وخاطب قلبي ابنة المحبة قائلا: «أين القناعة أيتها المحبة، فقد سمعت أنها تشاطركم سكنى هذا المكان؟» قالت: «ذهبت القناعة تكرز في المدينة حيث المطامع، فنحن لا نحتاجها، السعادة لا تبتغي قناعة، إنما السعادة شوق يعانقه الوصال، والقناعة سلو يساوره النسيان، النفس الخالدة لا تقنع لأنها تروم الكمال، والكمال هو اللانهاية».
وخاطب قلبي فتى الجمال قائلا: «أرني سر المرأة أيها الجمال، وأنرني لأنك معرفة». فقال: «هي أنت أيها القلب البشري، وكيفما كنت وكانت، هي أنا وأينما حللت حلت، هي كالدين إذا لم يحرفه الجاهلون، وكالبدر إذا لم تحجبه الغيوم، وكالنسيم إذا لم تتعلق بأذياله أنفاس الفساد».
واقترب قلبي من الحكمة ابنة المحبة والجمال وقال: «أعطني حكمة أحملها إلى البشر» فأجابت: «قل هي السعاة تبتدئ في قدس أقداس النفس ولا تأتي من الخارج».
مدينة الماضي
وقفت بي الحياة على سفح جبل الشباب وأومأت إلى الوراء، فنظرت فإذا بمدينة غربية الشكل والرسوم متربعة في صدر سهول تتموج فيها الخيالات والأبخرة المتلونة متوشحة بقناع ضباب لطيف يكاد يحجبها.
قلت: «ما هذه أيتها الحياة؟» قالت: «هي مدينة الماضي فتأمل؟» فتأملت ورأيت، معاهد أعمال جالسة كالجبابرة تحت أجنحة النوم، مساجد أقوال تحوم حولها صارخة صراخ القنوط، مترنمة ترنيمة الأمل. هياكل أديان أقامها اليقين ثم هدمها الشك، مآذن أفكار مرتفعة نحو العلو كأنها أيدي المتسولين ، شوارع أميال منبسطة انبساط النهر بين الربى، مخازن أسرار حرسها الكتمان فسرقتها لصوص الاستعلام، أبراج أقدام بنتها الشجاعة فثلتها المخاوف، صروح أحلام زينتها الليالي وخربتها اليقظة، أكواخ صغار سكنها الضعف، وجوامع وحدة قام فيها نكران الذات، نوادي معارف أنارها العقل فأظلمها الجهل، حانات محبة سكر بها العشاق فاستهزأ بهم الخلو، مراسح أعمار مثلت عليها الحياة روايتها ثم جاء الموت وختم مأساته.
تلك مدينة الماضي في بعيدة قريبة، منظورة محجوبة.
ومشت أمامي الحياة وقالت: «اتبعني فقد طال بنا الوقوف» قلت: «إلى أين أيتها الحياة؟» قالت: «إلى مدينة المستقبل». قلت: «رفقا فقد أنهكني المسير وكلمت أقدامي الصخور وهدت قواي العقبات» قالت: «سر! الوقوف جبانة، والنظر إلى مدينة الماضي جهالة».
اللقاء
عندما أكمل الليل تنميق ثوب السماء بجواهر النجوم، تصاعدت من وادي النيل حورية محفوفة بأجنحة غير منظورة وجلست على عرش من الغيوم مرتفع فوق بحر الروم مفضض من أشعة القمر، فمر من أمامها جوق أرواح سابحة في الفضاء صارخة: «قدوس قدوس قدوس! ابنة مصر مجدها ملء كل الأرض».
Page inconnue