L'État ottoman avant et après la constitution
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Genres
وما كانت رقابة المراقبين - وإن اطلعوا على جميع ما يكتب قبل الطبع - لتخفف من أخطار العقاب، فكم من جريدة ألغيت أو أوقفت لزمن محدود أو غير محدود لخبر روته عن جرائد أوروبا ينبئ بمقتل وزير في الصين أو أمير في أفريقيا، أو اختراع ذكرته لآلة تطير في الهواء، أو غواصة تسير تحت الماء، بل كم من مرة فاجأ الجريدة الأمر «بتعطيلها» وظل صاحبها يبحث أشهرا، فلا يعلم لذلك سببا غير «الإيجاب»، بل كم من مرة انقضت الصواعق على رأس الصحافي لجهله أن هذه الكلمة أو تلك قد انتزعت بحكم الاستبداد من معجم الألفاظ الكتابية: كالقانون الأساسي، والخلع وما اشتق منه، والجمهورية، والديناميت، والثورة، والإنصاف، والحرية. أو إن عبارة أو جملة وجب حذفها من أبواب الإنشاء كقولك: العدل أساس الملك، والظلم مرتعه وخيم، والحرية منتهى غايات الأمم. بل الويل كل الويل لمن ذكر حرفا عرف به علم مشهور: كعبد العزيز، ومراد، ورشاد، بل كم لنا بإزاء هذه المبكيات من طوارق المضحكات.
خذ أعلام الأسماء وألقاب الأسر في البلاد تر مثلا: أسرة السلطاني معروفة في سوريا، ومنها رجال من ذوي المكانة بين مأموري الدولة، أفيتصور ذو عقل أن كتابة اللقب على هذا الهجاء تهدم قوام المملكة فيحول - رضي أصحابه أم غضبوا - إلى «سلتاني» مرة، وإلى «سلطا» مرة أخرى. ومن ذا الذي يقول بخراب الملك إذا دعا أحدهم رجلا باسمه ، وقد سمي «خليفة» وهو اسم بات على شيوعه من الأسماء المحظور استعمالها، ومن ذا الذي يصدق لو لم تثبت الحقيقة صدق المقال أن بيت «الشوكتلي» المعروف بحلب لا تجسر جريدة ولا مقام رسمي أن يذكره بهذا اللفظ، حتى اضطر أصحابه إلى اتخاذ لقب النحاس بدلا منه؟!
أما المقالات السياسية فباتت من أمثال العنقاء، تذكر ولا ترى، وبات العثمانيون وهم يقرءون في جرائدهم القليلة نتفا من أخبار الدول، ويقرءون شيئا عن سياسة بلادهم وإدارتها إلا ما أشير به إلى نعمة سلطانية أو تعيين وال أو مأمور أو أدعية متوالية تشف عن غل شد في أعناق الصحافيين وقادهم - وهم صاغرون - في سبيل لا يتاح لهم أن يفلتوا وهم سائرون فيه يمينا وشمالا. ولهذا لم يكن في البلاد من ينكر عليهم هذا الصغار، بل كان الناس ينظرون إليهم نظر الأسير المشفق على أسير آخر بإزائه. ولقد طالما شاقنا استطلاع الأخبار فتسقطناها من بريد أجنبي أو جريدة في سفارة أو دار قنصلية. وسئم الناس قراءة جرائد بلادهم كما سئم محرروها كتابتها على هذا النهج، وفي ذلك يقول أحد أدباء الأتراك متهكما بتوريد لطيف على كل جرائد الأستانة وقتئذ:
سعادت چون طريق كذب دايم ارتكاب إيلر
أوصاندق ترجمانك شيوه طرز إداسندن
مروت تروت آساهپسي قالقسون أورطه دن ديركن
ينه بر ... ظهور إيتدي صباحك ما وراسندن
وليس هذا كل البلاء إذ لو حرمت علينا الكتابة في جرائدنا، وأبيحت لنا قراءة الصحف المنتشرة في سائر الأقطار لقلنا: شر أهون من شرين، ولكن هيهات ... حظرت المراقبة قراءة كثير من الجرائد المنتشرة في كل بلاد الله، ولا سيما ما صدر في مصر أصدق البلاد ولاء للخلافة الإسلامية والأمة العثمانية. كأن معظم البلاء وقع على رءوس الأصدقاء، دونك أصحاب الجرائد في مصر؛ فاسألهم ينبئوك بما عانوا من المشقة في السعي بالإفراج عن جرائدهم وإباحة قراءتها للعثمانيين في بلادهم. دع المقطم وما جرى على خطته ولنلتمس لرجال «المابين» عذرا في الحقد عليه لقيامه على نقد أعمالهم والتنديد بهم . بل فلنسبل سترا على ما أنزلوا على القلوب من الرهبة منه، وما تفننوا به من ضروب العذاب الأليم عقابا لمن وجد في بيته أو عثر بين ثيابه ولو على قطعة منه اتخذها لفافة لمنديله، وهو على سفر من مصر كما جرى لذلك الشامي الأمي، فسل أهل الشام كافة يخبروك كم لبث في السجن، وكم قاسى من أنواع العذاب لتلك الجريمة وهو لم يقرأ بحياته جريدة ولا كتابا، بل التقط تلك الورقة وهو لا يعلم أهي صحيفة من كتاب أو كشف حساب.
دع، إذا، أشباه المقطم وانظر المؤيد واللواء؛ فهل عرفت قبلهما أو بعدهما صحيفة أشد تمسكا بالعرش العثماني وأعظم تفانيا في خدمته، فهل أتيح لهما إرسال جريدتهما إلى البلاد العثمانية مع ما فيها من كثرة طلابهما؟ وإني لا أزال أذكر حديثا لي مع مؤسس اللواء إذ سألني أحد أصدقائي من باشوات العراق أن أمكنه من الحصول على جريدة اللواء، فقال لي - رحمه الله: يسوءني أن يكون ذلك أمرا محظورا، ولست أعلم له سببا، كل هذا لأن اللواء والمؤيد يرددان على صفحاتهما ذكر الحرية والدستور والاستقلال والمجلس النيابي، وما أشبه من الألفاظ التي تنبه الشعور في عرف الناس، «وتخدش الأذهان» في عرف رجال «المابين.»
ذلك كان جزاء المحبين للحكومة الغابرة، القائمين على ولائها من أرباب الجرائد سواء كانوا في قبضة يدها أو خارج سلطتها.
Page inconnue