فليس منا من لا يعرف الفرق الواضح بين الإدراك العقلي عند من يعاني لذع الحرارة الشديدة، أو من ينعم بالدفء، وإدراكه العقلي حين يستعيد ذلك الرجل نفسه ذكرى ما قد عاناه من لذع أو ما قد نعم به من دفء؛ فهذه الذكرى إنما تجيء على غرار ما قد أحسه الإنسان عند الانطباع الأول المباشر، لكنها يستحيل أن تبلغ من حيث القوة والوضوح ما قد بلغه ذلك الانطباع؛
2
فالتفرقة إذن واضحة بين إحساسي بالشيء حين أكون على صلة مباشرة به، وبين صورته أستعيدها في ذهني حين لا يكون الشيء نفسه قائما على مشهد مني أو مسمع؛ فها أنا ذا أنظر إلى الغرفة التي أنا الآن جالس فيها، فلا أتردد في أني أحسها بالرؤية إحساسا مباشرا؛ ثم ها أنا ذا أستعيد في ذهني صورة غرفة في منزل صديق زرته بالأمس، فلا أتردد كذلك في أن ما قد استحضرته في الذهن إن هو إلا صورة شيء ليس الآن على صلة مباشرة بحواسي؛ ويستحيل أن يختلط علي الأمر في أي من الحالتين، بل إني لأفرق تفرقة لا موضع فيها لشك بين ما هو «انطباع» وما هو «فكرة» «اللهم إلا إذا اختل العقل عن مرض أو جنون»
3
فعندئذ فقط قد تتشابه علينا الحالات فلا ندري أيكون ما ندركه إحساسا لشيء أمامنا أم تصورا لفكرة في رءوسنا؛ أما في الحالات السوية فالإدراكان متميز أحدهما من الآخر بما بينهما من فرق بعيد في درجة الوضوح، وأقصى ما يمكن أن تبلغه الصورة الذهنية، أو «الفكرة» باصطلاح هيوم، فهو أن تدنو في وضوحها من الأصل، لكنها محال أن تساويه، وإن الإنسان إذا ما أراد أن يصف فكرة في رأسه عن شيء ما، فخير ما يقوله عنها هو أنها تكاد تمثل له الشيء كأنه قائم بذاته على ملمس منه أو مرأى؛ «وكافة ألوان الشعر، مهما بلغت من الروعة، محال عليها أن تصور الأشياء الطبيعية على نحو يزيل الفرق بين الصورة والأصل المصور بحيث يختلط الأمر على القارئ فلا يدري أهي صورة للمنظر الطبيعي أم المنظر الطبيعي نفسه.»
4
هذه التفرقة بين المدرك الحسي وصورته في الذهن، أو قل بين «الانطباع» و«الفكرة» تعم بحيث تشمل سائر الإدراكات العقلية جميعا؛ ففرق بعيد بين الغاضب ساعة غضبه وبينه حين يسترجع بالذاكرة انفعال الغضب الذي كان؛ وفرق بعيد بين إدراكي لعاطفة الحب حين يحكى لي عنها عند شخص آخر، وبين إدراكي لهذه العاطفة نفسها حين أكابدها وأعانيها؛ وهكذا قل في سائر العواطف من حيث الفارق البعيد في إدراكها بين حالتي وقوعها واسترجاعها؛ فأنت حين تستعيد انفعالك بعاطفة سبق لك أن عانيتها ، فقد تكون الصورة المعادة أمينة غاية الأمانة بحيث تجيء طبق أصلها لا تنحرف بنقص أو زيادة، ولكنها مع ذلك فلا بد أن تجيئك وقد خفتت ألوانها عما كانت عليه العاطفة ساعة وقوعها وليس هذا الفرق في نصوع اللون ووضوحه بين الأصل ساعة حدوثه والصورة المسترجعة فيما بعد، مما يتطلب لإدراكه دقة في الملاحظة أو عمقا في التأمل، بل هو فرق صارخ يدركه حتى ذو النظرة العابرة.
5
وإذن ففي مستطاعنا الآن أن نقسم إدراكاتنا العقلية على اختلافها قسمين، يتميز أحدهما من الآخر بالتفاوت في درجة الوضوح وقوة الأثر؛ ونريد أن نطلق اسم «الانطباعات» على أكثرهما وضوحا وأقواهما أثرا، وأن نطلق اسم «الأفكار» على أقلهما في الوضوح وأضعفهما في الأثر؛ فالسمع والرؤية واللمس، وكذلك الحب والكراهية والرغبة والإرادة، تكون «انطباعات» حين تكون جلية واضحة عميقة الأثر أثناء مباشرتها وممارستها، ثم تكون هي نفسها «أفكارا» حين نستعيدها فيما بعد باهتة اللون خافتة الصوت ضعيفة الأثر.
6
Page inconnue