L'État ottoman avant et après la constitution
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genres
ولقد كان رجال «المابين» مع تأييدهم الأجانب سرا بما خص مكاتب البريد يدأبون سرا أيضا على استمالة بعض عمال تلك المكاتب وإغرائهم بالمال؛ ليدفعوا إليهم بعض رسائل الأحرار. وإننا لا نزال نذكر الصيحة الشديدة التي صاحتها إحدى الدول بوجه عمال بريدها سنة 1894، ثم طردها أربعة منهم دفعة واحدة، ثم إصدار أمرها بأن لا يستخدم مكانهم أحد من العثمانيين، وذلك على إثر اكتشافها تواطؤ أولئك مع رجال «المابين» على دفع رسائل بعض الأحرار إليهم لقاء جعل معلوم عن كل رسالة، وإن أردتم مثالا أجلى فاسألوا أبا الضيا توفيق أفندي عما جرى له من مثل ذلك؛ إذ دعي إلى «المابين» في السنة المذكورة، وضيق عليه واستنطق من أجل مراسلة علمية وأدبية محضة جرت بينه وبين سيدة فرنسوية من ذوات الأقلام. ولا أزال أذكر عبارة له وقد اشتد به القنوط؛ إذ همس بأذني قائلا: وددت لو أني مت قبل أن أرى هذا الانحطاط الذي آل إليه أمر هذه الدولة، فالحر مضطر فيها أن يكون قاتلا أو مقتولا، ولقد اشتدت عليه المراقبة من ذلك الحين حتى انتهى أمره كفؤاد باشا بالإهانة والنفي.
ولو كان كل بحث يجلو كل حقيقة لاتضح الآن أنه كان لكل رجل من رجال «المابين» وأكثر رجال الدولة، حتى الوزراء؛ عمال من الأجانب ترد إليهم المراسلات وترسل التحاويل بواسطتهم في البرد الأجنبية، فتأتي الرسالة مثلا من بلجيكا بالبريد الفرنسي باسم الموسيو أدمون على الظرف الخارجي، ومن ضمنه ظرف آخر باسم محمد باشا؛ فيستلم الوكيل الكتاب ويسلمه لصاحبه يدا بيد. وعلى هذا النمط كانت المخابرة تجري بين مختلفي البلاد وعملائهم، وكذلك بين دعاة الحرية في أطراف البلاد الأجنبية.
ولقد كان أمر المراقبة شائعا بين الناس، حتى كان الصديق إذا بعث برسالة سلام وتودد إلى صديقه يحسب أن عينا أثيمة تنظر إلى كتبه وتحلله وتشرحه قبل أن يقع تحت نظر صاحبه، فيودع كتابه من العبارات ما يدرأ شر الوشاة وشبهات المتعنتين. ولو توالت هذه المراقبة لأنتجت فوق مضارها المعروفة لدى كل الناس اختلالا في إنشاء الكتاب وأجرت على أقلامهم عبارات الرياء والمداهنة؛ لأن الرسائل التي كان يخشى أصحابها فض ختمها قبل تسليمها إلى أصحابها كانت تستهل وتختم بالأدعية والثناء على رجال «المابين» وعملهم، وكل من الكاتب والقارئ يخط ويقرأ كذبا وتدليسا.
وكانت لهم مهارة مذكورة بفتح التحارير وفض الأختام ولو كانت بالشمع، حتى يخيل لك أنهم لو استفادوا من البخار والكهرباء وسائر مخترعات العصر ما استفادوه من الإحاطة بجميع وسائل فض الأختام؛ لرقوا بالبلاد درجات. وكانوا بعد فض الرسائل التي يختارونها يحكمون ختمها، وإذا خلت من شبهة دفعت إلى صاحبها وأكثرها غير باد عليه أثر التلاعب، ولم تكن تلك المراقبة خلوا من كل فائدة، وإليك مثالا على سبيل التفكهة: بعث إلي صديق من بغداد كتابا، ونسي أن يضيف اللقب إلى الاسم على الظرف؛ فلم يكن عليه إلا اسم سليمان، وفي الأستانة ألوف سليمانات، ومع ذلك فالكتاب وصلني لوجود الاسم واللقب معا داخل الكتاب؛ فشكرتها لهم منة عظيمة لما كنت أتوقعه بذاهب الصبر من أخبار صاحبي.
ولم يكن ممكنا بوجه من الوجوه أن تحيط المراقبة علما بكل المراسلات المتداولة في البلاد؛ لأن ذلك يستلزم إرصاد ألوف العمال وبذل ملايين النقود؛ ولهذا كانوا يقتصرون على فتح رسائل الذين يوجسون خوفا من مرور نسمات الحرية على أدمغتهم، والذين يودون الغدر بهم على هذا الأسلوب الدنيء. وكم من مرة علمنا أن فلانا سجن وكبل بالحديد لورود رسالة إليه تشير إلى مؤامرة أو مكيدة أو إلى انخراطه بسلك تركيا الفتاة، ولم يكن له سابق علم بتلك الرسالة ولا علاقة له مع صاحبها ولا خطر على باله شيء من محتوياتها، وإنما هو شرك ألقاه له أبناء الشر بإيعاز أو بغير إيعاز، فسطروا تلك النميقة على هواهم، ثم أتبعوها بتلغراف إلى صاحب الشأن ينبئونه أن صاحبهم سيئ النية خبيث الطوية، يثبت ذلك ما بينه وبين أعداء الدولة من التضافر على إثارة الفتن؛ فتضبط الرسائل الذاهبة إليه وتفتح ويحكم بثبوت تلك التهمة الفظيعة بمجرد هذه الوشاية. ومن ذا الذي يجسر أن يشفع بمن سيق مصفدا بالسلاسل من أجل تهمة هذا شأنها .
ومن نتائج تلك المراقبة أيضا تعطيل المصالح في المدن الكبيرة لامتناع الحكومة عن السماح بإنشاء مكاتب البرد الداخلية، وكم من مرة ضجت الأستانة لهذا التضييق حتى كان المضطر إلى إرسال كتاب من محلة إلى أخرى يعمد إلى استئجار السعاة. بل ربما كنت إذا أردت أن ترسل كتابا من بك أوغلي إلى إستانبول تجشمت من الصعوبة فوق ما تتجشم بإرساله إلى باريز، وصرفت من الأجرة عشرة أضعاف. فلما بلغت تشكيات الأهالي عنان السماء أقيمت مكاتب البريد الداخلي في الأستانة خاصة، وما لبثت أياما حتى صدر الأمر بإلغائها؛ خشية أن تسهل على دعاة الإصلاح حرية التخاطب ثم أعيدت بإلحاح من الأجانب وبعض ذوي النفوذ على أن لا تقبل إلا التذاكر المفتوحة.
فمن يعجب بعد هذا لتدني دخل هذه الإدارة المختلة وذهاب معظمه إلى المكاتب الأجنبية؛ فكأن حكومة «المابين» آلت على نفسها أن تعبث بكل مورد من موارد البلاد بالحجر على الحرية على طرق شتى، وليس من الصعب تصور ما سيكون من ازدياد موارد الثروة باستتباب الأمن والعدل.
ليست إدارة البريد من موارد الثروة العظيمة، ومع هذا فخذ مثلا ضعيفا عن علاقة البريد العثماني بالبريد المصري، فإن مصر - على كونها محسوبة من أجزاء الممالك العثمانية - كانت في نظرها غولا رواعا يمنع مأمورو الدولة من المرور به، بل ربما تحاشوا ذكر اسمه. والرقابة على بريده بلغت أعظم المبالغ، ولهذا كان يضطر أرباب المصالح في الأساكل إلى جعل كل مخاطباتهم بواسطة البرد الأجنبية. وأما في المدن الداخلية كمصر القاهرة، حيث لا مكتب لبريد أجنبي؛ فإن الرسائل تذهب منها رأسا إلى البلاد العثمانية بعد مرورها على الإسكندرية أو بورسعيد. ولهذا كان أصحاب المصالح يتكبدون مشقتين ويصرفون الأجرة ضعفين إذ يبعثون برسائلهم بالبريد المصري إلى إحدى الأساكل، ومن ثم تفض ظروفها وتوضع عليها الطوابع الأجنبية. ولم يكد الدستور يعلن حتى بدا الفرق وظهر الغبن الفاحش؛ فإني أعرف محلا واحدا حصل له من الوفر بعد إعلان الدستور زهاء ثلاث ليرات في الشهر. أما الذي يربحه البريد العثماني بهذا الإصلاح فليس مما يستهان.
وإن ما قيل في إدارة البريد يصدق معظمه على إدارة التلغراف، وإن كانت مكاتب تلغراف الأجانب غير متشعبة في البلاد العثمانية كمكاتب بردهم، ولكنه حسبنا أن يكون في قلب العاصمة مكتب تلغراف أجنبي، وأن يكون للأجانب مكتب آخر في الفاو الواقعة في منتهى أملاك الدولة على خليج فارس، ولا بد أن نذكر استطرادا وأن نبلغ بعد محل البحث في اختلال إدارة البلاد أن الخسائر متطرفة إلى الدولة من كل أبواب مواردها، ومن جملتها خسارة أجرة الرسائل التلغرافية المتبادلة بين أوروبا والهند فممر طريقها الطبيعي على بغداد وفيه لأصحاب تلك الرسائل ونفس الحكومة الإنكليزية وفر عظيم، ومع هذا فقد أدى اختلال الإدارة إلى تحويل هذا المورد إلى طريق السويس.
حرية الجمعيات
Page inconnue