ـ[دلائل الإعجاز في علم المعاني]ـ
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (المتوفى: ٤٧١هـ)
المحقق: محمود محمد شاكر أبو فهر
الناشر: مطبعة المدني بالقاهرة - دار المدني بجدة
الطبعة: الثالثة ١٤١٣هـ - ١٩٩٢م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
Page inconnue
- أ -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
تبارَكَ الَّذِى نزَّل الفُرْقَانَ على عَبْدِه لِيكونَ للعالمينَ نَذِيرا، والحمدُ لله الذى هدانَا بِه وأخْرجَنا من الظلُماتِ إلى النُّورِ، وصلَّى الله على نبينا محمّد الذى نَزَل القرآنُ العظيمُ بلسانِه لسانا عربيًّا مُبِينًا، لا يأتِيه الباطِلُ من بَيْن يَدَيه ولا من خَلْفه، اللهمَّ صَلِّ على محمّدٍ وعلى أبَويْه إبرهيِمَ وإسماعيلَ وسلِّم تسليما كثيرًا. اللهمَّ اغْفِرْ لنا وارحَمنا وأنتَ خيرُ الراحمين.
وبعدُ فمنذ دهر بعيد، حين شققتُ طريقى إلى تذوُّق الكلام المكتوب، منظومه ومنثوره، كان من أوائل الكتب التى عكفتُ على تذوُّقها كتاب " دلائل الإعجاز"، للشيخ الإمام " أبى بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى "، الأديبِ النحوي، والفقيهِ الشافعى، والمُتكلِّمِ الأشعرىِّ [توفى سنة ٤٧١ هـ، أو سنة ٤٧٤ هـ]، ويومئذٍ تنبَّهتُ لأربعة أمور:
الأوّل: أنه بدَا لىَ أن عبد القاهر كان يريدُ أن يؤسس بكتابه هذا علما جديدًا استدرَكَهُ على من سبقه من الأئمة الذين كتبُوا فى " البلاغة " وفى " إعجاز القرآن "، ولكن كان غريبًا عندى أشدَّ الغرابة، أنه لم يَسِرْ في بناءِ كتابه سيرةَ من من يؤسس علمًا جديدًا، كالذى فعله سيبويه فى كتابه العظيم، أو ما فعله أبو الفتح ابن جِنى فى كتابه " الخصائص "، أو كالذى فعله عبد القاهر نفسُه فى كتابه " أسرار البلاغة "، بل كانَ عملُه وهو يؤسس هذا العلمَ الجديد، مَشُوبًا بحميَّة جارفةٍ لا تعرف الأناةَ فى التبويب والتقسيم والتصنيف، وكأنه كانَ في عَجَلةٍ من أمره، وكأنّ منازعا كان يُنازعُهُ عند كُلّ فكرةٍ يريدُ أن يُجَلّيَها ببراعته وذكائه وسُرعة لَمْحه، وبقوّةِ حُجَّته ومضاءِ رأيه.
مقدمة / 3
-ب -
الثاني: أني وقفت في كتابه على أقوال كثيرة لم ينسبها بصريح البيان إلى أصحابها، حتى نتبين من يكون هؤلاء؟ وكان من أعظم ما حيرني قولان رددهما في مواضع كثيرة من كتابه؛ بل إن الكتاب كله يدور على رد هذين القولين وإبطال معناها؛ الأول قول القائل: "إنَّ المعاني لا تَتزايد، وإِنما تتزايدُ الألفاظُ"، [دلائل الإعجاز: ٦٣، ٣٩٥] = الثاني، قول القائل: "إنَ الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ الكلماتِ، ولكن تظهر بالضم على طريقة مخصوصة"، [دلائل الإعجاز: ٣٩٤، ٤٦٦، ٤٦٧].
الثالث: أن عبد القاهر جمع هذين القولين في فصل واحد، [ص: ٣٩٤، ٣٩٥]، وجمع معهما قوله: "ثم إن هذه الشائعات التي تقدَّمَ ذِكْرُها، تَلزَمُ أصحابَ الصَّرْفة"، أيضًا" [ص: ٣٩٠]، والقول بالصرفة من أقوال المعتزلة، فبدا لي يومئذ أن بين هذين القولين وأصحاب "الصرفة" من المعتزلة نسبًا، ولكني لم أقف على ما يرضيني إن ذهبت هذا المذهب.
الرابع: أن عبد القاهر في مواضع متناثرة كثيرة، قد دأب على التعريض بأصحاب "اللفظ"، وبالذين يقولون: "بالضم على طريقة مخصوصة"، وأوهموا أنه "النظم" الذي ذكره الجاحظ في صفة القرآن [دلائل الإعجاز: ٢٥١]، وهو أيضًا "النظم" الذي عليه مدار علم عبد القاهر الذي أسسه، فكان مما شغلني، أطول كلام من تعريضه بهم، وهو ما جاءني في أواخر كتابه "دلائل الإعجاز"، وهو قوله:
"واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ إِذا كان صَدَرَه عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غير العمل الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقَعَ في الأَلْسُن، فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر، وكَثُرَ الناقلون له والمشيدون بذكره صار وترك النظر فيه سنة، والتقليد دينا .....،لربما -بل كلَّما- ظنوا أنه لم يَشِعْ ولم يتسع ولم يروه خلف عن سلف إلا لأنَّ له أصْلًا صحيحًا، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان
مقدمة / 4
-جـ -
مَدْخولًا لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تَقادُم الزمان وكرورِ الأيام. وكمْ من خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ حظيَ بهذا السبَبِ عندَ الناس ... ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس، وأَنَّ له أُخْذَةً تَمنَعُ القلوبَ عن التدبُّر، وتقطعُ عن دواعيَ التفكُّر لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ "اللفظِ" هذا التمكُّنُ وهذه القوة وكيف لا يكونُ في إسارِ الأُخْذَةِ، ومَحُولًا بينهم وبين الفكرة، ومن يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفرادِ الكلمات، وإنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفًا لها مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونطق لسان؟ " [دلائل الإعجاز: ٤٦٤ - ٤٦٧]. وقد اختصرت الكلام هنا، ولكن ينبغي أن تقرأه بطوله في المكان الذي أشرت إليه.
من يكون هؤلاء القوم الذين لهم نباهة صيت وعلو منزلة في نوع من أنواع العلوم، غير علم "الفصاحة" الذي قالوا ذلك القول فيه، وتداولته الألسن ونشرته حتى فشا وظهر، وتمكنت أقوالهم المدخولة هذا التمكن، ورسخت في النفوس هذا الرسوخ، وتشعبت عروقها هذا التشعب، مع ما فيها من التهافت والسقوط وفحش الغلط، والتي إذا نظرت فيها لم تر باطِلًا فيه شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيْفًا فيه شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغشَّ بَحْتًا، والغيظ صرفًا؟، كما يقول عبد القاهر [دلائل الإعجاز: ٤٦٥، ٤٦٦] والأمران الثاني والرابع، كان موضع اهتمامي يومئذ، وينبغي أن يكونا موضع اهتمام كل أحد.
وفتشت ونقبت، فلم أظفر بجواب أطمئن إليه، وتناسيت الأمر كله إلا قليلًا، نحوًا من ثلاثين سنة.
حتى كانت سنة ١٣٨١ هـ "١٩٦١ م"، وطبع كتاب "المغني" للقاضي "أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسداباذي"،
مقدمة / 5
- د -
الفقيه الشافعي، المتكلم المعتزلي [توفي سنة ٤١٥]، وكان إمام أهل الاعتزال في زمانه، وعمر دهرًا طويلًا، وكثر أصحابه، وبعد صيته، ورحل إليه طلاب العلم.
في تلك السنة صدر الجزء السادس عشر من كتاب "المغني"، فإذا هو يتضمن فصولًا طويلة في الكلام على "ثبوت نبوة محمد ﷺ، وفي أعجاز القرآن، وسائر المعجزات الظاهرة عليه ﷺ"، [المغني ١٦ - ١٤٣ - ٤٣٣]، فلما قرأته ارتفع كل شك، وسقط النقاب عن كل مستتر، وإذا التعريض الذي ذكره عبد القاهر حين قال: "واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إِذا كان صدره عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه ... " [انظر ما مضى]، لا يعني بهذا التعريض وبهذه الصفة أحدًا سوى قاضي القضاة المعتزلي عبد الجبار، فهو المعتزلي النابه الذكر، البعيد الصيت، العالي المنزلة في علم الكلام والأصول، بيد أنه هو الخامل الذكر، الخالي الوفاض من علم "البلاغة" و"الفصاحة" و"البيان"، ولكنه بهذه البضاعة المزجاة من علم "الفصاحة"، جاء يتكلم في الوجوه التي يقع بها التفاضل في فصاحة الكلام، [المغني: ١٦: ١٩٧ - ١٩٩ وما بعدها]، وفي "إعجاز القرآن" عامة!!
والدليل الساطع، هو أن الأقوال التي ذكرتها آنفًا، وقلت: إن عبد القاهر لم يصرح بنسبتها إلى أحد، هي أقوال القاضي عبد الجبار في كتابه المغني بنصها ولفظها، فهو يقول:
"إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة ... "، ثم يقول بعد ذلك: "إن المعاني لا يقع فيها تزايد، وإذن فيجب أن يكون التزايد عنه الألفاظ كما ذكرناه ... "، [المغني١٦: ١٩٩، ٢٠٠] وهذا القولان هما اللذان يدور كتاب "دلائل الإعجاز" على ردهما وإبطال معناهما. هذا فضلًا عن أقوالٍ أخر ذكرها عبد القاهر، ووجدتها مائلة بنصها
مقدمة / 6
- هـ -
أيضًا في هذا الموضع الذي ذكر فيه القاضي المعتزلي "إعجاز القرآن"، كالقول في "جزالة اللفظ"، حيث يقول القاضي: "ولذلك لا يصح عندنا أن يكون اختصاص القرآن بطريقة في النظم دون الفصاحة، التي هي جزالة اللفظ وحسن المعنى" [المغني١٦: ١٩٨ وما قبله]، فيذكرها عبد القاهر في كتابه ثم يقول: "وأمَّا الأَخيرُ، فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاءَ قد رضُوْا مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم أن يحفظوا كلامًا للأولين ويتدارسونه، ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضًا مِنْ غَير أن يعرِفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيحٍ، ويكونَ عندهم، إن يُسألوا عنه، بيانٌ وتفسير إلا "علم الفصاحة" .... فمِنْ أقْرَبِ ذلك أَنك تَراهم يقولون إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: "إن ذلك يكون بجزالة اللفظ" وإذا هم تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ: "إنَّ ذلك يكونُ لوقُوعِهِ على طريقةٍ مخصوصةٍ، وعلى وجهٍ دونَ وجهٍ"، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون "الجزالة" بشيء"، [دلائل الإعجاز: ٤٥٦].
ولم أرد بهذا الاستقصاء، ولكني أردت أن أنبه إلى علاقة لا ينبغي إغفالها أو التهاون فيها، وهي هذه العلاقة بين كلام عبد القاهر، وكلام القاضي عبد الجبار، ذلك أن عبد القاهر منذ بدأ في شق طريقه إلى هذا العلم الجديد الذي أسسه، كان كل همه أن ينقض كلام القاضي في "الفصاحة"، وأن يكشف عن فساد أقواله في مسألة "اللفظ"، بالمعنى المؤقت المحدد في كلامه في كتابه "المغني"، دون المعنى المطلق لِلَّفْظِ من حيثُ هو لفظٌ ونطْقُ لسانٍ. وإغفال هذه العلاقة يؤدي -أو قد أدى- إلى غلط فاحش في فهم مسألة "اللفظ" و"المعنى" عند عبد القاهر في كتابه هذا. فلا "اللفظ" فهم على حقيقته عند عبد القاهر، ولا "المعنى" أيضًا عرف على حقيقته عنده.
وأنا أرجح أن عبد القاهر كتب كتابه هذا في أواخر حياته، بدليل ما هدتنا إليه النسخة المخطوطة من "الدلائل"، التي رمزت إليها بالحرف "ج"، كما سأبينه فيما بعد، وأنه كان يوشك أن يعيد النظر في كتابه؛ ليجعله تصنيفًا في
مقدمة / 7
- و-
علم جديد اهتدى إليه، واستدركه على من سبقه، وشق له الطريق ومهده، ولكن اخترمته المنية قبل أن يحقق ما أراد. وأرجح أيضًا أن السر في العجلة التي صرفته عن التبويب والتقسيم والتصنيف، وأوجبت أن يبنى الكتاب هذا البناء العجيب، هو فيما أظن، أن طائفة من المعتزلة، من أهل العلم، في بلدته جرجان وفي زمانه، كان لهم شغف ولجاجة وشغب وجدال ومناظرة في مسألة "إعجاز القرآن"، واتكأوا في جدالهم على أقوال القاضي عبد الجبار التي جاءت في كتابه "المغني"، والتي ذكرت مواضعها آنفًا، وشققوا الكلام فيها، وكانوا كما وصفهم عبد القاهر بقوله: "فإِن أردتَ الصدقَ، فإِنَّك لا تَرى في الدنيا أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع "اللَّفظِ"، ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم منها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في "اللفظ". فقد بلغ من ملكيته لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم، وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإصغاء ولا صدر، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوسًا قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهُوينا أَسبابَها، فهي تَغْتَرُّ بالأضاليلِ، وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشبه، وتسرع إلى القول المموه"، [دلائل الإعجاز: ٤٥٨].
ومن الدليل أيضًا على العلاقة الوثيقة بين كتاب عبد القاهر، وأقوال القاضي عبد الجبار في كتابه "المغني"، أي بين كتابه وبين المعتزلة، أن كتابه خلا من ذكر "الصرفة"، وهي أشهر أقوال المعتزلة؛ لأنها من اختراع شيخهم القديم النظَّام، إلا في موضع واحد من الكتاب كله [دلائل الإعجاز: ٣٩٠]؛ وذلك لأن القاضي عبد الجبار نفسه، وهو إمام المعتزلة في زمانه، رد مقالة "الصرفة" ونقضها في كتابه [المغني: ١٦: ٣٢٣ - ٣٢٨]، فأغفلها عبد القاهر أيضًا، وخصهم برسالته "الرسالة الشافية" الخارجة من كتاب دلائل الإعجاز، والتي نشرتها ملحقة بالكتاب.
مقدمة / 8
- ز -
هذا ما أردت أنبه إليه؛ ليعيد الدارسون النظر في كتاب عبد القاهر، وفي قضية "اللفظ" و"المعنى" التي اختلط الأمر فيها اختلاطًا شديدًا أدى إلى فساد كبير في زماننا هذا، وبالله التوفيق.
والآن، أنصرف إلى القول في النسخ التي اعتمدت عليها في قراءة كتاب "دلائل الإعجاز"، وفي التعليق عليه تعليقًا مختصرًا، وجعلت همي أن يكون قارئ الكتاب ماضيًا في قراءته دون أن يتعثر أو يتلفت تلفتًا يعوقه عن المضي في قراءته، فأعنته بتقسيمه إلى فقر مرقمة، ودللته على سياق كلام عبد القاهر؛ فإن كلامه ربما شق على كثير من أهل زماننا، حين كتب عليهم أن يهجروا كتب أسلافهم من الفحول الأفذاذ.
• النسخة المخطوطة الأولى "ج": وهي من مكتبة "حسين جلبي معاني، بتركية، وعدد أوراقها: ٢٠٣ ورقة"، ليس فيها اسم ناسخها، ولكن تمت كتابتها في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وستين وخمسمائة (٥٦٨ هـ)، أي بعد وفاة عبد القاهر بنحو سبع وتسعين سنة، [دلائل الإعجاز: ٥٥٧]، ونص كاتبها في أحد الفصول الملحقة بالكتاب أن "هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب، كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة"، "٥٧٢ هـ" [دلائل الإعجاز: ٥٦٨]، ثم يذكر في صدر فصل آخر بعده: "هذا مما نقل من مسودته بخطه بعد وفاته ﵀"، [دلائل الإعجاز: ٥٣٩]، فدلنا هذا على أنه نقل ما نقل من خط عبد القاهر.
ولكني بقي شيء آخر، هو أن علي هذه المخطوطة في هامشها تعليقات بخط كاتبها، استظهرت -وأنا أقرأ الكتاب عند الطبع- أنها من تعليق عبد القاهر نفسه، حتى جاءت مواضع تقطع قطعًا مبينًا أنها تعليقات عبد القاهر على
مقدمة / 9
- حـ -
نسخته، فدل هذا، والذي قبله، على أن هذه النسخة منقولة من نسخة عبد القاهر التي كتبها بخطه في آخر حياته، وهذا بيان بأكثر المواضع التي جاءت فيها الحواشي مسلسلة، وفيها الدلالة على ذلك:
ص: ٢٠، تعليق: ٢/ ٢٧، تعليق: ٥/ ٣١، تعليق: ٢/ ١٥٢: تعليق: ٤، وفي صدره: "قال عبد القاهر، / ١٥٩، تعليق: ٤ وهو أسلوب عبد القاهر/ ١٦٢، تعليق: ١/ ١٦٥، تعليق: ٢/ ١٩٥، تعليق: ١/ ٢١٠، تعليق: ٣/ ٢١٦، تعليق: ٤، وهو أسلوب عبد القاهر/ ٢٣٠، تعليق: ١/ ٢٦٤، تعليق: ٢، أسلوب عبد القاهر/ ٢٧٦، تعليق: ١/ ٢٨٨، ٢٨٩، تعليق: ٤، أسلوب عبد القاهر/ ٢٩٠، تعليق: ١ أسلوب عبد القاهر/ ٣٠١، تعليق: ٢/ ٣١٠، تعليق: ٤/ ٣١٣، تعليق: ١/ ٣١٨ تعليق: ١/ ٣٤٠ - ٢٤٣ تعليق: ٢، وكتب الناسخ، "حاشية"، ثم كتب فوقها: "هذه الحاشية مؤخرة في أماليه المدونة"، فهذا نص يقطع بأن جمع الحواشي منقولة من نسخة عبد القاهر، وأيضًا؛ فإن هذه الحاشية نفسها ستأتي في نص كلام عبد القاهر بعد قليل في رقم: ٤٠٥/ ٣٥٦، تعليق: ٢/ ٣٦٧، تعليق: ١/ ٣٧٣، تعليق: ٢/ ٣٧٤، تعليق: ٢/ ٣٨٠، تعليق: ٢/ ٣٨٣، تعليق: ١، ونص الحاشية: "هذا تعليل لقولي: لم يلزم من إثبات الآلهة"، وهو نص قاطع بأن هذه الحواشي نسخة عبد القاهر/ ٤٤٧، تعليق: ٢/ ٤٩٩، تعليق، ٢، وهو بلا شبهة من كلام عبد القاهر: ٥٠٢، تعليق: ١
وقد فاتتني حواش أخر كتبها عبد القاهر على هذه النسخة، ولكني لم أحسن قراءتها، فلم أثبت منها شيئًا. والذي ذكرته آنفًا قاطع كما ترى، بأن ناسخ "ج"، إنما نسخها من نسخة عبد القاهر نفسه، وزاد: فائدة خلت منها جميع النسخ، ولهذا جعلتها هي الأصل الأول الذي اعتمدت عليه.
أما ترتيب هذه النسخة "ج"، فهو كما يلي:
١ - من ص: ١، إلى ص: ٣٠٧، نص كتاب "دلائل الإعجاز"، كما دلت على النسخة الأخرى "س"، كما سأبينه، ثم ترك بياضًا بين الكلامين وكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا القسم يقع في مطبوعتنا من ص: ١ إلى ص: ٤٧٨.
مقدمة / 10
- ط -
٢ - من ص: ٣٠٧ - ٣٣٢، ويبدأ فصل آخر، وهو موجود بهذا الترتيب في مطبوعة رشيد رضا، وهو في مطبوعتنا من ص: ٤٨١ - ٥٢٤.
٣ - من ص: ٣٣٣ - ٣٤٣، فصل آخر، موجود في نسخة رشيد رضا، وهو في مطبوعتنا من ص: ٥٢٥ - ٥٣٨.
٤ - من ص: ٣٤٣ - ٣٥١، موجود في نسخة رشيد رضا. مؤخرُا عن موضعه في المخطوطة، وهو فيها من ص: ٣٩٣، إلى آخر مطبوعته ص: ٤٠٢، واتبعته في ذلك، فهو في مطبوعتنا مؤخر أيضًا، وهو فيها من ص: ٥٤٦ إلى ص: ٥٥٧.
٥ - من ص: ٣٥٢ - ٣٥٦، موجود في نسخة رشيد رضا مقدمًا عن موضعه في المخطوطة، وهو فيها من ص: ٣٨٩، إلى ص ٣٩٣، واتبعته أيضًا فهو في مطبوعتنا من ص: ٥٣٩ - إلى ص: ٥٤٥.
٦ - من أوسط ص: ٣٥٦، إلى آخر ص: ٣٦٠، فصول ومسائل ملحقة بالكتاب، ليست في نسخة رشيد رضا، وهي في مطبوعتنا من ص: ٥٦١، إلى ص: ٥٦٩.
٧ - من ص: ٣٦١ إلى ص: ٣٦٦، وبعدها ص: ٣٦٧، ٣٦٨ ورقة بيضاء فاصلة: "المدخل في دلائل الإعجاز من إملائه"، وقد قدمها رشيد رضا في أول كتاب "دلائل الإعجاز" وأحسن، فاتبعته وقدمتها في اول هذه المطبوعة أيضًا.
٨ - من ص: ٣٦٩ - ٤٠٥، "الرسالة الشافية في الإعجاز، هذه الرسالة خارجة من كتابه الموسوم بدلائل الإعجاز"، وقد نشرت من قبل كما سأذكر ذلك، ونشرتها أيضًا، وهي في مطبوعتنا من ص: ٥٧٣ إلى ص: ٦٢٨ فهذه هي النسخة التي جعلتها أصلًا أول؛ لنفاستها وعتقها، ولأنها
مقدمة / 11
- ى -
منقولة من خطّ الشيخ ﵀، وعليها حواشيه بخَطّه، ولم تخلُ من بعض العيوب، أشرت إليها فى تعليقى على الكتاب.
• النسخة المخطوطة الثانية " س"، وهى من مكتبة أسعد أفندى ٣٠٠٤، بتركية، وليسَ فيها اسم ناسخها ولا تاريخ كتابتها، والأرجح أنها من خطوط القرن السادس أيضًا أو القرن السابع. وهى نسخة نفيسة دقيقة مضبوطة ضبطًا كاملًا، مع بعض العيوب التى تتخللها، والتى أشرت إليها فى تعليقى على الكتاب، وهى خالية من كُلّ حاشية، وهى التى دلَّتنى على آخرِ كتاب " دلائل الاعجاز "، وأن ما بعد ذلك فى نسخة " ج "، إنما هو " رسائل وتعليقات " نقلها كاتب "ج " من خَطّ عبد القاهر بعد وفاته ﵀، والموجودة أيضًا فى الأصول التى طبعت عنها نسخة رشيد رضا. وهى تقع فى مطبوعتنا من أول الكتاب ص: ١، إلى ص: ٤٧٨، ونص كاتبها أنه بهذه النهاية تم كتاب " دلائل الاعجاز ".
فهاتان هما النسختان النفيستان اللتان جعلتُهمَا اصلًا لقراءتى وتعليقى.
• مطبوعة الشيخ محمد رشيد رضا ﵀ سنة ١٣٢١، وهى أولُ مطبوعة صدرت، من كتاب " دلائل الِإعجاز"، فكتب فى آخر الكتاب كلمةً ذكر فيها أنه نشر كتاب "أسرار البلاغة " لعبد القاهر فى أول سنة ١٣٢٠، ثم قال: " لما هاجرت إلى مصرَ لإنشاء مجلة " المنار " الِإسلامى فى سنة ١٣١٥، وجدتُ الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده، رئيس جمعية إحياء العلوم العربية، ومفتى الديار المصرية، مُشتغِلًا بتصحيح كتاب " دلائل الِإعجاز، وقد استحضر نسخةً من المدينة المنورة، ومن بغداد، ليقابلها على النسخة التى عنده. وأزيدُ الآن، أنه قد عُنى بتصحيحه أتم عناية، وأشرك معه فيها إمامَ اللغة وآدابها فى هذا العصر، الشيخ محمد محمود التركزىَّ الشِّنْقِيطى، ونَاهيك بكتابٍ اجتمعَ على تصحيح أصله علاّمتا المعقول والمنقول".
مقدمة / 12
- ك-
فهذه المطبوعة إذنْ، لها ثلاثة أصولٍ مخطوطةٍ لا أعرفُ عنْها شيئًا، ولكن لما لها من منزلة التقدم، ولأن الذين تولَّوْا نشرها ثلاثة من كبار علمائنا فى هذا العصر، فقد جعلتُها أصلًا ثالثًا، واتبعتُ ترتيبَها، حتى لا تَخْتَلَّ معرفة الناس بهذا الكتاب الجليل الذى بقى فى أيديهم على صورته هذه أكثر من ثمانين سنة. ولكن لابُدَّ من الاشارة هنا إلى أن الخطوطتين"ج " و"س" قد صححتَا خَلَلًا شديدًا كان فى بضعة مواضع من الكتاب، وكان شَرها وأبشعها ما وقع فى هذه المطبوعة فى ص: ٣٩٠، ٣٩١ وهو واقع فى مطبوعتنا ص: ٥٤٠ تعليق: ٤، فقد كان كلامًا لا يُعْقَل ولا يُهْتَدَى إلى صوابه، ولا أدرى كيف وقع هذا الخلل. وعندما بدأت قراءة الكتاب ونشره، كانت نيَّتى أن استبقى جميع تعليقات الشيخ رشيد ﵀، ففعلتُ ذلك فى أوائل الصفحات، ثم أضربتُ عنْ ذلك، لقلة فائدة هذه الحواشى، ولكيلا يختلطَ عملى بعمل غيرى، ولكنّى لم أخلِ تعليقاتى من الإشارة إلى تعليقاته ﵀.
فهذه المطبوعة، إذنْ، كأنها اعتمدت على خمس مخطوطات: مخطوطة " ج " و" س"، ثم مخطوطة المدينة، ومخطوطة بغداد، ومخطوطة الشيخ محمد عبده، وهى ثلاثة لا أعرف عنها شيئًا، إلا ثِقة منِّى بعمل الشيخ رشيد رضا ﵀، وغفر لنا وله.
بقى شىء واحد، وهو أنى وضعت فى هامش الكتاب أرقام صفحات المخطوطة " ج" برسم الأعداد العربية المألوف فى بلادنا، وأرقام صفحات الخطوطة " س " برسم الأعداد التى كتب بها الأعاجم أعدادهم، وأما صفحات مطبوعة الشيخ رشيد، فقد وضعت أرقام صفحاتها فى دائرة O هكذا، وهى فاصلة فى سياق الكلام، وآثرت ذلك، لأنّ هذه المطبوعة بقيت دهرًا طويلًا فى أيدى العلماء، وأحالوا إلى صفحاتها فى حواشيهم، لأنها أجودُ نسخةٍ طبعت من كِناب " دلائل الاعجاز" حتى تم طبعُ نسختنا هذه.
مقدمة / 13
- ل -
• أما " الرسالة الشافية" المثبتة فى آخر نسخة "ج "، فقد نص الناسخ على أنها " خارجة من كتابه الموسم بدلائل الإعجاز "، وقد نشرها من قبل الأستاذان " محمد خلف الله أحمد " و" محمد زغلول سلام "، فى مجموعة ذخائر العرب، ضمن كتاب بعنوان: " ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن، للرُّمَّاني، والخَطَّابى، وعبد القاهر الجرجانى "، عن نسختنا "ج " نفسها. وقد آثرت أن أعيد نَشْرَها، لأنها قطعة من النسخة "ج " التى جعلتُها أصلًا معتمدًا للنشر، ثم للسبب الذى ذكرته آنفًا من أن عبد القاهر، كان ينقضُ بكتابه قول الطائفة التى اتبعت القاضى عبد الجبار من المعتزلة، وقالت بقوله وردَّدته، ولم يذكر فيه القائلين من المعتزلة بقول شيخهم القديم النظام فى " الصرفة "، وأفرد لهم هذه " الرسالة الشافية "، ففيها الردّ على أهل " الصرفة " وغيرهم من المعتزلة. وكانت أيضًا هذه المطبوعة الأولى، غير مطابقة كل المطابقة لما فى المخطوطة، كما أشرت إليه فى التعليق عليها، وأرجو أن كون قد أحسنتُ.
والحمدُ لله أوَّلًا وآخرًا على توفيقه وعظيم إنعامِه علىَّ، بٍأن أتولَّى قراءةَ هذا السفر الجليل والتعليقَ عليه، مُقِرًّا بالعَجْزِ والتقصير، ضارعا إليه أن يَغْفر لى ما أسأتُ فيه، وأسألهُ أن يُعيننى على مَا أُقْحِم نفسى فيه من عَمَل أريدُ به وجهَهُ سبحانه، ثُمَّ ما أضمرُهُ من خدمة هذه اللُّغة الشريفة النبيلة التى شرفَها الله وكرَّمها بتنزيل كتابه بلسانٍ عربىّ مبين، وصلَّى الله على النبىّ الأمِّىِّ صلاة تُزْلِفُنا عنده، ﷺ، وصلَّى الله على أبويه الكريمين إبْراهيم وإسْماعيل وعلى سائر أنبيائه ورُسُله. اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا ويسِّر لنا كُل عسِير.
الثلاثاء: ٥ جمادى الأولى سنة ١٤٠٤
٧ فبراير سنة ١٩٨٤
مصر الجديدة/ ٣ شارع الشيخ حسين المرصفى
أبو فهر
محمود محمد شاكر
مقدمة / 14
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة المصنف في مكانة العلم:
حسبي ربي ١:
خطبة الكتاب:
الحمدُ للَّهِ ربَّ العالمين حمْدَ الشاكرين، نَحمدُه على عظيمِ نَعْمائه، وجميلِ بَلائه، ونَستكفيهِ نوائبَ الزَّمان، ونوازلَ الحدَثان، ونَرغبُ إليه في التَّوفيقِ والعِصْمة، ونَبْرأ إليه منَ الحَوْل والقوَّة، ونسألهُ يقينًا يملأُ الصدرَ، ويَعْمر القلبَ، ويَستولي على النَّفس، حتى يكُفَّها إذا نَزغت، وَيرُدَّها إذا تطلَّعتْ، وثقةً بأنه ﷿ الوَزَر، والكالئ والرَّاعي والحافظُ، وأنَّ الخيرَ والشرَّ بيدهِ، وأنَّ النِّعَم كلَّها من عنِده، وأنْ لا سلطانَ لأحدٍ معَ سُلطانهِ، نُوجِّه رغباتِنا إليه٢، ونُخْلص نيَّاتِنا في التوكلُّ عَليه، وأن يَجْعلنا مِمَّنْ هَمُّه الصدقُ، وبُغْيَتُه الحقُّ٣، وغرَضُه الصَّواب، وما تُصححه العقولُ وتَقْبله الألبابُ، ونعوذُ به مَن أنْ ندَّعيَ العلمَ بشيءٍ لا نَعلمه٤، وأَنْ نُسَدِّيَ قولًا لا نُلحمه، وأنْ نكونَ ممَّن يَغُرُّه الكاذبُ منَ الثَّناء٥، ويَنْخدعَ للمتجوِّز في الإطراء، وأن يكونَ سبيلُنا سبيلَ مَنْ يُعْجبه أنْ يُجادل بالباطلِ٦، ويُموِّه على السامع، ولا يبالي إذا
_________
١ في "س": "رب يسر وأعن".
٢ في "س": "رغبتنا"، وفي الهامش "رغباتنا" عن نسخة أخرى.
٣ في "س"، و"يقينه"، وفي الهامش: "وبغيته": عن نسخة أخرى.
٤ "العلم"، سقطت في "ج".
٥ في "س": "وأن يغرنا الكاذب من الثناء".
٦ في س "وأن نكون ممن يعجبه ... ".
1 / 3
راجَ عنه القولُ أن يكونَ قد خلَط فيه، ولم يُسدَّدْ في معانيه، ونَستأنفُ الرغبةَ إليهِ ﷿ في الصَّلاة على خَيْر خَلْقه، والمُصطفى مِن بَريَّته، محمّدٍ سيّدِ المُرسلينَ، وعلى أصحابهِ الخُلفاءِ الراشدين، وعلى آلهِ الأخيارِ من بعدهم أجمعين.
بيان فضل العلم:
١ - وبعدُ فإنَّا إذا تصفَّحْنا الفضائلَ لنَعرفَ منازلَها في الشَّرف، ونتبيَّنَ مواقِعَها مِن العِظَم؛ ونَعلم أيٌّ أحقٌّ منها بالتّقَديم، وأسبقُ في استيجابِ التعَّظيم، وجَدْنا العِلمَ أَولاها بذلك، وأوَّلُها هنالك؛ إذ لا شَرفَ إلاَّ وهو السّبيلُ إليه، ولا خيرَ إلاَّ وهو الدَّليلُ عليه، ولا مَنْقَبةَ إلاَّ وهو ذُروتها وسَنامها، ولا مَفْخرةَ إلاَّ وبهِ صحَّتُها وتمَامُها، ولا حسنةَ إلاَّ وهو مِفتاحُها؛ ولا مَحْمَدةَ إلا ومنه يَتَّقدُ مصباحُها، وهو الوفيُّ إذا خانَ كلُّ صاحبٍ، والثقةُ إذا لم يُوثَق بناصحٍ، لولاهُ لَما بانَ الإنسانُ من سائِرِ الحيوانِ إلا بتخطيط صُورتِه، وهيئةِ جسمِهِ وبُنيته، لا، ولا وجَدَ إلى اكتسابِ الفضلِ طريقًا، ولا وجَد بشيءٍ منَ المحاسنِ خليقًا. ذاكَ لأنَّا وإنْ كنَّا لا نصلُ إلى اكتسابِ فضيلةٍ إِلا بالفعلِ، وكانَ لا يكونُ فعْلٌ إلاَّ بالقُدرة، فإنَّا لم نَرَ فعلًا زانَ فاعِلَه وأوجبَ الفضلَ له، حتى يكونَ عنِ العلم صَدَرُهُ، وحتى يتتبين ميسمه عليه وأثره، ولم نر قدرةقط كَسبتْ صاحَبَها مَجْدًا وأفادتْه حَمْدًا، دونَ أن يكونَ العلمُ رائدَها فيما تَطْلُب، وقائدَها حيث يؤم ويذهب، ويكُونَ المُصرِّفَ لعِنَانها؛ والمقلِّبَ لها في مَيْدانِها. فهي إذًا مفتقِرة في أن تكونَ فضيلةٌ إليه، وعيالٌ في استحقاقِ هذا الاسم عليه، وإذا هيَ خلتْ منَ العِلم أو أبَتْ أن تمتثل أمره؛ وتقتفي أثره ورسمه١،
_________
١ في "ج" والمطبوعة: "وتقتفي رسمه".
1 / 4
آلتْ ولا شيءَ أحْشدُ للذَّمِّ على صاحبِها منها١. ولا شَيْنَ أشَيْنُ مِن إعمالِه لها٢.
٢ - فهذا من فضلِ العلم لا تَجد عاقلًا يُخالفك فيه، ولا تَرى أحدًا يدَفعُه أو يَنْفيهِ، فأمَّا المفاضلةُ بينَ بعضِه وبعضٍ، وتقديمُ فنٍّ منهُ على فَنّ، فإنَّك تَرى الناسَ فيه على آراءٍ مُختلفة، وأهواءٍ مُتعادية، تَرى كُلًاّ منهم لِحُبِّه نفسَه، وإيثارهِ أن يَدْفعَ النقصَ عنها، يُقدِّم ما يُحْسِن من أنواعِ العلمِ على ما لا يُحْسِن، ويحاولُ الزِّرايةَ على الذي لم يَحْظَ به٣ والطعنَ على أهلهِ والغَضَّ منهم. ثم تتفاوتُ أحوالهُم في ذلك، فمِن مغمورٍ قد استهلكَهُ هَواهُ، وبَعُدَ في الجَوْر مَداه، ومِنْ مُترجِّح فيه بينَ الإِنصافِ والظُّلمْ٤، يجورُ تارة ويَعْدل أخرى في الحُكْم، فأمَّا مَن يَخلُص في هذا المعنى من الحَيْف حتى لا يقضيَ إلاّ بالعدلِ، وحتى يَصْدُر في كلَّ أمرِه عنِ العقلِ، فكالشّيءِ الممتنعِ وجودُه. ولم يكنْ ذلك كذلك، إلاَّ لِشَرفِ العِلم وجليلِ محلِّه، وأنَّ محبَّتَه مركوزةٌ في الطِّباع، ومُرَكَّبة في النُّفوس، وأن الغَيْرة عليه لازمةٌ للجِبِلَّة، وموضوعةٌ في الفِطرة، وأنه لا عيبَ أعيْبُ عندَ الجميعِ مِن عَدَمه، ولا ضَعةَ أوْضعُ من الخلُوِّ عنه، فلم يُعادَ إذن إلا من فَرْط المحبةَّ، ولم يُسمح به إلا لشدة الضن.
علم البيان:
٣ - ثم إنك لا تَرى عِلْمًا هو أرسَخُ أصلًا، وأَبْسَق فَرعًا، وأَحلى جَنىً، وأَعذبُ ورْدًا، وأكرمُ نِتاجًا، وأنْورُ سراجًا، مِن عِلْم البَيان، الذي لولاه لم تر
_________
١ "أحشد" اسم تفضيل من "الحشد"، وهو الجمع.
٢ في المطبوعة: "ولا شيء أشين"، و"الشين"، العيب.
٣ "زرى عمله عليه يزريه زراية وزريًا"، عابه عليه.
٤ "المترجح"، المتذبذب بميل مرة إلى هنا ثم إلى هنا.
1 / 5
لسانًا يَحُوك الوشيَ، ويصَوغ الحَلْيَ، وَيلفِظ الدرَّ، وينفثُ السِّحرَ، ويَقْري الشَّهْدَ١، ويُريكَ بدائعَ منَ الزهر، ويحنيك الحلو اليانع من التمر، والذي لولا تحفيه بالعوم، وعنايتهِ بها، وتصويرهُ إياها، لبقيتْ كامنةً مستورة، ولمَا استبنْتَ لها يدَ الدهرِ صورةً٢، ولاستمرَّ السِّرارُ بأهلَّتها٣، واسْتَولى الخَفَاءُ على جُملتِها، إلى فوائدَ لا يُدركها الإحصاءُ، ومحاسنَ لا يَحْصرُها الاستقصاء.
ما لحق علم البيان من الضيم والخطأ:
إلاَّ أنك لن تَرى على ذلك نوعًا من العلم قد لقيَ من الضَّيْم ما لَقِيَهُ، ومُنيَ مِنَ الحَيْف بِما مُنِيَ به٤، ودَخلَ على الناسِ منَ الغلَط في مَعْناهُ ما دخَلَ عليهم فيهِ، فقد سبقتْ إلى نُفوسهم اعتقاداتٌ فاسِدةٌ وظنونٌ رديَّةٌ، ورَكبهُم فيه جهلٌ عظيمٌ وخطأٌ فاحشٌ، تَرى كثيرًا منهم لا يَرى له معنىً أكثرَ ممَّا يرَى للإشارةِ بالرأس والعين، وما يَجدُه لِلخط والعَقْد٥، يقولُ: إنَّما هو خبرٌ واستخبارٌ، وأمْر ونهيٌ، ولكلِّ مِن ذلك لفظٌ قد وُضع له، وجُعل دليلًا عليه، فكلُّ مَنْ عَرفَ أوضاعَ لغةٍ منَ اللغات، عربيةً كانت أو فارسية، وعرَفَ المغْزى من كلَّ لفظةٍ، ثم ساعدَه اللسانُ على النُّطق بها، وعلى تَأديةِ أجراسِها وحُروفِها، فهو بيِّن في تلك اللّغةِ، كاملُ الأداةِ، بالغٌ منَ البيانِ المبلغَ الذي لا مزيدَ عليه، مُنْتَه إلى الغايةِ التي لا مذهبَ بعدها يسمع الفصاحة والبلاغة
_________
١ "يقريه"، يجمعه.
٢ يقولون: "لا أفعله يد الدهر"، أي لا أفعله أبدًا.
٣ "السرار" بالكسر، اختفاء القمر في آخر ليلة في الشهر.
٤ "مني"، ابتلى وأصيب.
٥ يريد بالعقد التفاهم بعقد الأصابع
1 / 6
والبراعةَ فلا يَعرف لها معنىً سوى الإِطْنابِ في القول، وأنْ يكونَ المتكلمُ في ذلك جهيرَ الصَّوْت، جاريَ اللسان، لا تَعترضه لُكْنه، ولا تقفُ بهِ حُبْسة١، وأنْ يَستعمل اللفظَ الغريبَ، والكلمةَ الوَحشيَّةَ، فإِنِ اسْتظهرَ للأَمر وبالغَ في النظر، فأَنْ لا يُلْحِنَ فيرفع في موضع النصب، أو يُخطئَ فيَجيء باللفظةِ على غيرِ ما هيَ عليه في الوَضْعِ اللُّغويِّ، وعلى خلافِ ما ثَبتتْ به الروايةُ عنِ العرب.
وجملةُ الأمر أنَّه لا يَرى النقصَ يَدْخلُ على صاحبهِ في ذلك٢ إلا من جهةِ نقصِه في علم اللغة، لا يعلم أن ههنا دقائق وأسرار طريق العلم بها الروية والفكر، لطائف مُسْتقاها العَقلُ، وخصائصَ معانٍ ينفردُ بها قومٌ قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشِف لهم عنها، ورُفعتِ الحُجُب بينَهُم وبينَها٣، وأنها السَّببُ في أنْ عرضتِ المزيَّةُ في الكلامِ، ووجبَ أن يفضُلَ بعضُه بعضاُ، وأن يبعدَ الشأوُ في ذلك، وتمتدَّ الغايةُ، وَيعلوَ المُرتقَى، ويعزَّ المطلبُ، حتى ينتهيَ الأمرُ إلى الإعجازِ، وإلى أن يخرج من طوق البشر.
من ذم الشعر وعلم الإعراب:
٤ - ولمَّا لم تعرفْ هذه الطائفةُ هذهِ الدقائقَ، وهذهِ الخواصَّ واللطائفَ، لم تَتعرضْ لها ولم تَطلبها، ثمَّ عَنَّ لها بسوء الاتفاقِ رأيٌ صارَ حجازًا بينَها وبينَ العلم بها٤، وسَدًّا دونَ أن تصلَ إِليها وَهوَ أَنْ ساءَ اعتقادُها في الشَّعر الذي هو مَعْدنها، وعليه المعوَّلُ فيها، وفي علمِ الإِعرابِ الذي هو لها
_________
١ "الحبسة"، بالضم، اسم احتباس الكلام أي تعذره عنده إرادته. و"اللكنة"، العي والعجز عن القول.
٢ في "س" "في ذلك الأمر".
٣ في "ج" و"س": و"رفع الحجب".
٤ في "س": "حجابًا" مكان "حجازًا".
1 / 7
كالنّاسِبِ الذي يَنْميها إِلى أُصولها، ويُبَيِّنُ فاضلَها من مَفضولِها، فجعَلتْ تُظهر الزهدَ في كلِّ واحدٍ منَ النَّوعين، وتطرحُ كلًا منَ الصِّنفين، وترى التشاغلَ عنهُما أولى منَ الاشتغالِ بهما، والإعراضَ عن تدبُّرهما أصوبَ منَ الإِقبالِ على تعلمهما.
ذمهم للشعر:
٥ - أما الشعرُ فَخُيِّلَ إليها أنه ليسَ فيه كثيرُ طائلٍ١، وأنْ ليس إِلا مُلْحةً أو فكاهة، أو بكاءَ منزلٍ أو وصْفَ طلَلٍ، أو نعْتَ ناقةٍ أو جَمل، أو إسرافَ قولٍ في مدحٍ أو هجاءٍ، وأنه ليسَ بشيءٍ تَمسُّ الحاجةُ إِليه في صلاحِ دينٍ أو دنيا.
ذمهم للنحو:
٦ - وأما النّحوُ، فَظَّنتْه ضرْبًا منَ التكلُّف، وبابًا من التعسُّفِ، وشيئًا لا يَستند إِلى أصلٍ، ولا يعتمد يه على عقلٍ، وأنَّ ما زادَ منه على معرفةِ الرَّفعِ والنَّصبِ وما يتصلُ بذلك مما تجده في المبادئ، فهو فضلٌ لا يُجْدي نفعًا، ولا تَحصل منه على فائدةٍ، وضَرَبُوا له المثَل بالمِلْح كما عرفت، إِلى أشباهٍ لهذه الظُّنونِ في القَبِيلَيْن، وآراءٍ لو عَلموا مَغبَّتَها وما تقودُ إِليه، لتعوَّذوا باللهِ منها، ولأنِفُوا لأنفُسهم منَ الرضا بها، وذاك لأنَّهم بإِيثارِهم الجهلَ بذلك على العِلم، في معنى الصادِّ عن سَبيلِ الله، والمُبتغي إطفاءَ نور الله تعالى.
منزلة الشعر والنحو من إعجاز القرآن:
٧ - وذاك أنَّا إذا كنَّا نَعلم أنَّ الجهةَ التي منها قامَتِ الحجةُ بالقُرآنِ وظهرتْ، وبانَتْ وبَهرت، هيَ أنْ كانَ على حَدٍّ منَ الفَصاحةِ تقصرُ عنه قُوى البشرِ، ومُنْتهيًا إِلى غايةٍ لا يُطمَح إِليها بالفِكر، وكان مُحالًا أن يَعرف كونَه كذلك، إِلا مَنْ عَرفَ الشعرَ الذي هو ديوانُ العَرب، وعنوانُ الأدب،
_________
١ في "س": "كبير طائلي".
1 / 8
والذي لا يُشك أنه كانَ ميدانَ القومِ إِذا تجارَوْا في الفَصاحة والبيان، وتنازَعوا فيهما قَصَبَ الرَّهان، ثم بَحث عنِ العِلل التي بها كانَ التباينُ في الفَضْل، وزادَ بعضُ الشعر على بعضٍ١ كان الصادُّ عن ذلك صادًَّا عن أَن تُعرَف حجةُ الله تعالى، وكان مَثلُه مَثلَ مَن يتصدَّى للنّاسِ فيمنعُهم عَن أنْ يحفظوا كتابَ الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرِئُوه، ويصنعُ في الجملةِ صَنيعًا يؤدِّي إِلى أَنْ يَقلَّ حفَّاظُه والقائمونَ به والمُقرئون له. ذاك لأنَّا لم نتعبَّدْ بتلاوتِه وحِفْظه، والقيامِ بأَداء لفظهِ على النَّحو الذي أُنزل عليه، وحراستِه من أن يُغَيَّر ويُبدَّل، إلاَّ لتكونَ الحِجةُ بهِ قائمةً على وجهِ الدَّهر، تُعرَف في كل زمانٍ، ويتوصَّلُ إِليها في كلَّ أَوان، ويكونُ سبيلُها سبيلَ سائرِ العلوم التي يَرويها الخلَفُ عن السَّلف، ويأَثُرُها الثاني عن الأول، فمَنْ حال بيننا وبين ما له كانَ حفْظُنا إيْاهُ، واجتهادُنا في أن نؤدِّيَه ونَرعاه، كَان كَمن رامَ أن يُنْسيناه جُملةً ويُذْهبه من قلوبنا دَفعةً، فسواءٌ مَنْ منَعكَ الشيءَ الذي تنتزع منه الشاهدُ والدَّليلُ، ومَنْ منعَكَ السبيلَ إِلى انتزاعِ تلك الدَّلالةِ، والاطَّلاعِ على تلك الشَّهادةِ، ولا فرقَ بينَ مَن أعدمَك الدواءَ الذي تَسْتَشفي به من دائَك، وتَسْتبقي به حشاشةَ نَفْسك، وبينَ مَن أعدمَكَ العلْمَ بأنَّ فيه شفاءً، وأن لك فيه استبقاء.
الرد على حجج المعتزلة في الإعجاز:
٨ - فإِنْ قال منهُم قائلٌ: إِنّك قد أغْفلتَ فيما رتَّبْت، فإنَّ لنا طريقًا إِلى إِعجازِ القرآنِ غيرَ ما قلتَ، وهو عِلْمُنا بعَجْز العرَب عن أن يأتوا بمثلِه وتَرْكِهم أن يعارضُوه، مع تكرارِ التّحدَّي عليهم، وطولِ التقَّريع لهم
_________
١ سياق الكلام من أول الفقرة: "وذاك أبا إذاكنا نعلم .... كان الصاد عن ذلك ... ".
1 / 9