وأطرق الحاج والي لحظة، وخيل إليه أن سحابات من ضباب تغشى ناظريه، ثم قال في أسى: نعم يا زين العابدين بك، نعم، إني أريد أطفالا.
الفصل الثالث
تعتبر الحاجة بمبة أمهر سيدة بالقرية في رؤية المستقبل في الفنجان، وطالما قصد إليها نساء القرية لتطلعهن على ما تخفيه لهن الأيام، ويا طالما رأت بقايا القهوة في فنجانها، ويا طالما رأت الأطفال قادمين إليها لا تحصيهم عددا. ها هي ذي اليوم ترى أن تحقيق أمنيتها قريب؛ فإن الفنجان لم يخبرها إن كانت هي التي ستلد هؤلاء الأطفال، أم أن غيرها ستنجبهم لها، وإنما غاية ما أنبأها به أن الأطفال سيفدون إلى البيت؛ وهكذا اقتنعت أن فنجانها لم يخطئ. وها هي ذي تنتظر الأطفال من صالحة، ولكنها غير سعيدة، يزيد من تعاستها أنها مصممة على أن تبدو سعيدة. وكانت الحاجة بمبة بيضاء، في خدودها حمرة، وفي وجهها طيبة واستدارة، ترهل جسمها ولم يفقد انسجامه، وهي صاحبة حديث شهي، سهل المأخذ، وهي قريبة الغور سمحة، ولكنها قادرة على أن تحسم أمورها، قادرة أيضا على إنفاذ ما تريد، وقد أعجب بها الحاج والي، وهو طالب في الأزهر الشريف، وتزوجها يوم أزمع البقاء في القرية، بعد أن ظلت مخطوبة له مدة أربع سنوات كاملة. وقد شهد العام الأول من زواجهما صفاء وحبا، أما العام الثاني فقد كدره لهفتها أن تصبح أما، وزاد هذه اللهفة تساؤل قريباتها عما أخرها عن الإنجاب، ثم صارت السنوات التالية جميعا كفاحا من أجل الإنجاب، وقد كان العلم في ذلك الحين يضرب في غياهب من الجهل، ولم يكن من المعقول في ذلك الحين أيضا أن ترى الحاجة بمبة غير النساء؛ فزوجها رجل صارم، وقد زادته تربيته الدينية صرامة. ولم يكن في الحجاب الذي يفرضه المجتمع على النساء في ذلك الحين أي عجب، بل إن النساء حتى تلك الأيام لم يشعرن بأية غضاضة أو ضيق. وقد كانت الحاجة بمبة من أولئك النسوة اللائي يرين أن أوامر أزواجهن مقدسة لا سبيل إلى التهاون فيها. وكان الحاج والي يحب زوجته، وما كان ترهلها يزيده إلا حبا لها؛ فقد كان الجمال كل الجمال أن تكون المرأة سمينة، حتى لا يكاد زوجها أن يحيطها بذراعيه. ولولا رغبة الحاج والي اللاهفة في أن ينجب أطفالا لما فكر في الزواج، فقد ازدادت زوجته جمالا على جمالها في السنوات الطويلة التي عاشتها معه، فإنه لم يكن يأخذ عليها يوم تزوجها إلا أنها نحيفة القوام.
ولم يكن الحاج والي من هؤلاء الرجال الذين يميلون إلى العنف في معاملة زوجاتهم، بل كان رقيق المعاملة، يحب حديث زوجته ويأنس إليه. وكم تمنى أن يتخلص من رغبته في إنجاب أطفال، بل لكم خيل إليه أنه تخلص من هذه الرغبة، ولكنها ما تلبث أن تثور عاصفة في نفسه. وقد أخذ نفسه منذ تزوج صالحة أن يزيد من اهتمامه بالحاجة بمبة؛ فهو لا يخرج من البيت إلا بعد أن يجلس إليها، ويشرب معها قهوة الصباح.
وقد بكر في يومه هذا ونظر إلى الشباك، فوجد السماء متجهمة صلبة الملامح.
وكانت النخلات التي يطل شباكه عليها تهتز في غير سرور، فقال في نفسه: أهذا ربيع؟! اللهم اجعله خيرا، ثم صلى ركعتي الصباح. والتفت إلى صالحة يسألها: لماذا لا تصلين الصبح يا صالحة؟! - سأصليه عندما تخرج يا عم الحاج. - أتصرين على أن تقولي يا عم الحاج؟! - تعودت قولها. - إن أردت الحق، فأنا أحب أن أسمعها منك. لا أدري لماذا رغم أنها تجعلني أحس أنك صغيرة، وأني كبير، ولكني أحب أن أسمعها منك، لا تغيريها.
وضحكت صالحة وهي تقول: إني لا أستطيع أن أغيرها.
لكن الحاج والي تجهم لحظة وقال: ألم تعلق الحاجة بمبة عليها بشيء.
ودهشت صالحة بعض الشيء وقالت: تعلق على ماذا؟! - على قولك يا عم الحاج. - وبماذا يمكن أن تعلق عليها؟ - قد ترى بها تدليلا أو شيئا من هذا القبيل. - لا تخش شيئا، فإن أحدا لا يرى فيها تدليلا إلا أنت. - لا تؤاخذيني يا صالحة؛ فالحاجة بمبة ست طيبة، ولا أريد أن أغضبها. - يا عم الحاج لا تخش شيئا، فأنا أيضا أحبها وأحترمها من أجل خاطرك، ومن أجل خاطرها هي أيضا، فأنا أعرف أنها لا تكرهني. أو هي على الأقل لا تظهر لي إلا كل خير، فلماذا أغضبها؟ - الله يسترها معك يا بنتي. - إنني أعمل لها كخادمة؛ لا أعصي لها أمرا. ولكني أحس أن في هذا راحتي ما دام يرضيك. - ولكنك لست راضية كل الرضا. - كل امرأة تريد أن تكون ست بيتها. - ألا يكفيك أن تكوني ست هذه الحجرة؟ - يكفي أن أعيش معك يا عم الحاج. - الله يرضى عليك يا صالحة. لقد تأكدت أن الله راض علي منذ عرفت حقيقة أخلاقك، وازددت تأكدا من رضاه سبحانه وتعالى يوم بشرتني بما تحملينه لي في أحشائك من خير. - أنت رجل طيب يا عم الحاج. - أفوتك بخير. - مع السلامة.
وخرج الحاج والي إلى بهو بيته، فوجد الحاجة بمبة جالسة في مكانها وأمامها معدات القهوة فبادرها: صباح الخير يا ستنا. - صباح الخير يا حاج، أهلا. - هل شربت القهوة؟ - من غيرك؟! لا والله لا أذوقها من غيرك أبدا. - والله يا حاجة لا أجد للقهوة طعما إن لم تكن بيدك.
Page inconnue