شهيدة
وعلم حكام جنج بما تم فابتدءوا يصدقون أنها جريمة قتل دبرت ثم نفذت، فانتقلوا بأنفسهم ومعهم قوة من الجند إلى حيث آوت المركيزة، فلما نظرتهم جمعت قواها واستوت على فراشها ضامة يديها إلى صدرها تتوسل إليهم أن يأخذوها تحت حمايتهم؛ لأن خوفها كان عظيما، وكانت تتصور في كل لحظة أن أحد قاتليها داخل عليها فطمئنها ولاة الأمر وخرقوا الجنود المسلحة لتحرس الطرقات المؤدية للمنزل. ثم أرسلوا إلى مونبلييه حالا يستحضرون الأطباء والجراحين. ورفعوا تقريرا عن الحادثة إلى البارون «ده تريسان» حاكم لنجدوك العام، وأرسلوا له أسماء وأوصاف القاتلين، فبث وراءهما العيون والأرصاد، ولكنهما كانا قد أفلتا من يديه؛ إذ علم أن الراهب والفارس باتا ليلة الجريمة في أوبيناس وأخذا يعنفان بعضهما على سوء تدبيرهما وخيبة مساعيهما، وتطاولا في الكلام حتى كادا يقتتلان، ثم بارحا المدينة قبل الصباح فاستقلا ظهر البحر.
وكان المركيز ده جنج بأفينيون يحاكم أحد خدامه جنائيا على سرقته مائتي ريال، فبلغه خبر الحادثة فبهت لونه واضطرب عندما تلا الرسول على مسامعه القصة، واشتد به الغضب على أخويه فأقسم أن لن يقتلهما سواه، ورغما عن انشغاله على صحة المركيزة لبث بأفينيون إلى عصر الغد، وقابل فيها بعضا من أصحابه دون أن يكلمهم مطلقا في موضوع الحادثة.
ووصل المركيز إلى جنج وقد مضت أربعة أيام على الحادثة، فقصد منزل ديبرا، وطلب أن يقابل زوجته، وكان قد سبقه إليها قوم من الرهبان الصالحين، فصبروها على أمرها، وشجعوها لمقابلة زوجها؛ فلهذا أذنت له بالدخول لديها عندما بلغها قدومه، فدخل عليها والدمع يتساقط من عينيه وهو يقطع شعوره ويبدي أقصى علائم الحزن واليأس.
واستقبلت المركيزة المركيز استقبال زوجة محسنة لزوج مسيء، بل استقبال مؤمنة حضرها الموت لعدو تسامحه وتصفح عما جناه، فلم توجه له لوما على ما أتاه نحوها، بل عاتبته عتابا لطيفا على هجره، وكان المركيز قد اشتكى لبعض القسوس من تعنيف زوجته له على تركه إياها، فأبلغ القسيس شكواه للمركيزة، فدعت المركيزة زوجها وكان محاطا بالعواد، فاعتذرت له على رءوس الأشهاد عما فرط منها في حقه، واستسمحته، والتمست منه أن لا ينسب ما صدر منها إلا إلى ما قاسته من الآلام لبعده لا إلى نقص في درجة اعتباره لديها، أو تقصير في واجب احترامه المفروض عليها، فصدق عليها قول الشاعر:
إني له عن دمي المسفوك معتذر
أقول حملته في سفكه تعبا
ولما اختلى المركيز بزوجته أراد أن يغتنم فرصة انعطافها إليه ليدفعها إلى إلغاء الإشهاد الذي نطقت به أمام حكام أفينيون؛ لأن نواب هذه المدينة وقضاتها الذين حضروا ذلك الإشهاد رفضوا تسجيل الهبة التي حررتها المركيزة بجنج باسم زوجها بناء على إلحاح أخيه، وكان أخوه قد أرسلها له لتسجيلها عقب تحريرها، فرفضت المركيزة في هذا الموضوع طلب زوجها، وأفهمته أنها لن تغير عزمها؛ لأن هذه الثروة ثروة أولادها، فمن واجباتها المحافظة عليها، أما الإشهاد الذي نطقت به أمام رجال أفينيون فهو آخر وصاياها ولن تغير فيه حرفا.
ورغما عن هذا التصريح لبث المركيز لدى زوجته يحيطها بعنايته ويرعاها رعاية زوج مخلص ودود، وحضرت مدام روسان والدة المركيزة بعد يومين من حضور المركيز، فاندهشت لما رأته قائما بخدمة ابنتها، وكانت تعتبره - كما أشيع - أحد قاتليها، وكانت المركيزة لا تعتقد ذلك ولا تصدقه، فعملت على محو ما علق بذهن والدتها نحو زوجها من أقوال الناس، واضطرتها إلى تقبيله كما تقبل الوالدة ولدها، فتألمت مدام روسان أشد الألم؛ لتعامي ابنتها وإخلاصها هذا الإخلاص الأعمى لزوجها، ورغما عن كل حنوها عليها عزمت على تركها ولما يمض عليها لديها يومان. وألحت المركيزة عبثا على أمها بالبقاء فلم تستطع تغيير عزمها، وتركتها أمها على فراش الموت وسافرت.
وقد أثر في نفس المركيزة سفر أمها وأحزنها، فطلبت أن تنقل إلى مونبلييه، ولم يعد لها صبر على احتمال البقاء في المكان الذي أصيبت فيه؛ حيث تهيج رؤيتها له أشجانها، وطالما تصور لها فيه أنها ترى قاتليها يطاردانها فتقوم من رقادها مذعورة تصرخ وتستغيث، ولكن رأى الأطباء أن صحتها لا تساعدها على الانتقال، فقرروا أن الحركة تؤذيها وتزيد حالتها خطرا. فلما سمعت المركيزة قرارهم استسلمت له وصرفت عن فكرها السفر، وأخذت تهتم بما يهيئها لملاقاة ربها لتموت ميتة الأبرار كما عذبت في الحياة عذاب الشهداء. فأرسلت تستحضر الزاد الأخير «القربان المقدس»، ثم جددت لزوجها معاذيرها، وأعادت على مسامعه مسامحتها لأخويه على ما جنيا نحوها بلفظ عذب يسيل رقة كما يسطع وجهها نورا، فكانت في جمالها أشبه بالملائكة منها بالبشر.
Page inconnue