سبحانه رعايةُ مصالح خلقه، فإِنما كان ذلك تفضُلًا منه، لا وجوبًا عليه. وممّا يحقّق ذلك أنّه سبحانه امتَّن عليهم بأنّه راعى مصالحهم؛ كقوله: ﴿ألم نجعل الارض مهادا﴾، إِلى قوله، ﴿وجنات ألفافا﴾، وقوله ﴿هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا﴾، ﴿وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه﴾؛ ونحوه كثيرٌ في القرآن. ولو كان واجبًا عليه، لما صحّ امتنانُه به؛ كما لا يصحّ أن يمتنّ أحدنُا على غريمه بأداء دَينٍ عليه، أو بأداء العبادات الواجبة بالنذر، وبأصل الشرع.
ومما يُبطِل قاعدةَ الأصلح الصورةُ التي فرضها الأشعري، وسأل عنها الجبّائيَّ، حيث قال له: "ما تقول في ثلاثة أخوة، أحدهم برٌ تقيٌ، والآخر فاجرٌ شقيٌ، والآخر مات قبل التكليف؟ "فقال الجبائيّ: " الأوّل في الدرجات، والثاني في الدركات، والآخر من أهل السلامة". قال له الأشعريّ: "فلو قال الصبي: "ياربّ، ارفعني إِلى درجات أخي التقيّ! " ما يكون جوابه؟ " قال: "يقال له: " إِنّك لم تعمل كعمله، فلم تصل إِلى محلّه". قال: "فإن قال: " يارب، إِنّك لم تبقني إِلى وقت التكليف؛ ولو أبقيتني، عملتُ". قال الجبّائيُّ: "يقال له: " لو أبقيتك، لكنتَ كأخيك الفاجر؛ فراعيتُ مصلحتَك بموتك قبل ذلك". قال الأشعريُّ: "فإِن قال الفاجر: "ياربَ، فهلاّ راعيتُ مصلحتي كما راعيت مصلحةَ أخي الصغير، فأمتّني صغيرًا، وسلّمتني من هذا العذاب! " فانقطع الجبّائيّ عن الجواب.
وقد ذكر العلماءُ مناظرةً جرت لإِبليس مع الله سبحانه في هذا الباب. وهو أنّه لَمّا عصى، فأَبلَس، قال: "يارب، إِني أُقرّ وأعترف أنّك ربى، لك الأمرُ والحكمُ. لكن في نفسي شيء أسأل عنه. فإنّك، يارب، علمتَ أنّ غاية وجودي إِلى اللعنة والإِبلاس. فلِمَ أوجدتني، وقد كان استمرارُ عدمي أصلحَ لي؟ وحيث أوجدتني، فلمَ ابتليتني، وقد كانت العافية، أصلحَ لى؟ وحيث ابتليتني، فهلاّ ابتَليتني، فهلاّ ابتَليتني بدون ما ابتُلِيتُ به من
1 / 94