واختلى الراهب بأخيه الفارس على انفراد، وقال له: أخي، لقد قدر علينا - ونحن أخوان - أن نتعلق بهوى امرأة واحدة، وهذه المرأة هي زوجة أخينا، وإني أخشى أن يكون حبنا لها مجلبة للعداء بيننا، فأما أنا فقوي على نفسي قادر على كبح جماح شهواتي؛ فلذا تراني مستعدا أن أخلي لك المكان، وأتنازل لأجلك عن هذا الحب، خصوصا لعلمي أنك المفضل فينا عند فاتنتنا، والمقرب لديها؛ فاعمل إذن على مكانتك، وتعهد هذا الحب وارعه حتى يدوم لك، فإذا تم لك ما تشتهي أنجلي أنا إذ ذاك عن هذا الميدان. أما إن خفق مسعاك فأخل لي المكان لأعمل على خطب هذا الود المستعصي على الخاطبين، وأصيد هذا القلب النفور من الطالبين، وأتيقن هل هذا القلب من الجافين، أم أحيط - كما يقولون - بسياج العفاف الحصين.
وما خطر على قلب الفارس قبل حديث أخيه إمكان التطاول إلى المركيزة، ولكن لما حدثه الراهب عنها وقرب إلى ذهنه منالها، أوحى إليه فكره القاصر أنه قد يكون محبوبا لديها، وظن نفسه جديرا بأن يحب ويهوى؛ فحل في قلبه الزهو والطمع، وضاعف في عنايته بشئون المركيزة واهتمامه بها. ورأت المركيزة من زيادة اهتمامه دليلا جديدا على إخلاصه، ولم يخامرها من جهته ارتياب؛ فعظمت منزلته لديها بقدر ما صغرت في عينيها منزلة أخيه الراهب. فظن الفارس أن تقريبها له لشغفها به، فطرق الباب الذي طرقه أخوه من قبل؛ فاندهشت المركيزة وأوجست خيفة، ولكن تركته يفصح لها عن كل ما يضمره قلبه حتى تجلت لها مقاصده وعلمت غايته، فأوقفته عند حده كما أوقفت أخاه، وقرعته بكلمات من تلك الكلمات التي يوحي بهن للمرأة احتقارها للرجل، وبفصلها له، قبل أن يوحي بهن واجب الانتقام لعرضها وشرفها.
ولما أخفق الفارس فيما قصد، وكان ضعيف الهمة، تولاه اليأس؛ ففقد كل آماله، وعاد إلى أخيه يندب سوء حظه، وخيبة مسعاه، وضياع أتعابه، وشقاءه في هواه، وكان الراهب مترقبا لهذه النتيجة؛ ليتعزى بها أولا على ما ناله من الطرد والحرمان، وثانيا ليتخذها سبيلا لتنفيذ ما عزم عليه من المكائد، فما زال بالفارس يؤنبه على إخفاق مسعاه، ويستثير غضبه على المركيزة، حتى أوغر صدره عليها، وجعل منه عدوا لها ليكون له عونا عند الحاجة. ثم شرع الراهب في تنفيذ ما صمم عليه، فكان أول ما ظهر من نتيجة مكائده أن تغيرت أحوال المركيز على زوجته، وانصرف عنها قلبه، وكان السبب الظاهر في ذلك أن المركيزة كانت تحادث فتى في مأدبة وتصغي لحديثه؛ لذكائه واتساع مداركه، فاتخذ المركيز ذلك سببا للخصام، وآلم زوجته بقارص الكلام. ولكن فطنت المركيزة لليد المدبرة لهذا الشر، وعلمت أنها يد الراهب الفاجر، فلم يقربها هذا الإنذار منه، بل زادها ابتعادا عنه، وصارت لا تهمل فرصة تبدي له فيها شدة احتقارها له وازدرائها به.
ودامت هذه الحال بضعة شهور والمركيزة تشاهد زوجها يزداد كل يوم نفورا منها وهجرا لها، ورأت أن العيون مبثوثة عليها في كل مكان تستطلع حتى الخفي من شئونها الخصوصية.
أما الفارس والراهب فلبثا كما كانا، ولم يغيرا معاملتهما للمركيزة كما شاهدها أهل القصر منذ قدومهما، فأخفى الراهب ما أضمره وراء ستار من النفاق، وكمد الفارس غيظه لقلة حيلته وضعف إرادته.
ومات في هذه الأثناء المسيو يوانيس ده نوشير جد المركيزة ، مخلفا لها ثروة تنوف عن ستمائة ألف دينار، ضمتها إلى ثروتها الواسعة.
وكان من الأصول المرعية في الشريعة الرومانية المعمول بها في ذلك الحين بتلك البلاد أن مثل هذا الميراث يكون ملكا خاصا للمرأة؛ لأنه حادث بعد الزواج، فلا ينضم إلى المهر الذي آتته المرأة زوجها عند العقد، فللمرأة إذن حق التصرف المطلق في هذا المال، فلها أن تهبه أو توصي به لمن تشاء، ولها حق الانتفاع به، وليس لزوجها حق في ذلك، بل وليس له أن يدير شئون هذا المال إلا بتوكيل صادر له منها.
وعلم المركيز وأخواه أن المركيزة دعت لديها أحد الموثقين - والموثق موظف عمومي مختص بإجراء العقود الرسمية - فعلم زوجها أنها عازمة على أن تقرر بأن ما ورثته عن جدها خارج عن الأموال المشتركة بينها وبين زوجها، ورأى المركيز أن لا سبب يدعوها إلى هذا الإقرار إلا معاملته لها تلك المعاملة، التي طالما أنبأه ضميره أنه معتد عليها وظالم لها فيها.
الوصية
وذات يوم أعد المركيز وليمة، فكان مما قدم للمدعوين نوع من المأكول يعرف لدى الغربيين بالكريمة، وهو مصنوع من البيض واللبن والسكر، فانحرفت صحة كل من أكل من هذا النوع خصوصا المركيزة؛ فإنها كانت تناولت منه دفعتين. أما المركيز وأخواه فإنهما لم يصابا بشيء؛ لأنهما امتنعا عن هذا المأكول.
Page inconnue