كنا حتى الآن نتحدث عن طرفين من أطراف الخبرة، أما أولهما فالانطباعات التي ينطبع بها الإنسان بما يعطاه من خارج، وأما الآخر فالأفكار التي هي الصور الذهنية لتلك الانطباعات بعد غياب بواعثها؛ فالفكرة هي انطباع فترت قوته وبهتت ألوانه، والانطباع هو فكرة في حالة نصوعها ووضوحها؛ ها أنا ذا أنظر إلى شجرة خلال نافذتي، فما عندي منها - طالما أشخص إليها ببصري - هو انطباع، ثم أحول عنها البصر محتفظا بصورتها في ذهني، فما يكون عندي منها عندئذ هو فكرة.
لكن الفكرة المتخلفة في أذهاننا عن انطباع معين لا تظل على درجة واحدة من الوضوح مع توالي الزمن؛ إذ قد يصيبها الوهن والضعف، أو أنها قد تحتفظ بمعظم ما كان لها من قوة نصوع حين كانت انطباعا على إحدى الحواس؛ وإذن فتستطيع أن تقول إن هناك ثلاث درجات متوالية في درجة الوضوح، أوضحها هو الانطباع حالة وقوعه على الحاسة، وأبعدها عن الوضوح هو الفكرة حين يصيبها مر الزمن بالهزال والخفوت، وبين الطرفين مرحلة وسطى، هي الفكرة حين لا يكون لها كل الوضوح الذي كان للانطباع، كما لا يكون لها كل الغموض الذي يصيب بعض الأفكار؛ فإن كانت الفكرة التي تستعيدها من خبراتك الماضية هي من النوع الوسط فتلك ذاكرة، وأما إن كانت من النوع الذي بهت لونه وغمضت حدوده، فذلك خيال.
35
فإذا ما أردنا التمييز بين «الذاكرة» و«الخيال» فذلك لا يكون بالتفرقة بين ما يكون كلا منهما من عناصر بسيطة، فلا نقول مثلا إن الذاكرة قوامها كذا وكذا من العناصر، أما الخيال فقوامه كيت وكيت؛ وذلك لأن كليهما عناصره البسيطة واحدة، مستمدة من مصدر واحد هو الانطباعات التي تقع على الحواس؛ إذ ليس ثمة من مصدر آخر؛ فإن كانت الأفكار المستعادة بالذاكرة قوامها ألوان وطعوم وأشكال وما إلى ذلك مما تأتي به الحواس عن طريق انطباعاتها فكذلك الأفكار التي نقول عنها إنها خيال هي الأخرى قوامها ألوان وطعوم وأشكال وما إلى ذلك مما تأتي به الحواس عن طريق انطباعاتها أيضا.
كلا ولا هو ترتيب تلك العناصر البسيطة ما يميز الذاكرة من الخيال، فليس من الصواب أن نقول إن الخيال يختلف عن الذاكرة في أنه يغير ويبدل من ترتيب العناصر كما قد جاءت بها الانطباعات أول الأمر؛ لأنه وإن يكن الخيال قد يختلف فعلا عن الذاكرة في أن هذه الأخيرة تحتفظ بالترتيب الأصلي للأفكار سابقا قبل لاحق، وأن الخيال يقدم في الأوضاع الأصلية أو يؤخر كيف شاء، إلا أن هذا الفرق وحده لا يكفي للتمييز بينهما؛ إذ كيف تستطيع استعادة الانطباعات الأولى بترتيبها بحيث تنظر إليها مقرونة إلى تذكرها، لتقول إن كانت قد احتفظت في الحالتين بترتيب واحد أو لم تحتفظ؟ ذلك محال، بل هو تناقض في القول، لأنك إذا ما استعدت الانطباعات الأولى فتلك ذاكرة فكأنما أنت تقرن ذاكرة إلى ذاكرة لتقيس الثانية بالأولى!
وإذا كانت الذاكرة لا تتميز من الخيال على أساس المقومات البسيطة لكل منهما، ولا على أساس الترتيب الذي تتخذه الأفكار في الذهن، إذن فلم يبق إلا أنهما متميزان على أساس درجة النصوع والوضوح والقوة؛ فتخيل ما شاء لك الخيال أن تتخيل من مغامرات لك في الماضي، فلن يختلف ما تنشئه بخيالك عما تستذكره من الخبرات الماضية الحقيقية إلا في كون الخيال أخفت وأبهت وأكثر غموضا.
36
فكثيرا ما يحدث لشخصين أن يشهدا منظرا بعينه، حتى إذا ما مر الزمن، استعاده أحدهما بالذاكرة واضحا جليا، على حين يظل الثاني ناسيا له، فيأخذ زميله الذاكر في تذكيره بتفصيلات المنظر، فيذكر له زمانه ومكانه وشتى تفصيلاته وأجزائه، ويظل الناسي على نسيانه؛ لكن هذا النسيان لا يمنعه من أن يرسم لنفسه صورة بالخيال مكونة من الأوصاف التي يذكرها له صديقه الذاكر؛ ويمضي الصديق الذاكر في تغذية زميله الناسي بتفصيلات جديدة، ويمضي هذا في إكمال الصورة التي يرسمها لنفسه بخياله مما يسمع من تفصيلات، حتى يحدث أن يذكر الصديق الأول حقيقة معينة، فتصحو الذاكرة عند صاحبه بغتة، ويتذكر كل شيء؛ ها هنا تنتقل الصورة التي كان قد رسمها مستعينا بالتفصيلات التي ذكرها له صديقه، تنتقل هذه الصورة من خيال إلى ذاكرة، فهل تتغير تفصيلاتها بهذا الانتقال؟ أم هل تتغير العناصر في ترتيبها؟ قد لا يكون هذا ولا ذاك، لكن الذي يتغير حتما بانتقال الصورة المرسومة من خيال إلى ذاكرة هو درجة النصوع، ففجأة يصب عليها ضوء جديد، وإذا هي أوضح جدا مما كانت وأنصع.
37
الذاكرة لا تختلف أساسا عن الخيال إلا في أن فكرتها أوضح وأجلى، فإذا ما أراد مصور أن يصور إنسانا ذا عاطفة معينة أو انفعال معين، كأن يصوره غاضبا أو خائفا أو محبا أو حاقدا، فخير له أن يتذكر شخصا معينا وهو في الحالة التي يريد المصور أن يصورها، لأن ملامح العاطفة التي يراد رسمها تكون أمامه عندئذ أوضح جدا مما لو ترك نفسه للخيال وحده يحاول به أن يحدد تلك الملامح؛ نعم إنه حتى حين يترك نفسه لخياله، فلن يتقيد إلا بما كانت انطباعاته قد جاءته به من خبراته الحسية، لكن صور الخبرة الماضية في حالة الخيال تكون أشد غموضا منها لو استعيدت بالذاكرة متمثلة في شخص معين أو موقف بذاته؛ وكلما كانت هذه الذاكرة أقرب زمنا إلى وقت حدوث الانطباع كانت أكثر وضوحا؛ ولكن اترك الأعوام تمضي، وسيمضي معها وضوح ما كنا خبرناه وذكرناه حيا نابضا، إنه بمر الزمن سيمحي كثير من تفصيلاته ويغمض كثير من جوانبه، حتى ليحدث كثيرا أن يختلط الأمر علينا عندئذ فلا ندري أتكون الصورة الماثلة في أذهاننا بهذا الفتور والضعف ذاكرة أم خيالا.
Page inconnue