L'État ottoman avant et après la constitution
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genres
وإن أئمة المسلمين إذا ربحوا الأجر العظيم والفضل العميم بإرشاد الخلق إلى هذا التوافق، ووطدوا بذلك أركان سلامة هذه الدولة ونهضتها نهضة لا تحسد عليها أمة من أمم الشرق والغرب؛ فإن رؤساء الدين المسيحي والإسرائيلي، على فرض أنهم لا ينظرون إلا إلى مصلحة أنفسهم دون مصلحة أبناء دينهم - ونعيذهم بالله من ذلك - فإنهم بلا ريب يعلمون أن لهم في بلاد الدولة العثمانية من الميزة والنعم والحرية ما ليس لزملائهم شيء من مثله في جميع بلاد الدول المسيحية. ولقد سمعنا بآذاننا منذ خمس سنوات كاثوليكيا ورعا من أعضاء مجمع العلوم - الأكاديمي - الفرنسي يخطب في نادي مدرسة الآباء اليسوعيين بمصر فيقول: هنيئا لكم يا كاثوليك هذه البلاد؛ فإنكم وإكليرسكم تتمتعون بعبادتكم بنعمة وحرية نتمنى أن يكون لنا بعضها في بلادنا بلاد الحرية، فلا تحسدونا أنتم وإنما نحن لكم من الحاسدين.
فليست بلاد الدولة العثمانية بأقل تمتعا بنعمة الحرية من مصر هذا الجزء اللاصق بها وليست امتيازات خدمة دينها بأقل من امتيازات رصفائهم في القطر المصري، فإنها جميعا مبنية على فرمانات السلاطين العظام.
غير أننا نخال الحكومة الدستورية عامدة عما قريب إلى النظر في تلك الامتيازات وتعديلها على ما يوافق روح الزمان، فلا يروعن ذلك عقلاء خدمة الدين، ولا يثبطن عزائمهم. بل فليتلقوه بالبشر وطيبة الخاطر؛ إذ كلما قربت مسافة المساواة بينهم وبين عامة الناس أحكمت علائق الود الصحيح بين الفريقين، وتسهلت لهم سبل القيام بمهامهم الشاقة.
ولقد طالما شكا الناس من بعض خدمة الدين استبدادا يضاهي استبداد الحكام، ولا غرو بذلك فإنهم ذوو سلطة وكل ذي سلطة أنس جهلا وضعفا بمن حوله مال إلى الاستئثار بالحول والطول. ولقد طالما قيل فيها أيضا ما يقال في ضعاف الحكام من سياسة التفريق حرصا على سيادتهم، على أنهم يعلمون الآن أيضا أن تلك السياسة إذا أفلحت يوما مع عجز الناس وغفلتهم؛ فإنها تحبط بلا ريب في بيئة اليقظة والقوة، فحفظ كرامتهم وكرامة المنتمين إلى مذاهبهم إنما يكون بوقوفهم موقف المرشد الأمين والناصح الموفق، ولم يخفهم ذلك فتنبهوا إليه في العهد الأخير، ولهذا هبوا يوم إعلان الدستور هبة واحدة، وكانوا مع الأمة يدا واحدة عاملة على إحكام الوئام. وهذا غاية رجاء الأمة بهم، فعسى أن يظلوا مثابرين على نهج هذا السبيل ولهم من الله والناس جميل الثواب وجزيل الثناء.
الدستور والمهاجرة
المهاجرة مهاجرتان: الجلاء أو هجرة السكان للبلاد، وعليه مدار كلامنا الآن، والاستيطان أو وفود الأجانب إليها للإقامة بها، وسنبسط البحث فيه بفصل آخر.
ليس في بقاع الأرض بقعة أخصب تربة وأصفى جوا وأجود ماء وأنقى هواء من معظم أجزاء السلطنة العثمانية، ولهذا كانت منذ القدم مطمع الرواد ومحط الرحال، فما بالها انقلبت حالها وقلت رجالها وعافها الغريب وفر أبناؤها مغتربين إلى أقصى الديار.
لا شك أن الحروب واختلال الأمن وتخاذل أبناء البلاد وظلم الحكام وجشع جباة الأموال وانتشار الأوبئة، كل ذلك مما هو متقدم عهدا على زمن الاستبداد الأخير، وكله من أسباب الانحطاط وتناقص السكان، غير أن الجهل من جهة، ووعورة المسالك وتعذر سبل الانتقال من جهة أخرى كانا يحولان دون المهاجرة، فيكل الناس أمرهم إلى الله، والوطن عزيز فيؤثرون الإقامة فيه مع تحمل الحيف على تجشم مشاق الاغتراب، وهم لا يجدون إليه سبيلا.
إذا ابتلاهم الله بحاكم ظالم يوما شكوا أمرهم إلى الله، وأملوا أن يخلفه ذو رأفة فينصفهم. وهكذا لبثوا راضين مقيمين مختارين أو مضطرين، ولكن استبداد الحكومة الغابرة خلق من أنواع المظالم ما لم يكن في الحسبان.
كان ظلم الحكام في سابق العهد لطمع بمال أو لكسر شوكة، وأما في العهد الأخير فزاد على ذينك السببين انتفاء كل سبب. كان خائف الظلم في الزمن السابق إذا كان ذا مال تدبر بحيلة لإخفائه أو استرضاء الظالم بجزء منه، وإذا كان ذا نفوذ واقتدار عمد إلى التذلل أو المجاهرة بالعدوان وهو بأرضه. وأما في عهد الحكومة الغابرة، فالغني والفقير والأمير والأجير والآمر والمأمور، كانوا على شفير الهلاك في كل لحظة لا ينفعهم حذر ولا تغنيهم حيطة، وهم لا يدرون متى تقرع الأبواب فتهجم اللصوص.
Page inconnue