45

102

وليس الطرف الذي هو مبعث العاطفة مؤلفا من الصفة التي تعمل على توليد العاطفة فحسب، بل إن هيوم ليفرق بين هذه الصفة وبين «الموضوع» الذي تكون هذه الصفة قائمة فيه؛ ولا بد في جميع الحالات أن يكون هذا «الموضوع» مركبا من عدة عناصر، تكون إحداها فكرة النفس؛ إذ ما الصفات التي تثير فينا عاطفة الزهو؟ إنها تكون واحدة من ثلاثة أنواع: فهي إما أن تكون صفة نفسية من صفات النفس ذاتها، كالفطنة والرأي الثاقب والعلم والشجاعة والعدل؛ وإما أن تكون موهبة جسدية تتصف بها النفس أيضا، كالجمال والقوة وإجادة اللعب بالرمح وما إلى ذلك؛ أو أن تكون صفة تصف شيئا أو شخصا - ليس هو النفس ذاتها - ولكنه متصل بها على نحو ما، كالأبناء والأقرباء ومنازلنا وحدائقنا والوطن الذي ننتمي إليه وهكذا، في هذه الأنواع الثلاثة من الصفات التي تثير فينا عاطفة الزهو، نلاحظ أن «الصفة» التي هي مثار العاطفة تكون قائمة في «موضوع» مما يتصل بالنفس على صورة من الصور، كأن تكون النفس جزءا منه، أو أن يكون هو في حيازة النفس أو على علاقة بها؛ مثال ذلك حين يشعر صاحب منزل بالزهو بمنزله، فالصفة التي تثير فيه هذا الزهو هي الجمال - مثلا - لكن هذا الجمال لا بد أن يكون قائما في موضوع الزهو الذي هو المنزل في هذه الحالة، فما كل جمال في أي منزل يثير في الرائي زهوا، بل يتحتم أن يكون «الموضوع» على صلة بالنفس، فالمنزل في هذا المثل ملك للنفس الشاعرة بالزهو، ولو لم تكن هنالك هذه العلاقة لاكتفى صاحب النفس بالتمتع بالجمال، ولم يكن في الموقف عاطفة الزهو بموضوع ذلك الجمال؛ فإذا أريد للشعور بالنشوة إزاء الشيء الجميل أن يقترن بالشعور بالزهو، فلا مناص من أن تكون نفس صاحب هذا الشعور جزءا من الموضوع الباعث عليه.

ونقيض الصفات التي ذكرناها باعثة على الشعور بالزهو، هو صفات - إذا ما وجدت في شيء ما - بعثت على الشعور بالضعة؛ أعني أنه إذا وقف الإنسان إزاء شيء فيه ما يدل على الغباء وخطل الرأي والجهل والجبن والظلم والقبح والرذيلة ... إلخ، ثم إذا كانت نفسه متصلة على نحو ما بذلك الشيء الذي تكون تلك الصفات صفاته، أثار فيه الشعور بالضعة.

وهكذا يجعل هيوم «نفس» الإنسان عنصرا من عناصر الموقف عند الشعور بالزهو أو الشعور بالضعة، وذلك بمعنيين، فهي عنصر في الموقف باعتبارها جزءا من الموضوع الذي يثير ذلك الشعور، ثم هي كذلك عنصر في الموقف باعتبارها الهدف الذي يستهدفه ذلك الشعور؛ أو إن شئت فقل إن «النفس» - نفس الإنسان الشاعر بعاطفة الزهو أو الضعة - هي جزء من سبب تلك العاطفة، وهي وحدها المتعرضة لما تحدثه تلك العاطفة من أثر.

فكأنما الشعور بالزهو أو بالضعة مرحلة تبدأ من النفس وتنتهي إلى النفس، تبدأ منها باعتبارها جزءا من موضوع مركب متعدد العناصر، هو الموضوع الذي يثير العاطفة، وتنتهي إليها وهي قائمة وحدها؛ وبين البداية والنهاية خطوتان شعوريتان، أولاهما الشعور بالنشور والارتياح في حالة الزهو، وبالانقباض والقلق في حالة الضعة، وثانيتهما اقتران تلك النشوة أو هذا الانقباض بالذات بحيث يتولد في النهاية زهو أو ضعة.

هذا التحليل لعاطفتي الزهو والضعة هو نفسه الذي يطبقه هيوم على عاطفتي الحب والكراهية، مع فرق واحد، وهو أن «النفس» التي يتحتم أن تكون جزءا من الموضوع الباعث على العاطفة، كما يتحتم أن تكون هدفا تنصب عليه العاطفة، هي نفس صاحب العاطفة في حالة الزهو أو الضعة، لكنها تكون نفس شخص آخر في حالة الحب أو الكراهية؛ فأنت تزهو بنفسك أنت وتشعر بضعة نفسك أنت، لا بنفس إنسان سواك، لكنك إذ تحب أو تكره فإنما تصب الحب أو الكراهية على نفس أخرى لا نفسك أنت.

لا بد في حالة الحب أو الكراهية - كما هي الحال في حالة الزهو والضعة - من موضوع خارجي يثير العاطفة، والموضوعات التي تثير الحب والتقدير كثيرة، منها الفضيلة والمعرفة والفطنة والرأي الصائب وروح الفكاهة الجيدة؛ وأضداد هذه الموضوعات تثير الكراهية والازدراء.

103

وكذلك يثير الحب والتقدير صفات جسدية معينة كالقوة والجمال والرشاقة وما إليها، وأضدادها تثير كذلك الكراهية والازدراء.

على أن هذه الموضوعات الكثيرة المختلفة لا بد أن تشترك كلها في أنها تكون على صلة سببية بالشخص المحبوب أو المكروه، كما تشترك كلها كذلك في أن من خصائصها ما يبعث على الشعور باللذة والارتياح أو بالألم والقلق.

Page inconnue