L'État ottoman avant et après la constitution
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genres
ولا شك أن تلك الأعمال الخطيرة لو لقيت من الحكومة أقل عناية والتفات لقامت على أمتن ركن وأسهل سبيل، وسد الهندية أعظم دليل يستشهد به.
كان أهل الحلة يشكون عكس ما يشكو منه أهالي ولاية البصرة؛ فإن ترعة الهندية (المدعوة بهذا الاسم نسبة إلى أميرة هندية شيعية قدمت في أوائل القرن الماضي لزيارة مشهد علي والحسين في النجف وكربلاء، فراعتها قلة الماء فيهما فشقت هذه الترعة على نفقتها) أخذت تتسع على مر الأيام حتى تحولت إليها مياه الفرات وانحسرت عن جميع الأراضي الممتدة من المسيب إلى الحلة، فكان الخطب عظيما وضج الأهالي بالويل والثبور، وتبرعوا بتقديم النفقة والعمال فقبض عمال الحكومة المال جميعه وأنفقوا ربعه في العمل فأقيم سد لم يعش إلا أياما معدودات، فرجعوا إلى جمع المال مرة أخرى وفعلوا فعلتهم الأولى فأسفرت عن تلك النتيجة.
وسنة 1889 عين سري باشا واليا لبغداد، فخالف خطة سلطانه وطلب المال والمهندسين من الأستانة واستعان بوكلاء الأراضي السنية، فبادرت الحكومة بإرشاد سفارة فرنسا إلى إرسال بعثة علمية يرأسها شندرفر المهندس الفرنسوي فقدر النفقات اللازمة بثمانمائة ألف فرنك لا غير، وقد كان الولاة أنفقوا أضعاف ذلك المبلغ فلم يأت بثمرة، فأرصد المال في الحال وأقام شندرفر وأعوانه على العمل بعلم وإخلاص بضعة أشهر ، وانتهوا منه سنة 1890 فرجعت المياه إلى مجاريها وعمرت الحلة بعد أن كانت على قيد شبرين من الخراب التام، وحييت ألوف الأجربة من أملاك الأهالي ومستملكات الخزينة الخاصة - وهذا هو العمل الوحيد من نوعه في أيام الحكومة الغابرة.
على أنه لا يجب أن ننسى هنا تذرع المقربين بكل وسيلة من الظلم لتبييض وجوههم المسودة؛ إذ قام وكلاء الخزينة الخاصة بدعوى الحرص على المصلحة، فاستقطعوا الجانب الأعظم من أملاك الأهالي وأضافوها إلى الأراضي السنية، وكان جزاء المطالب بحقه المبيت في ظلمات السجون، ورحم الله إبراهيم الخكري فإنه مات بتلك الحسرة.
ذلك مجمل ما يقال بالإيجاز عن أرض العراق وحالتها الزراعية في الوقت الحاضر، ولقد يظن لأول وهلة - كما تقدم - أن أرضا هذه حالها من الإهمال وقلة الرجال لا يتسنى استحياؤها إلا بعد معاناة لأهوال ومرور السنين الطوال، فلا بد لدفع هذا الريب من إلقاء نظرة عامة على القبائل البادية المنتشرة في تلك الأصقاع.
فإذا نظرنا أولا إلى الفلاحين المشتغلين الآن بزراعة الأرض العامرة في العراقين العربي والعجمي رأيناهم جميعا من أبناء تلك القبائل العربية ومن بعض القبائل الكردية في أعالي البلاد يقبلون بجد ونشاط على حراثة الأرض من الفاو عند خليج العجم إلى ديار بكر بطريق دجلة وإلى مقربة من حلب بطريق الفرات.
فإذا تيسر لهم المال والأمن تحضروا ولبثوا في مواضعهم، وإلا فالبيداء غير بعيدة عنهم فيرجعون إلى بداوتهم، فالذين طال عهدهم بحراثة الأرض كالدواسر والعوامر قرب مصب شط العرب، والعيدان قرب البصرة في العراق العربي، وبني كعب على ضفته الشرقية في العراق العجمي يكادون لا يفترقون بشيء من طباعهم عن زراع الحضر إلا بشيء من النزعة البدوية يهبون إليها عند تفاقم الظلم، ويلحق بهؤلاء ألوف الفلاحين من عشائر المنتفق العديدة المنتشرة على شواطئ الفرات مما يلي سوق الشيوخ والسماوة والحلة وبني ربيعة فيما يلي كوت الإمارة، وهنالك عشائر كثيرة ممن يتراوح بين البداوة والحضارة تبعا لأحوال الزمان وسياسة الحكام كبني أسد وبني لام على دجلة وبطون وأفخاذ كثيرة من عشائر المنتفق على الفرات، ويلحق بهؤلاء بعض أفخاذ شمر والقبائل الكردية النازلة في صعيد العراقين.
وإنى مورد لك الآن برهانا حسيا يثبت لك سهولة الوسائل المؤدية إلى إقبال أبناء تلك العشائر بكليتها على حراثة الأرض.
إن للخزينة الخاصة في تلك البلاد أملاكا متسعة تعرف بالأراضي السنية، وليس من غرضنا الآن التعرض لتاريخها وطرق استملاكها، فنقصر البحث في كلمة عن فلاحها.
ارتأى وكلاء الخزينة الخاصة، ونعم الرأي ما ارتأوا، أن يخصوا فلاح الأراضي السنية بنعم تشوقه إلى الإقامة على حراثة الأرض؛ فأعفوه من الخدمة العسكرية، ووسعوا له في الرزق، وجعلوه بمأمن من تعدي الحكام، ورفعوا عنه جميع التكاليف العامة والخاصة؛ فاطمأن وأخلد إلى السكينة وانقطع إلى زراعته، فأخصبت أرضه فأشبعته فارتاح إلى الحضارة ونبذ البداوة نبذا مؤبدا، وأصبح في نعيم تحسده عليه سائر العشائر حتى بات كثيرون من رؤساء العشائر يتقربون ببذل المال رشوة إلى من يفسح لهم مجالا فيها ينزلونه ويقسمون الأيمان ويعطون الضمان على إخلاص النية وصدق الخدمة.
Page inconnue