الخريف:
لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي ونعصر العنب ونوعيه في الأجران مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة ونستقطر الأزهار ونستعيض عن العين بالأثر.
لنرجع نحو المساكن، فقد اصفرت أوراق الأشجار ونثرها الهواء كأنه يريد أن يكفن بها أزهارا قضت لوعة عندما ودعها الصيف، تعالي فقد رحلت الطيور نحو الساحل وحملت معها أنس الرياض، وخلفت الوحشة للياسمين والسيسبان فبكى باقي الدموع على أديم التراب.
لنرجع! فالجداول قد وقفت عن مسيرها، والعيون نشفت دموع فرحها، والطلول خلعت باهي أثوابها. تعالي يا محبوبتي، فالطبيعة قد راودها النعاس فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوندية مؤثرة.
الشتاء:
اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا، اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد، فالنار فاكهة الشتاء الشهية، حدثيني بمآتي الأجيال، فآذاني قد تعبت من تأوه الأرياح وندب العناصر، أوصدي الأبواب والنوافذ، فمرأى وجه الجو الغضوب يحزن نفسي، والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي، اسقي السراج زيتا يا رفيقة عمري، فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك لأرى ما كتبته الليالي على وجهك، إيتي بجرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.
اقتربي ! اقتربي مني يا حبيبة نفسي فقد خمدت النار وكاد الرماد يخفيها، ضميني فقد انطفأ السراج وتغلبت عليه الظلمة، ها قد أثقلت أعيننا خمرة السنين، ارمقيني بعين كحلها النعاس، عانقيني قبل أن يعانقنا الكرى، قبليني فالثلج قد تغلب على كل شيء إلا قبلتك، آه يا حبيبتي ما أعمق بحر النوم! آه ما أبعد الصباح في هذا العالم!
حكاية
على ضفة ذلك النهر، في ظل أشجار الجوز والصفصاف جلس ابن زراع يتأمل في المياه الجارية بسكينة وهدوء، فتى ربي بين الحقول حيث يتكلم كل شيء عن الحب، حيث الأغصان تتعانق والأزهار تتمايل والطيور تتشبب، حيث الطبيعة بأسرها تكرز بالروح، ابن عشرين رأى بالأمس على الينبوع صبية جالسة بين الصبايا فأحبها، ثم علم أنها ابنة الأمير فلام قلبه وشكا نفسه إلى نفسه، ولكن الملامة لا تميل بالقلب عن الحب، والعذل لا يصرف النفس عن الحقيقة، والإنسان بين قلبه ونفسه كغصن لين في مهب ريح الجنوب وريح الشمال.
نظر الفتى فرأى زهرة البنفسج قد نبتت بقرب زهرة الأقحوان، ثم سمع الهزاز يناجي الشحرور فبكى لوحدته وانفراده، ثم مرت ساعات حبه أمام عينيه مرور الأشباح، فقال وعواطفه تسيل مع كلماته ودموعه: «هو ذا الحب يستهزئ بي، ها قد جعلني سخرية وقادني إلى حيث الآمال تعد عيوبا والأماني مذلة، الحب الذي عبدته قد رفع قلبي إلى قصر الأمير وخفض منزلتي إلى كوخ الزراع، وسار بنفسي إلى جمال حورية تحيط بها الرجال ويحميها الشرف الرفيع، أنا طائع أيها الحب فماذا تريد؟ قد اتبعتك على سبل نارية فلذعني اللهيب، قد فتحت عيني فلم أر غير الظلمة، وأطلقت لساني فلم أتكلم بغير الأسى، قد عانقني الشوق أيها الحب بمجاعة روحية لن تزول بغير قبل الحبيب، أنا ضعيف أيها الحب فلم تخاصمني وأنت القوي؟ لماذا تظلمني وأنت العادل وأنا البريء؟ لماذا تذلني ولم يكن غيرك ناصري؟ لماذا تتخلى عني وأنت موجدي؟ إن جرى دمي بغير مشيئتك فأهرقه، وإن تحركت قدماي على غير طرقك فشلها. افعل مشيئتك بهذا الجسد وخل نفسي تفرح بهذه الحقول المستأمنة بظل جناحيك، الجداول تسير إلى حبيبها البحر، والأزهار تتنسم لعشيقها النور، والغيوم تهبط نحو مريدها الوادي، وأنا - وبي ما لا تعرفه الجداول ولا تسمع به الأزهار ولا تدركه الغيوم - قد رأيتني وحيدا في محنتي، منفردا في غرامي، بعيدا عن التي لا تريدني جنديا في كتائب أبيها ولا ترضاني خادما في قصرها».
Page inconnue