Indication de forme: étude en esthétique formelle et une lecture du livre d'art
دلالة الشكل: دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن
Genres
إهداء
تصدير الطبعة الثانية
1 - الشكل الدال
2 - الموقف الإستطيقي
3 - الفن معرفة وكشف
4 - الفن الحديث
5 - المحاكاة والتمثيل
6 - الشكل في العمل الأدبي
7 - شمول الشكل
8 - الفرضية الميتافيزيقية
Page inconnue
9 - الفن والأخلاق
10 - الفن: مقاربات نثرية
11 - قطوف من كتاب «الفن» لكلايف بل
إهداء
تصدير الطبعة الثانية
1 - الشكل الدال
2 - الموقف الإستطيقي
3 - الفن معرفة وكشف
4 - الفن الحديث
5 - المحاكاة والتمثيل
Page inconnue
6 - الشكل في العمل الأدبي
7 - شمول الشكل
8 - الفرضية الميتافيزيقية
9 - الفن والأخلاق
10 - الفن: مقاربات نثرية
11 - قطوف من كتاب «الفن» لكلايف بل
دلالة الشكل
دلالة الشكل
دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن
تأليف
Page inconnue
عادل مصطفى
إهداء
إلى الفنان الكبير الأستاذ عادل إمام،
تضامنا وعرفانا ومحبة.
عادل مصطفى
تصدير الطبعة الثانية
إنما نعيش لنهتدي إلى الجمال، وكل ما خلا ذلك لون من الانتظار.
جبران خليل جبران: النبي
يشملنا هذه الأيام مناخ يضع الفن في موضع دفاع! وربما يزج به إلى ساحات القضاء، ليمثل للمحاكمة مثول المسيح أمام الذين جاء لهدايتهم، ومرد ذلك إلى التباس لفظي أساسي، فقديما طال ارتباط «النغم» ب «المجون»، وارتباط «النحت» ب «الوثن» ... إلخ، حتى صار اللفظان «متعاوضين»
interchangeable ، وأصبح أحدهما يقوم في الذهن مقام الآخر، وبات على الغافل أن يلقي بالاثنين معا، إلقاء الرضيع مع ماء الغسل!
Page inconnue
throwing the baby out with the bath water
وقد دفعني ذلك إلى إعادة طباعة هذه الدراسة الموجزة، التي سبق نشرها ببيروت عام 2001 وتقبلها القراء بقبول حسن.
روى الإمام أبو حامد الغزالي في «الإحياء» عن بعض السلف: «من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره؛ فهو فاسد المزاج ليس له علاج.»
الفن ليس حراما وليس جائزا، الفن لازم، والأمة التي تطرح للنقاش، في القرن الحادي والعشرين، مسألة مشروعية الفن هي أمة محمومة تهذي، ويبقى أن نبين ما هو الفن، ولماذا هو لازم لكل إنسان ولكل أمة. وقد توسمت في هذه الدراسة جوابا ما عن هذين السؤالين، رغم أنها دراسة في علم الجمال (الإستطيقا) وقراءة في كتاب «الفن» لكلايف بل؛ ذلك أننا لو علمنا ما هو الفن، ومم يتكون، وإلام يرمي، وكيف يتلقى؛ لأدركنا من فورنا لماذا هو ضرورة في ذاته وبمعزل عن أي عوارض ثانوية وعن أي عواقب لاحقة.
الجمال هو ظل الله على الخليقة، والنفس تعرف ذلك بالسليقة وتقول «الله» (بجميع اللغات) كلما صادفت الجمال، والروح ترى «الحق» منعكسا في الرائعة الفنية انعكاس الشمس على وجه القمر، وترى الأبدي في «الأشكال الدالة» كأنها فتوق في الزمن. التلقي الإستطيقي عرفان هائل ولقاء جلل، وإلا لما كان مصحوبا بهذا الانفعال الفريد وهذا الوجد الشديد وهذه النشوة المستبدة. أمر الجمال جد لا يصح أن نسف به أو نبتذله بحديث عن المجون أو الخلاعة أو الانحلال، ونقد الفن لا يكون إلا بلغته وعلى ارتفاعه، فلنصبر على الفن في هذه الحقبة الملتبسة، لنصبر على الرائين وعلى العميان معا، ريثما تسترد الروح شيئا من عافيتها المهدرة، وتعود ترى الفن على وجهه، وتضع أمره في نصابه.
د. عادل مصطفى
27 / 8 / 2012
الفصل الأول
الشكل الدال
Significant Form
Page inconnue
أن يقفز المرء ويصيح، ذلك تعبير عن النفس وإن لم يشف غلة، ولكن أدخل فكرة «الشكلية» تجد في الرقص والغناء بهجة مشبعة، الشكل هو الطلسم، وبالشكل تتحول الانفعالات الغامضة والعصية وغير الأرضية إلى شيء محدد ومنطقي ومتجسد فوق الأرض.
كلايف بل (1) معنى الشكل الدال
تبدأ الإستطيقا الشكلية من «واقعة»
fact
محددة، يقينية لا شك فيها، هي أننا (أو أن أصحاب الحساسية
sensibility
منا) ننفعل إزاء أشياء معينة نطلق عليها «الأعمال الفنية»
works of art
انفعالا شديد الخصوصية والتميز نطلق عليه «الانفعال الإستطيقي»
aesthetic emotion ، ورغم أن هذا الانفعال هو خبرة ذاتية شخصية إلا أن ارتباطه بموضوعات عينية من جهة، واتفاقنا الوثيق في حدوثه من جهة أخرى، يجعل منه شأنا واقعيا صلبا ويصبغه بصبغة موضوعية صارمة (لاحظ أن هذه «البينذاتية»
Page inconnue
intersubjectivity
هي قصارانا وغايتنا ومبلغنا من «الموضوعية
objectivity » في هذا الوجود الملغز الذي قذفنا فيه، وذلك حتى في الأمور الفيزيائية المحضة).
إننا ننفعل حقا تجاه أشياء متباينة نطلق عليها أعمال «الفن» انفعالا غامرا عميقا نسيج وحده و«فريدا في نوعه»
sui generis
نعرفه جميعا ونعرف «ماذا يشبه أن يكون»
what it is like ، وكلنا إذ يتحدث عن الفن فهو يعكس بذلك تصنيفا ضمنيا مدمجا بذهنه يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى من الأشياء، مثلما يتحدث عن فئة البشر ويفرق بينها وبين جميع الفئات الأخرى من الكائنات، ومثلما يتحدث عن فئة القطط والكلاب والموائد والكراسي ... إلخ، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ ما هو «القاسم المشترك»
denominator
بين تلك الأشياء المتباينة التي نطلق عليها «الأعمال الفنية»؟ ما هي الصفة التي تجمع بين اللوحات والسيمفونيات والجرار والقصائد والرقصات والمنحوتات والكاتدرائيات؟ ما هو «المفهوم»
intension
Page inconnue
الذي تعد جميع المفردات الفنية الجزئية «ماصدقات»
extension
له؟ ما هي «الخاصة الجوهرية»
essential property
التي بها يكون الشيء عملا فنيا (مهما تبدل عليه من «خواص عرضية»
accidental properies ) وبدونها يكون أي شيء آخر؟ يقول كلايف بل بجسارة وحسم: إنه «الشكل الدال»
Significant Form ، ويعني به في الفنون البصرية تلك التوليفات والتضافرات من الخطوط والألوان، أو تلك الحبكة من الخطوط والألوان، التي من شأنها أن تثير في المشاهد انفعالا إستطيقيا.
وبوسعنا أن نعمم مفهوم الشكل الدال ليشمل الفنون جميعا، فنقول إن الشكل الدال لعمل من أعمال الفن هو ذلك التنظيم الخاص الذي يتخذه «الوسيط الحسي»
medium
لذلك العمل والذي من شأنه أن يثير في المتلقي (الذي يتمتع بالحساسية الفنية ويتخذ «الموقف الإستطيقي») انفعالا إستطيقيا. (2) معنى الوسيط الحسي
Page inconnue
الفن نقل الروح عن طريق المادة.
سلفادور دي مادرياجا
لكل عمل فني وجود فيزيائي أو مثول مادي، فالفنان دائما يجسد عمله في مادة معينة أو واسطة ينتقل بها العمل إلى الآخرين، وتتفاوت هذه الواسطة المادية (أو الفيزيائية)
medium
بين فن وآخر، فهي ألوان وخطوط في فن التصوير، وأحجام من حجارة أو خشب أو معادن في فني النحت والعمارة، وأصوات آلات في الموسيقى، وصوت بشري في الغناء، وحركات جسدية في الرقص، وكلمات لغوية في الشعر والدراما، وأضواء ومرئيات وغيرها في السينما، هذه الوسائط الحسية هي خامة الفنان الأولية التي يجبل بها عمله، وهي لغته التي يخاطب بها جمهوره، إنها مادة تنتمي إلى عالم الطبيعة وتخضع لقوانين الطبيعة؛ ومن ثم فهي تملي على الفنان شروطها، وتتحكم في حريته وإمكانات تعبيره، فمن شأن مادة الخشب أو الرخام مثلا أن ترمي بالفنان في عالم يختلف عن عالم الزيوت والماء والقماش، وتفرض عليه قوانين غير قوانين الصوت أو الحركة، وعلى الفنان أن يذعن لقوانين المادة ويفي بمتطلباتها، وهو ما عبر عنه كثير من الفنانين واتخذوه شعارا لهم: «احترم مادتك
respect your medium ».
1
ولعل طريق الإبداع الفني هو قصة حب طويلة بين الفنان ومادته، مليئة بالصراع والولوع، والترويض والتمرد، والقسوة والحنان، والجفاء والألفة بين المصور والألوان، بين الشاعر والكلمات، بين الموسيقى والنغمات، بين الراقص وجسمه، بين المطرب وصوته، إنه عشق أبدي، وزواج كاثوليكي، إنه الحب الأول والأخير لدى الفنان الحق، أما شئون الحياة وشجونها، وأما القضايا والمشاهدات والملهمات، فما هي في حقيقة الأمر وصميمه إلا وسيلة إلى الفن وحجة وذريعة!
والحق أن الفنان في نهاية المطاف وآخر الجدل ليس هو الشخص العميق الفكر، ولا هو الشخص المشبوب الانفعال ولا الثري التجارب، فكل هذه صفات توجد في أناس بعدد الحصى دون أن تتخايل في أحدهم بارقة فن واحدة، إنما الفنان هو ذلك الشخص الذي «يفكر ويحس من خلال وسيط فني معين، وأيا ما كانت انفعالاته وأفكاره، ملتهبة أو باردة، عميقة أو سطحية، فإنها تتمثل لذهنه متجسدة في وسيطه الخاص.»
2
Page inconnue
ويعلم كل مزاول للفن أن العملية الفنية في عامة الأحوال ليست حالة أو فكرة مجردة يبلغ إليها في مرحلة منفصلة ثم يحاول الاهتداء إلى صوب فني يكسوها به في مرحلة ثانية، إنها ملتحمة بالوسيط منذ البداية، وكثيرا ما تكون العملية الفنية هي عملية تنمية لحن أو التوسع في تصميم بصري أو تعقب تركيبة لفظية ورؤية ما تسفر عنه.
تبدي المادة تمردا ومقاومة يعرفها كل فنان، ولا سيما المعماري والمثال، وكأنها تقف حائلا بينه وبين تحقيق الرؤية القابعة في خياله، «روي عن ميكلانجلو أنه كان يصنع تماثيله في سورة من العنف والغضب والهياج، حتى إنه كان يقول لسائليه عن سر هذا الهياج: إنني لأبغض تلك الحجارة التي تفصلني عن تمثالي!»
3
على أنه غضب طفولي أبتر، فالفنان يعرف بالسليقة أن لا نجاة من المادة إلا إليها، الفنان يعرف الوجد، ويعرف أنه لا يجيء إلا كاسيا، إلا متسربلا بالوسيط.
وليست علاقة الفنان بوسيطه الفني دائما علاقة صراع وتوتر، فالمادة ليست قيدا وتحديا على طول المدى، إنها إلهام أيضا وتيسير، فالوسائط المادية غنية بالقيم الترابطية والتعبيرية التي يمكن للفنان أن يستغلها، يروى عن المثال بيلي
R. A. Baillie
قوله: «إنك كلما مضيت قدما في النحت، أوحى إليك الحجر ذاته بتحسينات تدخلها على تخطيطك الأول.»
4
فكل وسيط مادي يمتلك من الخصائص الجمالية والإمكانات التعبيرية ما يلهم الفنان ويشير عليه ويقود انفعاله في مجرى معين ويحقق له ما كان يود أن يحققه، فقد يعثر الموسيقي في نغمة معينة أو في مزاوجة نغمية عفوية على مفتاح سحري إلى أفق موسيقي جديد لم يكن يحلم به، وقد تزور الشاعر لفظة معينة أو اقتران لفظي عابر فيرى فيه تجسدا لما كان يعتلج في صدره زمنا ولا يعرف ما هو، وقد يجد المثال في مادة البرونز المعدنية بقابليتها للصهر والتجويف وخفة وزنها إلهامات إلى طرائق معينة من التجريب والتعبير، بل إن التقنيات الحديثة قد تمد الفنان بوسائط تخليقية غير مبذولة في الطبيعة تمنحه إمكانات تشكيلية لا عهد له بها، فتفتح له طرقا غير مطروقة وتسكره بوعود تعبيرية جديدة، إن المادة تسعف الفنان وتأخذ بيده وتعلمه وترشده. (3) الشكل الدال: مصاعب وحلول
ولست أدري هل الشهامة هي ما منعهم أن يلمحوا «تحصيل حاصل»
Page inconnue
5
ناتئا في عرضي للفرضية الإستطيقية، وبوسعي أن أقول إن هذه الوصمة قد أزيلت منذ زمن طويل.
كلايف بل: تصدير الطبعة الثانية من كتاب «الفن»
تعرض مفهوم «الشكل الدال» لانتقادات حادة تريد أن تنال منه الصميم، أخطر هذه الانتقادات هو أن تعريف كلايف بل للشكل الدال تعريف غامض بل فارغ لا ينبئنا بشيء. إنه تضام معين للخطوط والألوان من شأنه أن يثير الانفعال الإستطيقي، ولكن ما هو الانفعال الإستطيقي؟ يقول بل إنه الانفعال الذي يثيره «الشكل الدال»، وبذلك يتبين أن التعريف دائري فاسد، وأن بل يقع في «دور منطقي»
vicious circle
إذ يعرف الشكل الدال بالإحالة إلى الانفعال الإستطيقي بالإحالة إلى الشكل الدال، بينما يبقى كل من مفهومي «الشكل» و«الانفعال» غامضا مستغلقا لا يقدم أي معايير محددة تقربنا إليه.
هل وقع كلايف بل حقا في دور منطقي؟
إنه يعرف الشكل الدال بأنه الشكل الذي يتخذه الوسيط الحسي (تضام الخطوط والألوان في فن التصوير)، والذي يتسبب في إثارة الانفعال الإستطيقي، وبذلك يتضمن التعريف إشارتين؛ الأولى إلى الطرائق أو القوانين التي تنظم اجتماع الخطوط والألوان، وهي قوانين يعترف بل أنها غامضة ملغزة سرية يتولى النقد مهمة الكشف عنها قدر المستطاع، والإشارة الثانية إلى «الانفعال الإستطيقي» الذي فيه جلاء الأمر وفصل الخطاب من الوجهة الإستطيقية، «كل ما يلزم في مبحث الإستطيقا هو أن أثبت فحسب أن الأشكال إذ تنتظم وتجتمع وفقا لقوانين معينة مجهولة وغامضة تحرك مشاعرنا فعلا بطريقة معينة، وأن مهمة الفنان هي أن يجمعها وينظمها بحيث تحرك مشاعرنا.»
6
هذا الانفعال الإستطيقي هو «كيفية»
Page inconnue
quality ، شأنه شأن صفة «أحمر» حين نصف بها شيئا من الأشياء، والكيفيات بطبيعتها لا تعرف ولا تقبل البرهان؛ لأننا نعرفها بالحدس - بالإدراك المباشر، إن الانفعال الإستطيقي هو خبرة حقيقية نعرفها حين تقع لنا، ولا نحتاج في تعريفها إلى أي حد آخر، ولئن ربطها بل بالشكل الدال فبوصفه «علة» لها لا «تعريفا».
وإن شئت الدقة فهناك الآن نوع من التعريف المشروع يطلق عليه «التعريف الإشاري»
ostensive definition ، وهو أن أعرف اللفظة عن طريق الإيماء إلى أمثلة فردية أو شواهد فردية، فأعرف الكرسي مثلا بأن أشير إلى كرسي مفرد أو كراسي مفردة، وأعرف اللون الأرجواني بأن أعرض على السامعين شيئا أرجوانيا، وأعرف مذاق الأناناس بأن أذيقهم شيئا حقيقيا منه، وأعرف كلمة قطع بأن أؤدي أمامهم فعل القطع، يعتمد التعريف بالإشارة على فهم السامع وتمثله للسمة المعنية من بين غيرها من السمات، ويكاد ينعقد الاتفاق بين الفلاسفة على استحالة ما يسمى «التعريف الإشاري الخاص»
private ostensive definition ؛ أي أن تشير إلى خبرة داخلية مثل خبرة «الألم» وتقول: «أعني بكلمة ألم هذا الذي أحس به الآن.» إذ ليس بإمكان الآخرين أن يروا أو يحسوا أو يكابدوا بأي شكل من الأشكال ذلك الذي تحاول أن تسميه، كما أن مثل هذه الأوصاف القائمة على التعريف الإشاري الخاص لا تفسر كيف يتأتى لك أن تعلم أن ما تحس به الآن هو ما يسميه الآخرون ألما، وإذا كان بإمكاننا أن نعرف كلمة «أحمر» بالإشارة؛ وذلك بأن نومئ إلى رقاقة حمراء، فلأن هذا تعريف إشاري عام (وبالمناسبة، يبين لنا هذا أن كلمة أحمر يتوجب أن تسم لونا في العالم، أي لونا تحوزه الأشياء، وليس صفة لخبرة خاصة أو داخلية)،
7
والآن إذا رجعنا إلى ما قلناه آنفا من أن «الانفعال الإستطيقي» مرتبط بموضوعات عينية خارجية، ومتفق على حدوثه بين أصحاب الحساسية الفنية، لتبين لنا أن تعريفه الإشاري العام مشروع تماما وكفيل بكسر الحلقة الخبيثة أو الدور المنطقي المزعوم، الخطب أن من عدم الحساسية الإستطيقية لن يجدي معه الحديث في الإستطيقا، وأن القوانين التي تتبطن حبكة الشكل غامضة ملغزة، يصدق فيها قول الأستاذ سعيد عقل: «ما تدري ما تدري، كل ما هنالك أن السحر كان ويبقى موضوع شك.»
8
والتحدي الثاني الذي يواجه مفهوم الشكل الدال هو أن الأعمال الفنية هي من التنوع والتباين بحيث يصعب إدراجها في فئة موحدة والعثور بينها على قاسم مشترك، فليس هناك شيء من قبيل «الفن» بألف لام التعريف، بل هناك «فنون»، وهذه الفنون تختلف فيما بينها اختلافا شديدا يجعلها بمثابة ضروب متباينة من النشاط لا يجمع بينها شيء واحد.
ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن مفهوم العمل الفني هو «مفهوم تشابه عائلي» (أو أسري)
family resemblance concept ، والتشابه الأسري هو الظاهرة التي كشف عنها فتجنشتين في كتاباته المتأخرة، ومفاده أن الأشياء التي يشير إليها حد
Page inconnue
term
من الحدود قد ترتبط معا لا بخاصية مشتركة واحدة بل بشبكة من التشابهات، كشأن الأشخاص الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لأسرة معينة، وقد أصبح مفهوم التشابه الأسري يعني كل مفهوم يضم مجموعة من الأشياء أو الموضوعات وينطبق عليها لا بفضل سمة فريدة عامة بل لوجود تشابهات بينها عديدة ومتداخلة جزئيا بعضها مع بعض.
ووفقا لهذه الوجهة من الرأي فإن بين الأعمال الفنية بتنوعها الهائل الذي يتعذر اختزاله أوجه تشابه واختلاف تتقاطع مع بعضها البعض بطريقة معقدة، وإن ما يدخل ضمن مقولة الفن يعتمد على أحكام متغيرة على مر التاريخ حول الطريقة التي ينبغي أن نقيم بها هذه التشابهات والاختلافات.
ورغم وجاهة مفهوم التشابه الأسري وانطباقه على الفن، فهو لا ينفي بالضرورة وجود قواسم مشتركة في الوقت نفسه، فلا تزال هناك سمات عامة لافتة يمكن أن تجمع بين الأعمال الفنية جميعا:
فالأعمال الفنية على تباينها الشديد تتحلى جميعا بالشكل الإستطيقي مهما غمض مفهومه.
والأعمال الفنية جميعا تتطلب أن نتخذ إزاءها «الموقف الإستطيقي» أي التقدير المنزه عن الغرض العملي.
وهي جميعا تفضي إلى الانفعال الإستطيقي.
وتعد جميعا مصدرا لصنف خاص من المعرفة.
ليس ثمة تعارض بين هذه السمات العامة، وليس هناك ما يمنع في واقع الأمر من أن تكون جميعا صحيحة، والحق أنها قد تسهم جميعا في تفسير واحد لتلك المكانة الكبيرة التي يحظى بها الفن في حياتنا، وحين اختزل كلايف بل الصفات المشتركة بين الأعمال الفنية في صفة واحدة هي «الشكل الدال» فقد جمع كل هذه الصفات وكثيرا غيرها في صفة واحدة تضمها جميعا وتفعمها بالمغزى وتعلو عليها في الوقت ذاته، وهو ما سيتكشف لنا على مهل خلال الفصول التالية.
الفصل الثاني
Page inconnue
الموقف الإستطيقي
Aesthetic Attitude
علمه أن يسدد حبه إلى قلب الأشياء، ويسرح أشواقه في طوايا الحق.
في هذا «العالم الثالث» بتعبير بوبر، العالم الذي برأه الإنسان وخلقه، ألتقي بنفسي الحقيقية، وأعيش عمري الحقيقي، وأعثر على دهشتي المسروقة، ويسمح لي، لدقائق محسوبة، أن ألتقي بدموعي السجينة.
وارني عن اسمي، وإلا رأيته ولم ترني.
النفري (1) الموقف ... وإدراك العالم
إن ما ندركه ونخبره ونحسه لا يتوقف فحسب على ما هو موجود في بيئتها، بل يتوقف أيضا على اهتمامنا وانتباهنا الانتقائيين (بالإضافة إلى قدراتنا الذهنية الخاصة في التأويل والتصنيف)، وقد كانت الفكرة السائدة قديما هي أن الكائنات الإنسانية كائنات تستقبل كل المنبهات البيئية الخارجية بطريقة سلبية آلية ولا تفلت منها أي منبه. ومن الثابت الآن أن هذه الفكرة قاصرة بل مغلوطة ومضللة، فالحق أن «الموقف» الذي نتخذه في حياتنا بصفة عامة وفي كل لحظة آنية بصفة خاصة يتحكم في طريقة إدراكنا للعالم وللأشياء من حولنا. و«الموقف»
attitude (الاتجاه) هو طريقة في توجيه إدراكنا وضبطه، فنحن لا نلتقط كل شيء في بيئتنا دون تمييز، وإنما نحن «ننتبه»
attend
إلى بعض الأشياء ونركز على بعض السمات بينما نتجاهل غيرها ولا ندركها إلا بطريقة غائمة باهتة أو لا ندركها على الإطلاق. من خصائص الانتباه إذن أنه انتقائي يجتبي ما يعنيه من المنبهات الخارجية ويضرب صفحا عن غيرها، بل ينفي هذا الغير عن ساحة الوعي بطريقة قاطعة وآليات نشطة.
Page inconnue
إن الأغراض التي نضمرها لحظة الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي ننتبه إليه، فأفعالنا هي دائما غرضية تتجه نحو هدف ما؛ ولذا فإنه عندما تكون للأفراد أغراض مختلفة فإنهم يدركون العالم على أنحاء مختلفة، بحيث يقر أحدهم أمورا معينة يتجاهلها غيره أو ينكرها، ذلك أن الاهتمام أو الموقف هو الذي يرشد الانتباه في اتجاهات ذات صلة، ويهيئ الكائن إلى أن يسلك بطريقة فعالة، ويحجب في الوقت نفسه تلك المنبهات التي لا تتصل بغرضه وربما تشتت جهوده وتبددها، فالطالب الذي يستغرق في حل مسألة رياضية، على سبيل المثال، يولي كل اهتمامه إلى العناصر المتصلة بهذه المسألة، ويصرف انتباهه بشكل حاسم عن كل منبهات البيئة ولا يكاد يدرك منها شيئا، بل إن الموقف الفكري والأيديولوجي ليتحكم في طريقة الإصغاء إلى الأشياء وهيئتها المدركة، ويشحن الانتباه في اتجاهات معينة ويصرفه عن المضي في اتجاهات أخرى. (2) الموقف العملي والاقتصاد الإدراكي
نخلص من ذلك إلى أننا في حياتنا اليومية المعتادة نتخذ دائما موقف «الإدراك العملي»، فلا ندرك الأشياء إلا بوصفها وسيلة إلى غاية أو غرض يتجاوز تجربة الإدراك ذاتها؛ ومن ثم فنحن نجتزئ بإدراك ما يكفي لإنجاز الغرض العملي؛ فقد علمتنا الحياة العملية أن «نقتصد» في الإدراك، وننظر إلى الأشياء والأشخاص بالقدر الذي يكفي لتمييزهم، وكأننا في الحقيقة لا نرى الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقات الأشياء لنعرف على الفور كيف نسلك إزاءها، أو ننظر إلى الشيء لنرى فيه «النمط»
type
لا «النسخة»
token (بتعبير اللسانيات الحديثة). يقول كلايف بل: «لقد اخترع هذه البطاقات المفيدة أناس عمليون من أجل أغراض عملية، والبلية هي أن العمليين من الناس بعد أن يكتسبوا عادة تمييز البطاقات يميلون إلى أن يفقدوا القدرة على الانفعال، وبما أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الشيء في ذاته هي الشعور بدلالته الانفعالية، فإنهم سرعان ما يبدءون في فقد حسهم بالواقع.»
1
هذا «الاقتصاد الإدراكي»، أو عادة قراءة بطاقات الأشياء، هو أمر مفيد ولا بد منه لادخار الطاقة وحفظ الحياة، وقد قيل يوما: إن الذئب الفنان يموت جوعا! وتأويل ذلك أنه سيظل يتأمل الشاة (ويتغذى بانفعاله الإستطيقي) ولن ينقض عليها أبدا، إنه «جمالي متطرف»
aesthete
يسرف في إدراكه ويخلط المقولات
2
Page inconnue
ويفشل في «عزل»
3
الفن، ويريد أن يسير الحياة بمقتضيات الفن. «وقد بين روجر فراي أنه من المحال على أغلب البشر أن ينظروا إلى ثور مغير (هاجم) كغاية في ذاته، ويسلموا أنفسهم للدلالة الانفعالية لأشكال الثور، فنحن ما نكاد نميز بطاقة «ثور مغير» حتى نهيئ أنفسنا للفرار لا للتأمل، ها هنا تكون عادة تمييز البطاقات مفيدة لنا، إلا أنها تضرنا عندما تحول بين الأشياء وبين استجابتنا الانفعالية لها رغم غياب أي داع للفعل أو العجلة ... إن عادة تمييز البطاقة وإغفال الشيء، والرؤية الفكرية بدلا من الرؤية الانفعالية؛ هي علة ذلك العمى المذهل، أو بالأحرى تلك الضحالة البصرية، لمعظم الراشدين المتحضرين، فنحن لا ننسى ما حرك شعورنا، ولكن ما اجتزأنا بتمييزه ولم نزد فهو لا يخلف في ذهننا أثرا عميقا.»
4
مساوئ الموقف العملي
ذلك هو الموقف العملي، أما «الموقف الإستطيقي» فهو الموقف الذي نتخذه من شيء ما عندما نهتم به دون باعث من المنافع العملية، فنوليه اهتماما «منزها عن الغرض»
disinterested
ونتأمله من أجل ذاته فحسب، فإذا كانت العادة تغطي عالمنا بقشرة من الرتابة وتذهب بماويته وبهائه وتغشي على موضع الدهش منه، فإن الفن اختراق إلى باطن الحياة وقراءة في قلب الواقع وامتداد بملكات الإدراك ، وإذا كانت الحياة العملية «تقلص رؤيتنا وتضع على أعيننا غمائم كي لا نتلفت ولا ننظر إلا في الاتجاه الذي تفرضه ضرورات العمل.»
5
فإن الفن سراح للعين والخاطر، وهجرة إلى الواقع النهائي.
Page inconnue
يرى السوقة أن الفنان رجل ذاهل جدا، لأنه متيقظ جدا لما نحن ذاهلون عنه، إننا نبتذل الوجود ونسطحه، ونشيح عنه كأننا سنزوره ألف مرة، فلا ننظر الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقاتها، ونرى إليها بعين الغرض فلا نرى غير تصنيفاتها التي أعدتها لنا سلفا ثقافتنا المحلية، إننا ننظرها باللغة، واللغة تطمس الفروق وتسرق «فردية» الأشياء وتحيلها إلى فئات عامة وأنماط كلية، ينصب «اللفظ» وجهه بيننا وبين «الشيء» فيحجبه عنا، فلا نرى منه غير الاسم والغرض (وإلا لكنا جميعا رسامين ومثالين).
ولا تكتفي الألفاظ بأن تقف حائلا بيننا وبين الأشياء، بل تقف أيضا حائلا بيننا وبين أنفسنا! إن مشاعرنا وانفعالاتنا الذاتية لتفلت هي أيضا من قبضتنا، فنحن لا نعرفها على وجه التحديد - لا نلمس تعاريجها الدقيقة ولا نسبر أعماقها الغائرة ولا نتبين قسماتها الفردية وملامحها الشخصية، ولا ندرك منها إلا جانبها التقريبي غير الشخصي ووجهها العام الشائع الذي تسنى للغة أن تلتقطه وتسجله (وإلا لكنا جميعا شعراء وروائيين وموسيقيين).
إن الحياة العملية، كما يقول برجسون، تلقي بنا في عالم نفعي يقوم على بعض الرموز والدلالات العامة، من شأنها أن تسلب منا فردية الأشياء وفرديتنا، وينقضي وجودنا في منطقة محصورة ضيقة لا هي بالذات ولا هي بالعالم الخارجي، بل هي - على وجه التحديد - منطقة متوسطة بيننا وبين الأشياء، هي منطقة التعامل مع الواقع، يقول برجسون: «لقد عملت المصادفات السعيدة على ظهور أناس تبدو حواسهم وشعورهم أقل التحاما بالحياة، وكأن الطبيعة قد نسيت أن تربط ملكة الإدراك الحسي عندهم بملكة الفعل والتصرف، وهؤلاء حينما ينظرون إلى شيء فإنهم لا يرونه لأنفسهم، بل لنفسه هو! وهم لا يدركون لمجرد العمل والتصرف، بل يدركون للإدراك ذاته، أعني لغير ما غاية، اللهم إلا المتعة وحدها، وهم يولدون منفصلين - في جانب من جوانبهم، سواء أكان هذا الجانب هو إحدى الحواس أم هو الشعور نفسه - عن الواقع أو الحقيقة الخارجية، وبالتالي فإنهم يولدون مصورين أو مثالين أو موسيقيين أو شعراء.»
6
الفصل الثالث
الفن معرفة وكشف
قليلة هي الأشياء الهامة التي تقبل البرهان، فالأشياء الهامة إنما يتوجب أن يحس بها ويعبر عنها.
كلايف بل (1) لذة أم معرفة؟
تأتي الخبرة الإستطيقية دائما مصحوبة بصنف معين من اللذة، غير أن اللذة ليس كل شيء في الخبرة الإستطيقية، بل إن هناك اتجاها عارما في العصر الحديث نحو تعريف الفن في حدود «المعنى» و«الدلالة»، بدلا من اختزاله إلى خبرة تبعث اللذة أو تشبع الحواس، فالفن أخطر من اللذة، ومهمة الفنان أجل من مجرد «تجهيز لذات»، لقد صرنا نجد لدى عامة الجمهور انصرافا عن القيم الفنية الرفيعة، وصرنا نجد لدى كبار الفنانين اتجاها قويا نحو إدخال عناصر «التنافر»
dissonance
Page inconnue
و«القبح» في أعمالهم، وربما عمد الفنان الحديث إلى أن تكون لوحاته مزعجة واستفزازية، وأن تكون موجعة مقلقة منغصة بدلا من أن تكون جميلة رائقة تسر الناظرين، مما يؤدي إلى المفارقة الحديثة التالية: «أنا أحب لوحات الفنان س؛ لأنها مقلقة للغاية.» أو «أنا أحب روايات الكاتب ص؛ لأنها شديدة الإزعاج.»
تقول سوزان لانجر في كتابها القيم «الفلسفة بمفتاح جديد»: إن الفن العظيم ليس مجرد لذة حسية مباشرة، وإلا لوجد استجابة مرضية لدى العامة قبل الخاصة، وليس من شك في أن الكثير من اتجاهات الفن المعاصر قد أصبحت شاهدا واضحا على قلة اهتمام الفنانين بتقديم أشكال سارة أو نماذج جميلة، مما يضعف حجة القائلين بأن الفن هو مجرد متعة أو لذة، فإذا أضفنا إلى ذلك أننا نشهد اليوم اهتماما منطقيا وسيكولوجيا كبيرا بمفهوم الرمز، مع ما يقترن به من دراسة للوسائط التعبيرية وطرق ترجمة الأفكار أو المعاني، أمكننا أن ندرك كيف أن فلسفة الفن الجديدة لم تعد تستطيع الاستغناء عن مفهوم «الشكل الدال» (أو الصورة ذات المعنى)
Significant Form .
1
إن الإنسان، كما بين إرنست كاسيرر
E. Cassirer ، هو حيوان رامز قبل كل شيء، أي حيوان يصنع الرموز ويعيش في عالم من الرموز، والفن هو مظهر من مظاهر حضارة الإنسان إلى جانب الأسطورة والدين واللغة والتاريخ والعلم. وليست الرموز البشرية مجرد مجموعة من العلامات التي تشير إلى بعض المعاني أو الأفكار أو التصورات، بل هي شبكة معقدة من الأشكال التي تعبر عن مشاعر الإنسان وانفعالاته وأهوائه ومعتقداته، «إن فطرة الإنسان أوسع من دائرة العقل الخالص.» ومكانة الفن في مضمار الحياة الإنسانية إنما ترجع إلى كونه لغة من اللغات الرمزية العديدة التي حاول الإنسان أن يصطنعها في فهمه للعالم،
2
فالفن ليس مجرد تكرار لحقيقة جاهزة أو ترديد لواقع قائم سلفا، بل هو كشف لحقيقة جديدة وتعبير عنها بلغة رمزية.
والفن شكل قبل كل شيء، والأثر الفني هو أثر فني لأنه شكل كلي متسق مع نفسه وقابل للإدراك، وكأنما هو موجود طبيعي له وحدته العضوية واكتفاؤه الذاتي وحقيقته الفردية، فليس العمل الفني تعليقا على شيء يمتد فيما وراءه في صميم العالم، ولا قرينة تذكرنا بأشياء أخرى قائمة في الواقع الخارجي، إنما الآثار الفنية «رموز» تنطوي على معان، لا مجرد «علامات» تدل على أشياء، والتعبير الفني ليس مجرد استجابة لموقف حاضر أو لمؤثر واقعي، بل هو «شكل رمزي» يوسع من دائرة معرفتنا ويمتد بها إلى ما وراء مجال خبرتنا الواقعية أو دائرة تجربتنا الحالية. (2) الفرق بين الرمز والعلامة
سبق لهيجل أن ميز بين الرمز والعلامة، فقال إن العلاقة التي تربط العلامة الحقيقية بالشيء الذي تدل عليه هي علاقة «اعتباطية»
Page inconnue
arbitrary
3
لا ضرورة فيها، أما في حالة الرمز فالأمر مختلف تماما؛ فالأسد مثلا يستخدم كرمز للشهامة، والثعلب كرمز للمكر، والدائرة كرمز للخلود، غير أن الأسد والثعلب فيهما الصفات التي من المفروض أن يعبرا عن معناها، وهكذا ففي حالة الرمز على اختلاف أنواعه يحتوي الموضوع الخارجي في ذاته ومنذ البدء على المعنى الذي استخدم لتمثيله، فهو ليس علامة اعتباطية ولا يستعمل كيفما اتفق، بل هو علامة تتضمن في شكلها الخارجي ذاته مضمون التمثل الذي تظهره.
وقد أكد دي سوسير فكرة اعتباطية العلامة ورسخها ترسيخا نهائيا، وبين أن «الرمز» ليس اعتباطيا تماما؛ فهو ليس فارغا بل هناك جذر رابطة طبيعية فيه بين الدال والمدلول؛ فرمز العدالة - الميزان - لا يمكن استبداله اعتباطا بأي رمز آخر - كالعربة مثلا.
4
وأسهب طودوروف في بيان الفرق بين العلامة والرمز، أما سوزان لانجر فقد ميزت تمييزا واضحا بين الرموز والعلامات، فذهبت إلى أن «العلامة»
signs (مثل ألفاظ اللغة وإشارات المرور ... إلخ) هي شيء نعمل بمقتضاه أو وسيلة لخدمة الفعل، وأن علاقتها بمعناها علامة اتفاقية غير ضرورية، فهي مستقلة عن معناها، تشير أو تحيل إليه ثم لا يعدو شأوها أكثر من ذلك، أما «الرمز»
symbol (مثل الأسد والصليب وغصن الزيتون والميزان ... إلخ) فهو أداة ذهنية أو مظهر من مظاهر فعالية العقل البشري، إنه شكل كلي مستقل بذاته ملتحم بمعناه لا يحيل إلى أي شيء خارجه، وبهذا المعنى تكون الآثار الفنية رموزا حقيقية تنطوي على معان أو دلالات؛ فالعمل الفني هو لغة رمزية تنقل إلينا عيانا مباشرا وتحمل تعبيرا حيا وتحيطنا علما بحقيقة وجدانية. والوظيفة الأولى للفن هي تحويل الوجدان إلى حقيقة موضوعية ماثلة بحيث يكون بوسعنا أن نتأمله ونفهمه، والوجدان الذي يعبر عنه العمل الفني وجدان مباشر لا ينفصل عن العمل، شأنه في ذلك شأن المعنى الكامن في المجاز الحقيقي، أو القيمة الماثلة في الأسطورة؛ ومن ثم فنحن لا نتحدث عادة عن الوجدان الذي يعنيه العمل الفني ويشير إليه، بل نتحدث عن الوجدان الكامن في العمل الفني كحالة باطنة في أعماقه.
5 (3) الحقيقة الفنية
الفن إذن أداة من أدوات الكشف عن الحقيقة، ووسيلة رمزية للمعرفة، والرسالة التي يبثها إلينا الفن أعمق من أن تكون لذة حسية عابرة أو متعة جمالية زائلة، فالعمل الفني لغة رمزية لها معنى ودلالة، ويبدو أن اللذة الإستطيقية هي شيء قريب من الإشباع أو الرضا الذي يقترن عادة بعملية الكشف عن الحقيقة، وليس من المستبعد تماما أن تكون اللذة مجرد «نتاج ثانوي»
Page inconnue
byproduct
للكشف أو «ظاهرة مصاحبة»
epiphenomenon ، فكما أن العلم يكشف لنا بعض مضامين العالم وينقلها إلى مجال المعرفة الموضوعية، فإن الفن يقوم بدور مماثل ، ولكن في مجال المضمون الوجداني للعالم، إن حدود اللغة ليست هي الحدود النهائية للتجربة، والأشياء التي لا تقوى اللغة على التعبير عنها قد تملك صورها الخاصة القابلة للتصور؛ نظرا لما تنطوي عليه من إشارات رمزية خاصة.
ومجمل القول: إن العمل الفني يكشف عن «حقيقة فنية»، والحقيقة الفنية في رأي سوزان لانجر هي صدق الرمز في التعبير عن أشكال الوجدان، وهي في ذلك تقترب من رأي الأستاذ ت. م. جرين
T. M. Greene
الذي دافع بشدة عن فكرة «الحقيقة الفنية»، وجعل للفن مهمة معرفية شأن العلم والفلسفة، وذهب إلى أن الفنان يكمل العلم عن طريق كشفه لحقائق لا يستطيع العلم التوصل إليها أبدا.
يرى جرين أن العمل الفني يمكن أن يكون صحيحا أو باطلا بالمعنى نفسه الذي تكون به القضية العلمية صحيحة أو باطلة، ويخضع لمعيار «الاتساق»
cosistency
و«التطابق» (التناظر)
correspondence
Page inconnue