الذين لم أعرفهم إلا قليلا،
وأعتز بهم كثيرا.
الدولة المسلمة والدولة الدستورية 1
في القرن الخامس قبل الميلاد عقدت روما أول جمعية مشكلة من مواطنيها، وقررت هذه الجمعية - إقرارا للعدل - التخلص من السلطة المطلقة في نظامها الملكي، واختارت بدلا من الملك قنصلين متعادلين في السلطة، يحكمان لمدة عام واحد فقط؛ ليكون من مهام كل قنصل مراقبة زميله؛ وعينت اثنين من البريتور
ليراقب كل منهما القنصلين حرصا على مصالح الشعب؛ ووضعت لبنات أساسية لدستور كانت مهمته الأولى هي التصدي للحكم الفردي المطلق؛ ونصت على قتل من يحاول أن يصبح ملكا. وإن تم الحكم على مواطن بالإعدام في زمن الحرب من أحد الحكام، فللمواطن أن يلجأ للجمعية العمومية. كما نصت على أن عقوبة الإعدام هي من حق الشعب وحده في زمن السلم.
حدث هذا قبل ظهور الإسلام بما ينوف على الألف بقرنين من الزمان. وكان فارق الزمان هذا كفيلا أن يعرف العالم معنى العدالة ومعنى الديمقراطية منذ تأسست في روما، وأن لهذه الديمقراطية الأولية آليات وأجهزة تقوم على حمايتها وتنفيذ مآربها، بهدف تحقيق القانون بالعدل بين الناس، فلا يكون لأحد سلطان على رقبة آخر، يعطيه حقا فرديا في الاعتداء على حياة أحد المواطنين. حدث هذا في روما الوثنية قبل ظهور المسيح بخمسة قرون، وقبل الإسلام بألف ومائتي عام.
ويقول لنا أصحاب حلم الدولة الإسلامية إن الإسلام قد أسس للمساواة كأسنان المشط، ولا فضل لأعجمي على عربي، وجعل الحاكم محاسبا أمام الرعية؛ ألم يقل البدوي لأبي بكر لو أخطأت لقومناك بسيوفنا؟ أليس جميلا ومؤثرا موقف الخليفة العادل عمر بن الخطاب وهو يطلب من ابن الأسفلين أو ابن المستعبدين أن يأخذ ثأره من ابن الأكرمين؟ ألا تشير العبارة بوضوح لهذا الترفع في المعنى؟
الكلام جميل وحلو ومؤثر وعاطفي؛ فهو كلام؛ أقوالنا المأثورة عن المساواة والعدالة ومسئولية الحاكم إزاء الرعية نكررها هي هي؛ لأنها تعد على أصابع اليد الواحدة، في نفس الحادث السالف ذكره، قال عمر قولته الخالدة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
الكلام سهل؛ خاصة عندما يدلك العواطف؛ فما أحلى كلام الإنجيل عن المحبة والصفح الرائعين بلا شبيه ولا نظير، لكن محاكم التفتيش والحروب الصليبية قالت في الواقع قولا آخر مكتوبا بدم الأبرياء وصراخ الثكالى.
في التاريخ الديني يوجد نصان؛ أحدهما نظري خطابي إرشادي وعظي قصصي حكمي روائي عاطفي يخاطب القلوب والأرواح، والآخر هو ما تم تدوينه في الواقع فعلا وحدثا، وهو كما حدث في المسيحية حدث في الإسلام، ودونه المسلمون بأيديهم، كلون من الفخار والعزة والسؤدد ليفاخروا به التاريخ كله. وكلا النصين مقدس. وكلاهما عندما فعل في الواقع بالفعل البشري ونوازعه ورغباته أدى إلى احتلال البلاد والإسراف في القتل والاستبداد بالعباد، مع قهر وظلم بلا شبيه ولا نظير؛ لأنه تم تدوينه بدم الناس وأوجاعهم، وبالإبادات الجماعية الشاملة التي نسميها اليوم جرائم حرب ضد الإنسانية.
Page inconnue