Descartes: Une Très Courte Introduction
ديكارت: مقدمة قصيرة جدا
Genres
كثيرة هي الأسئلة التي أثارها هذا الاستدلال الذي يعرف أحيانا باسم «الحجة الأنطولوجية» لوجود الرب، ومن بينها أنه كيف يمكن أن توجد الطبيعة الحقيقية المزعومة للمثلث دون أن يوجد المثلث نفسه؟ وهناك سؤال آخر يختص بمعنى القول بأن الاتصاف بالكمال يوجب الوجود. وثمة سؤال ثالث عن كيفية تقديم الحجة الأنطولوجية باعتبارها تأكيدا للحجة المطروحة في التأمل الثالث، وفي الوقت نفسه استغلال الحجة القائلة بأن كل ما يدرك بوضوح وتمايز فهو حقيقي. لا يعمد ديكارت إلى شرح أي من الحجتين باستفاضة ووضوح، ولا تحمل أي منهما في طياتها قدرة على الإقناع.
الفصل الرابع عشر
الأفكار
الكثير من الحجج الواردة في مؤلف ديكارت «تأملات في الفلسفة الأولى»، ولو أنها غير مقنعة، تلفت الانتباه بشدة باعتبارها أدوات لنظرية ديكارت عن الأفكار. والحجج التي ساقها لإثبات وجود الرب أمثلة على ذلك. عندما يقول ديكارت إن الخيال لا يمكن أن يكون لنا عونا على تصور الرب، بل إنه يمكننا صياغة تصور عن خالقنا بوسائل أخرى، فهو بذلك يطرح نظريته للأفكار بوضوح. ويفعل ديكارت الشيء نفسه إذ يستحضر مبدأ العلية في حجته الأولى لوجود الرب. ويوحي مبدأ العلية - من بين ما يوحي به - بأن مصدر الفكرة من الممكن أن يختلف من حيث فئته عن الشيء الذي تمثله الفكرة نفسها؛ أو بتعبير آخر: إنه يمكن أن يكون هناك بون شاسع بين محتوى الأفكار وعلتها في الواقع.
لا يجمع ديكارت قط جميع رؤاه الخاصة بالأفكار في مكان واحد، أو يقترح سؤالا يمكن أن تساعد نظريته المنشودة للأفكار في الإجابة عنه. ورغم ذلك، فمن الممكن تخمين مثل هذا السؤال، ويمكن أن نطرحه على النحو التالي: كيف نستطيع أن نمثل بداخلنا الأشياء الضرورية لفهم الطبيعة؟ قبل ديكارت، زعم الفلاسفة أن البشر يتمتعون بالحس والعقل، وأن التجربة الحسية تجعل العقل يتماس مع المواد التي هي موضوع العلوم. وكان الافتراض أن الأشكال التي تحدد مختلف أنواع الأشياء أو أجناسها محل الدراسة العلمية يمكن استخلاصها من أشكال تناظر السمات الحسية للأشياء: ألوانها وروائحها ومذاقها ودرجات حرارتها. والعقل يكتسب علما بالأشياء في العالم المادي بواسطة التعرف على الأشكال المناظرة للأنواع الطبيعية. فالفهم العلمي يتكون ببساطة من القدرة على التعرف على الشيء داخل منظومة الأنواع الطبيعية، منظومة الأجناس والأنواع. على سبيل المثال، فهم البشر علميا يستتبع الإحاطة علما بأنهم ينتمون إلى الجنس العقلاني من الحيوانات. وتأتي الأشكال الضرورية لفهم البشر من الحواس؛ ولذلك فالعقل يعول في معرفته العلمية على التجربة الحسية. أما بالنسبة لكيفية فهم الحواس للأشكال الحسية؛ كاللون والملمس وما شابه ذلك، للأشياء المختبرة، فيحدث ذلك بواسطة انتقال الأشكال من الأشياء المختبرة إلى الأعضاء الحسية.
في نظريته للأفكار، أطاح ديكارت بالتمييز بين الحس والعقل، وأنكر أن الفهم العلمي يعول على عمل أعضاء الحس، وحاول أن يطور المذهب القائل بأنه في عملية الإدراك تنتقل أشكال الأشياء بطريقة ما إلى أعضاء الحس، ثم تستخلص بواسطة العقل. وبحسب ديكارت، فإن وقع الأجسام بالنسبة لأعضاء الحس هي مسألة ترتهن بالأثر كليا؛ حيث تظهر تأثيرات لاحقة على الجهاز العصبي وفي غدة في المنطقة التي تعرف في المخ باسم «الغدة الصنوبرية». فأثر الشيء يتم تسجيله في الغدة الصنوبرية كحركات مختلفة، وتعمل هذه الحركات كإشارة لروح أو نفس عاقلة متصلة بالجسم عند الغدة الصنوبرية حتى تختبر نوعا معينا من التجربة الواعية أو «الفكرة». ما طبيعة التجربة الواعية التي تعول على نمط من الحركات المنقولة إلى الغدة الصنوبرية؟ إذا مثلت التجربة شيئا ما بدقة، فكان يقال إن لها «وجودا موضوعيا». أما إذا كانت تمثيلا دقيقا بشكل جزئي فحسب لشيء خارج العقل، فهذا يعني أن التجربة أو الفكرة كانت لشيء يحمل في طياته «شكلا» ما تحمله الفكرة في طياتها «موضوعا».
شكل 14-1: وفقا لديكارت، فإن الجسم والعقل يتفاعلان في الغدة الصنوبرية الموجودة في المخ. وتوضح الرسوم الفسيولوجية في أعماله كيف تتحكم هذه الغدة في الإدراك والحركة.
في التأمل الثالث، يقول ديكارت تحديدا إن الأشياء الموجودة في العقل التي تمثل أشياء أخرى ينبغي أن تسمى «أفكارا». وكانت تخطر له فكرة بهذا الشكل، بحسب قوله، كلما «فكر في إنسان أو وهم أو السماء أو في ملاك أو في الرب» (7 : 37). ويمكن أيضا إطلاق مسمى «الأفكار» على أشياء أخرى غير ممثلة لأشياء أخرى داخل عقله، ولو أن إطلاق هذا المسمى سيكون غير دقيق في هذه الحالة. ومثال على تلك الأشياء الإرادة أو الرغبة أو الحكم على الأشياء. أما الأفكار بمعناها الدقيق، فهي «تمثل» أشياء متمايزة عنها. لكنه لم يعرف تلك السمة التمثيلية للأفكار على نحو ضيق. فإذا كانت الفكرة متعلقة بشيء، فلا يشترط وجود تشابه تصويري بين الفكرة وما تمثله. قال ديكارت إنه لكي تكون الفكرة عن شيء محدد، لا بد أن يكون هناك «تماثل» بين الفكرة وما تمثله. ولكن لمواءمة ذلك، على سبيل المثال ، مع إنكاره أن فكرة الرب عبارة عن تصور عقلي، يتعين علينا التعاطي مع «التماثل» سالف الذكر بشكل غير تصويري. يمكن أن يكون «التماثل» بالمعنى المراد مسألة مطابقة الشيء كليا أو جزئيا لوصف أو توصيف يتصوره المرء في عقله. فعندما يفكر المرء في رقم 3 باستحضار عدد صحيح أكبر من 2 ولكن أقل من 4، فإن المرء لا تخطر على باله فكرة الرقم 3 الذي «يشبه تصويريا» العدد نفسه، بل ثمة توصيف في عقل الإنسان «يطابق» الرقم 3. وهذه طريقة لتكوين فكرة عن الرقم 3 في سياق «التماثل» مع الرقم 3.
استغنت نظرية الأفكار عن الفرضية المدرسية الخاصة بالوظائف المختلفة للحواس والعقل. ورغم أن الروح العاقلة لديكارت قد تبدو نظيرا للعقل عند الفلاسفة المدرسيين، فإنها تعمل في حقيقة الأمر بشكل مختلف تماما؛ فهي لا تستخلص الأفكار من تمثيلات حسية خالصة لأشياء خارجية؛ حيث لا تمثل الحواس الأشياء مطلقا في نظرية ديكارت؛ فالحواس تتلقى وحسب آثارا من المادة المحيطة بها، والروح العاقلة هي التي تمثل الأشياء وحتى الألوان والملمس ودرجات الحرارة. ونتيجة لذلك، فإن خصائص المادة الملحوظة لا تنقسم حقا إلى خصائص حسية وعقلية. ولذا فإن الأمر ليس أن كينونة تفاحة دانية تسجل من خلال العقل، أما حلاوتها واحمرارها فيسجلان من خلال الحواس. بدلا من ذلك، فإن حقيقة أنها تفاحة حلوة وحمراء تسجل في الروح العاقلة، وحدها دون غيرها. علاوة على ذلك، فإن الروح العاقلة لا تعول في عملها على الأعضاء الحسية؛ ذلك لأنها مرتبطة بالجسد ارتباطا عارضا وحسب. ويمكن للروح أن توجد من دون الجسد، هكذا حاول ديكارت أن يثبت عندما أجرى التجربة الفكرية لتصور نفسه تحت تأثير الخداع الشيطاني. اكتشف ديكارت أنه لو أخذ تصور الشيطان على محمل الجد، لكان عليه أن يتظاهر بأنه يفتقر للحواس والجسم، وعندما حاول أن يتصور هذا، نجح دون أن يشرع في الشك في أن نفسه أو روحه وأفكاره حقيقية. ومن ثم، جاءت إمكانية تصور روح عاقلة تعمل بشكل مستقل.
رسم ديكارت الخطوط العريضة لنظرية الروح العاقلة - والواقع أنها كانت نظرية للروح العاقلة كممثلة للأشياء، «و» كبادئة للأفعال - في «كتاب الإنسان»، و«مبحث انكسار الضوء »، وكذلك في آخر مؤلفاته المنشورة «انفعالات النفس». افترضت بعض حججه المعارضة لوجهة النظر القائلة بأن كل الأفكار منبعها الحواس صحة نظريته هذه، لكن ثمة حجج أخرى يمكن أن يقبلها حتى أحد أنصار نظرية الإدراك المدرسية. فوفقا للنظرية المدرسية، فإن الأشكال التي تدخل إلى الحواس ومنها إلى العقل من الأشياء الخارجية جعلت محتويات الحواس والعقل «تشبه» الأشياء الخارجية: فالأشياء والحواس والعقل كان من المفترض أن تحتوي بداخلها على الأشكال نفسها. ضرب ديكارت أمثلة لأفكار في العقل «لا» يمكن أن تشبه أي أشياء أخرى تثيرها الحواس: ففكرة الكائن العليم الحي اللانهائي الذي لا يموت، على سبيل المثال، لا يمكن أن تشبه شيئا صادفته الحواس. ولا يمكن للأفكار العامة عن الشكل والعدد والصورة أن تشبه الأشياء التي استحضرتها؛ وذلك لأنها كانت أفكارا عامة والحواس كانت تتعرض وحسب للتفاصيل. وبحسب ديكارت، فإن وجود مثل هذه الأفكار العامة في العقل لم يحتج تفسيرا بالإحالة إلى العلل الخارجية؛ تفيد نظريته بأن الأفكار غير مستقلة فعلا عن قوة التفكير نفسها، وأنها موجودة فطريا. والواقع أنه زعم في مرحلة ما أن «جميع» الأفكار، فيما خلا المحددة في محتواها، فطرية (8ب:358-359). وحتى فكرة الألم فهي ناتجة عن قدرة فطرية للروح العاقلة على التأثر بحركات لا تشبه بأي حال من الأحوال الألم نفسه (لكنه في مواضع أخرى يزعم أن العقل اختلق أو ابتكر بعض أفكاره (7 : 51)).
Page inconnue