي، وكبير أي الكبير، وقدم أي القديم. أما اليهود فهم وحدهم الذين حفظوا للإله الأسماء بمعانيها الحقيقية المطلقة، خلافا لجميع القبائل الكنعانية والآرامية؛ فإنهم عددوا الآلهة بتعداد الصفات، وجعلوا منها ذكورا وإناثا يتزوجون ويتوالدون، ولم يكتفوا بذلك بل خصصوا الآلهة بالأمكنة؛ فكان مثلا بعل صيدا وبعل صور وبعل لبنان وبعل حرمون وبعل دامور وبعل فاغور وبعل زبوب وبعل بيريث وبعل ترز وبعل ترسوس وبعل جاد وبعل حامون وبعل شاليشا، وكان كثير منهم يضيفون أسماءهم إلى بعل تبركا به، كما كانوا يضيفون أسماءهم إلى إيل.
أما الحكايات التي أذيعت عن إيل فكثيرة، قال سنكن يتن إن إيل طاف جميع الآفاق ووزع ممالك الأرض على أبناء خاصته كافة، وقد نسبت له غزوات كثيرة، وكانت له زوج اسمها سميرام، فولد له منها بيك فسمياه زوس (زفس) أي المشتري، فلما بنى إيل أسوار بابل عهد بالحكم إلى زوجه سميرام، وسار هو بجيش جرار ليفتح المغرب، وقد كان له ذلك، وأخضع جميع العالم لسلطته، وأنشأ المدن، وأقر السلطات، وهذب العالم. ومن أعظم ما بناه من المدن مدينة نصيبين فيما وراء الفرات، ومعناها بالفينيقي الأعمدة، ثم بنى مدينة كرونية وهي المعروفة اليوم بمنبج، وبلغ أرمينية وضم إلى مملكته جزيرة رودس وأكريت، وانتصر على سواحل إفريقية، وتجاوز شطوط إسبانيا حتى بلغ إيطاليا، ثم انتهى إلى صقلية حيث مات ودفن. وجملة القول أن إيل الذي كان له المظهر الأول والشأن الأعظم في مدينة جبيل تسلط على عالم الأقدمين تسلط الإله والملك. ومن جملة معبوداتهم أدوني، وهو تموز، وله حكاية ذكرها عدة من المؤرخين، وقد سبق لنا أن أثبتناها في ما تقدم؛ فنجتزئ الآن بالإشارة إليها. وقد عبد الفينيقيون عشتروت أيضا، وهي قد اتخذت لها - فيما رواه سنكن يتن - رأس الثور رأسا؛ وهذا إشارة إلى ملكها. ولم تنحصر عبادة عشتروت في الفينيقيين، بل سرت إلى غيرهم من الأمم القديمة، فعبدوها بأسماء مختلفة، قيل إن أحد المؤلفين القدماء عد من هاته الأسماء ما ينيف عن ثلاثمائة اسم تداولتها ألسن الشعراء.
يؤخذ من أقوال لانورمان أن الفينيقيين كان عندهم نوع من الثالوث، فكان في صور ملكرت
Page inconnue