غير أنه أظهر الجلد، وقال له وهو يبتسم: بماذا يأمر سيدي الكونت؟ - إن جلالته يريد أن يكلم سانت ليك، فأين هو وماذا يعمل؟ - هو في هذه الغرفة يتلهى بمقامرة شيكو إلى أن يرجع جلالته. - إني أرجوك إذا أن تأذن لخادمي أن ينتظرني في هذا الرواق، وأن تدعو لي سانت ليك.
فامتثل الحاجب وانصرف.
وأشار الكونت إلى امرأة سانت ليك، فأتت وأوقفها في عطفة من الرواق بحيث لا يراها زوجها.
وبعد برهة أتى سانت ليك وعليه ملامح التعب، فلما رأى الكونت باسي ينتظره دهش وقال: هذا أنت؟ - نعم أيها الصديق، وأول ما أبدأ به حديثي شكري إياك عما بذلته لي من النصح ليلة أمس، مما يدل أشد الدلالة على الإخلاص لي وصدق ودك.
فانحنى سانت ليك شاكرا، وقال: ليس الإخلاص وحده الذي دفعني إلى تحذيرك من الأعداء، بل إني كرهت أن يغتال رجال جلالته بطلا مثلك، ولقد كنت أحسبك في عداد الأموات، لثقتي من أنك قد ذهبت إلى لقائهم، ولما شاع في القصر من أمر قتلك. - لقد كادت تصح هذه الإشاعة، فإني لم ينقذني من غدرهم غير القدر وحسن توفيقي. - بل أنقذك ساعدك القوي وبأسك الشديد، وإن النجاة من خمسة وأنت وحيد فرد هي النصر العزيز لك، الذي يفتخر به محبوك، وتنفطر منه أكباد الأعداء.
فبالله ألا ما أخبرتني أيها الصديق كيف كانت النجاة منهم، وكيف كانت تفاصيل هذا العراك؟ - إن الوقت يضيق دون تفصيلها، وسأخبرك عنها بما ستنتهزه من فرص الاجتماع وأوقات الخلوة، والآن فإني لم أقدم إليك لمجرد شكرك لأن خدمة الأصحاب واجبة، ولا موجب للشكر عن قضاء واجب، غير أني قدمت لأكافئك عن هذه الخدمة بخدمة مثلها.
وقبل أن أتعرض لذكرها، أحب أن أعرف شيئا عن حالك في هذا المحبس. - إني على أسوأ حال أيها الصديق، يكاد يقتلني الضجر في هذا القصر العظيم، الذي بعد أن كان لي جنة أرتع فيها، أصبحت فيه كمن زج في أعماق السجون، وأنا لا أختلف فيه بشيء عن المجرمين، سوى أن يدي ورجلي مطلقة فلا أرصف بقيودي.
وأشد ما أقاسيه قرب جلالته مني، وبعد امرأتي عني، فإنه يكاد أن لا يفارقني ساعة، ولا يرضى مني إلا بأحاديث الهزل، وأين أنا من المزاح في مثل هذا الموقف الذي وضعني فيه، فإذا أرضيته فلا أوافق نفسي، وإذا وافقت نفسي فلا أرضيه؛ ولذا فإني أتقلب على نارين من جفائه ورضاه، وأتراوح بين شرين من صفائه وجفاه، وكلا الويلين شر من الآخر.
وأما بعد امرأتي عني فلا أزيدك علما بما أكابده من العناء لبعدي عنها، فتصور كيف يكون حال محب يبعدونه عمن يحب، ويمنعونه عن جناء الزهرة التي طالما سقاها بدموع الغرام.
فقال باسي وقد تأثر لحال صديقه: وما يمنعك عن الذهاب إليها؟ - هذا السجن الذي أنا فيه، ومن يحيط به من الحجاب الذين يكادون أن يعدوا علي أنفاسي. - وما يمنعها أن تأتي هي؟ - إلى أين؟ - إلى اللوفر. - ما هذا الجنون؟ - لا أنكر أن هذا الرأي غريب في بابه، ولكنه ممكن. - بالله دع المزح أيها الصديق، فإن نفسي حزينة وصدري الضيق لا يتسع لهذا المزاح. - كما تريد، ولكن إذا اجتمعت بها ألا يزول ضجرك؟
Page inconnue