والأمر في الجزء المضاف أو الجزء المحذوف، هل هو كبير ملحوظ أم هو صغير غير ملحوظ، أمر نسبة، فقد تضيف جبلا بأسره إلى كوكب ومع ذلك تقول إن الكوكب لم تتغير ذاتيته ولم ينقطع وجوده المستمر على حالة واحدة، بينما قد تضيف جزءا صغيرا أو تحذف جزءا صغيرا من جرم صغير فيظهر التغير ظهورا واضحا يحملنا على القول بأن ذلك الجرم لم يعد هو هو، بل أصبح شيئا آخر ... الأمر كله موكول إلى سهولة انتقال الفكر بين الحالة قبل حدوث التغير والحالة بعده، فإن كان انتقالا سهلا، حكمنا بأن الشيء ما يزال محتفظا بذاتيته، وإن كان متعذرا متعثرا حكمنا بزوال ذاتيته.
يؤيد هذا أن التغير الطارئ، حتى إن كان تغيرا جسيما في النهاية، لكنه حدث متدرجا في بطء لم نتمكن معه أن نلحظ التغير إلا بعد أن تبعد الشقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، فإننا خلال تغير كهذا نظل نحكم بأن الشيء محتفظ بذاتيته وذو وجود متصل؛ ذلك لأن انتقال الفكر من حالة إلى الحالة التي تليها سهل بحيث لا نتنبه عند كل مرحلة أنها مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها؛ هكذا نظل خلال التغيرات المتدرجة، حتى إذا ما بعدت الشقة بين الحلقة الأولى والحلقة الأخيرة، فها هنا نستيقظ إلى ما قد حدث من اختلاف، ونأخذ في الارتياب والتشكك بأننا في الحقيقة قد أصبحنا إزاء شيء آخر مختلف عن الشيء الأول، وأنه لم تعد بين الشيئين ذاتية تمسكهما معا في كائن واحد.
وكذلك مما يميل بخيالنا إلى توهم الذاتية في أجزاء الشيء الكثيرة، أن يكون لهذه الكثرة من الأجزاء هدف واحد، فافرض مثلا أننا قد غيرنا بعض الأجزاء في سفينة، فإننا سنظل نقول عن السفينة إنها هي هي لم تتغير، لأن أجزاءها - قديمها وجديدها - ما زالت مجتمعة على هدف واحد، ومن ثم يسهل على الفكر أن ينتقل من حالة السفينة قبل إصلاحها إلى حالة السفينة بعد إصلاحها، فيحكم عليها بالتالي أن لها ذاتية واحدة لم تتغير.
ولئن كان الشيء الجامد - كالسفينة في المثل السابق - ترتبط أجزاؤه في ذاتية واحدة بسبب اشتراك تلك الأجزاء في هدف واحد، فإن الكائن الحي - نباتا كان أو حيوانا - ليضيف إلى هذا الاشتراك في الهدف عنصرا آخر، وهو أن الأجزاء معتمد بعضها على بعض، وبهذا يزداد خيالنا إمعانا في توهمه بأن أجزاء النبتة الواحدة أو الحيوان الواحد مصبوبة كلها في ذاتية توحد بينها في كائن واحد، حتى إن النبتة الواحدة أو الحيوان الواحد قد يصيبه من التغير على مر الزمن ما يجعله جد مختلف عما كان عليه في كثير من الوجوه، ومع ذلك يظل الإنسان يحكم عليه بأنه ما يزال هو هو لم يتقطع مجرى وجوده، ولا زالت عنه فرديته وذاتيته؛ فشجرة البلوط التي تنمو من نبتة صغيرة حتى تصبح شجرة جبارة، نقول عنها إنها ما زالت - رغم هذا الاختلاف البعيد بين الطرفين - هي هي شجرة البلوط الواحدة، مع أنه لم يعد من وجودها الأول ذرة واحدة على حالها، ولا احتفظت بشيء من هيئتها الأولى؛ وقل ذلك بعينه في الرضيع يصبح رجلا، وفي الرجل تزيد بدانته أو يصيبه الهزال، فسنظل نقول عنه إنه هو هو بعينه ذلك الذي كان؛ إذ نزعم له ذاتية واحدة دائمة متصلة.
90
مبدؤنا - إذن - هو أن الذاتية التي نخلعها على أي شيء لنجعل منه كائنا واحدا، على الرغم من أنه في حقيقته مجموعة كبيرة من حالات مختلفة، إنما تنشأ حينما يكون انزلاق الخيال خلال هذه الحالات سهلا يسيرا، فتوهمنا سهولة الانتقال من حالة إلى الحالة التي بعدها فالتي بعدها وهكذا، بأن هذه الحالات في حقيقتها كائن واحد ذو ذاتية واحدة؛ ولا نستيقظ إلى حقيقته المتكثرة إلا حين يعسر هذا الانتقال.
ولنضرب بعض الأمثلة الموضحة: إذا سمعت صوتا متقطعا تفصل أجزاءه فترات من سكون، فهذه كثرة من أجزاء ولا شك، لكنك ستقول عن هذه الأجزاء المتعاقبة المتقطعة إنها صوت واحد، وذلك لما بين الأجزاء الصوتية من تشابه يسهل على خيالك الانتقال من جزء صوتي إلى الجزء الذي يليه؛ مع أن حقيقة الأمر هي أن الأجزاء الكثيرة لا تصبح خطا صوتيا واحدا بسبب التشابه، بل تظل أجزاء كثيرة كما هي، لكنه وهم الإنسان سرعان ما يحول ذاتية التشابه إلى ذاتية عددية، أي إنه سرعان ما يجعل من الأجزاء التي تربطها صلة الشبه جزءا واحدا متصلا.
ومن هذا القبيل نفسه أن تقول عن كنيسة معينة - مثلا - إنها لا تزال هي هي الكنيسة التي كانت بادئ ذي بدء، على الرغم مما قد يحدث من هدمها وإعادة بنائها؛ فقد تكون الكنيسة في حالتها الأولى مبنية بالطوب الأحمر، ثم تهدم ويعاد بناؤها بنوع آخر من الحجر، بل قد يعاد بناؤها على طراز آخر من فن البناء، ومع هذا الاختلاف بين حالتيها في مادة البناء وطرازه، لا بأس عندك في أن تقول عنها إنها هي هي الكنيسة هدمت وأعيد بناؤها، لمجرد كونها تنتمي - مثلا - إلى فئة معلومة من الناس، أو إلى إقليم كنسي معين؛ فإلى هذا الحد البعيد قد يتجاهل الإنسان وضع الأمور على حقيقتها، وهو أنهما كنيستان لا كنيسة واحدة ، ليوحد بين الحالات المتعاقبة في ذات واحدة إن كان لخياله ما يبرر هذا التوحيد.
وانظر إلى النهر كيف يتغير ماؤه وتتغير شطآنه تغيرا سريعا، حتى ليستحيل أن يظل على حاله يوما واحدا، ومع ذلك ترانا نغضي عن هذه الحقيقة لنضم هذه الحالات المختلفة المتعاقبة في نهر واحد ذي ذاتية واحدة؛ فيكفي - مثلا - أن يكون التغير أمرا متوقعا في ماء النهر ليمضي هذا التغير دون أن يثير اهتمامنا ويوقظ انتباهنا، ولو كان التغير مفاجئا وملحوظا لجاز لنا أن نتنبه لحقيقة الحال فنعلم أننا إزاء حالات كثيرة لا إزاء حالة واحدة مستديمة ثابتة؛ وهكذا كلما سنحت الفرصة لفكر الإنسان أن يغضي عن التغير الحادث في الشيء، كان أميل إلى الاعتقاد بأن ذلك الشيء كائن واحد ذو ذات واحدة ووجود واحد.
91
Page inconnue