قلتُ: هذه حججٌ ذكرناها ليعرفها الناظرُ وما يتوجّه عليها. ونحن نذكر المختارَ في تقرير المسألة ومآخذِها، ونذكُر دليلَ القولين الأوّلين من الأقوال الثلاثة، فبها يُعلم دليلُ القول الثالث، لأنّه داخلٌ فيهما، مركَّبٌ منهما.
فنقول: احتجّ مَن مَنَع التكليفَ بالمحال لذاته، بأنّ التكليفَ طلبٌ؛ والطلب يستدعي تصوُّرَ المطلوبِ في نفس الطالب؛ لكنّ المحال لذاته لا تصور له في النفس؛ فلا يكون مطلوبًا؛ فلا يكون مكلَّفًا به. وأُورد عليه أنّ المحال لذاته، لو لم يصحّ تصوُّره في النفس، لما صحَّ الحكمُ عليه بالاستحالة في قولنا مثلًا، طالجمع بين الضدّين مستحيلٌ"؛ لأنّ الحكم عليه تصديقٌ؛ والتصديق فرع التطوُّر لطرفيه، الحكم والمحكوم عليه.
والجواب أنّ الحكم يكون تارةً بالإِيجاب، وتارةً بالسلب. والحكم الممتنع على المحال إِنما هو الأوّل، وهو الحكم بوجوبه، أو وجوده، أو إِمكانه، أو ما يستلزم شيئًا من ذلك؛ كقولنا، "الجمع بين الضدّين واجبٌ، أو موجودٌ، أو ممكنٌ، أو غير ممتنعٍ". أمّا الثاني، وهو الحكم السلبيّ، فليس ممتنعًا عليه؛ كقولنا، "الجمع بين الضدّين غير موجودٍ، أو غير ممكنٍ، أو هو محالٌ"؛ لأنّه في تقدير السلب. وقولنا، "المحال لا تصور له، أو غير متصوَّرٍ في النفس"، من هذا الباب. فإِنّ ماهيّةَ الجمعِ المطلقةَ متصوَّرةٌ ممكنةً؛ وسلبُها عن المحال لا يقتضي وجودَه ولا تصوُّرَه، ولا يستلزم محالًا.
واحتَجّ مَن أجاز التكليفَ بالمحال لذاته أيضًا بما سبق مِن حُجَج الأشعريّ عقلًا وسمعًا -وقد عُرِف ما عليها- وبما سبق أيضًا من قوله تعالى: ﴿أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن﴾، ونحوه. فإنهم كُلِّفوا بتصديق الرسل في أنهم لا يؤمنون؛ وهو تكليفٌ بالجمع بين الضدّين.
والخصم مَنع ذلك، وقال "إِنما كُلِّفوا بالإِيمان بما أَخبر به الرسلُ من الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أمّا أنهم كُلِّفوا بالإِيمان بأنهم لا يؤمنون، فلا".
وفي هذا المنع نظرٌ؛ لأنهّ أمّةَ كلِّ نبيِّ مكلَّفةٌ بالإِيمان بكلّ ما جاء به نبيُّها. حتى إِنّ
1 / 117