منهم يستدلّون بقوله تعالى، ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾، ونظائرها من الآي. ولو كان العقل موجبًا أو حاكمًا، لأوجب العقابَ قبل البعثة؛ وهو خلاف النصّ.
والتحقيق في ذلك أنّ مذهب المعتزلة أنّ الفعل إنِ اشتمل على مصلحةٍ خالصةٍ أو راجحةٍ، اقتضى العقلُ أنّ الله سبحانه طلبَه. وإِن اشتمل على مفسدةٍ خالصةٍ أو راجحةٍ، اقتضى العقلُ أنّ الله سبحانه طَلَب تركَه. وإِن تكافأت مصلحةُ الفعل ومفسدتُه، أو عَرى عنهما أصلًا، كان مباحًا؛ وليس حكمًا شرعيًا عندهم، لثبوته قبل ورود الشرع. وأنّ العقلَ أدرَك أنّ الله سبحانه يجب له لحكمته البالغة أن لا يَدَع مصلحةً في وقتٍ ما إِلاّ أوجبها وأثاب عليهما، ولا يدع مفسدةً في قوتٍ ما إِلاّ حرَّمها وعاقب عليها، تحقيقًا لكونه حكيمًا؛ وإلاّ لفاتت الحكمةُ في جانب الربوبية؛ وهو خلاف الإِجماع على كمال حكمته تعالى. فعندهم، إِدراك العقل، لما ذكرناه، مِن قبيل الواجبات للعفل، لا من قبيل الجائزات، كما نقول نحن. بل عندهم، كما وَجَب في العقل أنّ الله سبحانه متّصفٌ بصفات الكمال من العلم والقدرة والإِدارة، فكذلك وَجّب في العقل أنّ الله سبحانه يوجِب المصالح ويثيب عليها، ويحرِّم المفاسدَ ويعاقِب عليها.
فتَلخّص من هذا كلّه أنّ إِيجابَ الله للمصالح وإِثابته عليها، وتحريمه للمفاسد وعقابَه عليها، جَزَم به العقلُ عندهم جزمًا. وعندنا إِنما جوزه تجويزًا. وليس مرادهم أنّ الأوصاف مستقلة بالأحكام، ولا أنّ العقلَ موجبٌ ومحرمٌ.
هذا حاصل ما قرّره القرافي ﵀ في شرح المحصول. وهو الحقّ الذي لا يجوز عنه العدولُ. ولم أَرَ هذا التحقيقَ لغيره. وأنت إذا قابلت بين هذا التقرير وبين ظاهرات عبارات الأصوليّين، وجدتهم قد أحالوا المعنى ونقلوا عن المعتزلة ما لا ينبغي لعاقلٍ ولا يتسنّى.
وإِذ ثبت من مذهبم ربطُ المدح والذمّ والثواب والعقاب بالمصالح والمفاسد، وأنّ العقل اقتضى ذلك وأدركه جزمًا، فقد قالوا: "إِنّ الحُسنَ والقبح منه ما يدركه العقلُ ضرورةً، كحُسنِ العدل والصدق النافع، وإِنقاذ الغرقى، وتخليص الهلكى، ونحوه،
1 / 83