عُيُوْنُ المَسَائِل
لِلإِمَامِ القَاضِي أَبِي محمَّد عَبْد الوَهَّاب بْنِ عَلي بْنِ نَصْر البَغْدَادِيِّ المَالِكِيِّ المُتَوَفَّى سنة ٤٢٢ هـ
وَهُوَ اخْتِصَارٌ لِكِتَابِ
"عُيُون الأَدِلَّة في مَسَائِل الخِلاف بَيْنَ فُقَهَاء الأُمَّةِ"
لِلقَاضِي أَبي الحَسَنْ بْنِ القَصَّارِ البَغْدَادِيِّ المُتَوَفَّى سنة ٣٩٨ هـ
دِرَاسَة وَتَحقِيق
علي محمَّد إبراهيم بورويبتة
دار ابن حزم
1 / 1
جمَيعُ الحُقوُق محَفُوظَة
الطّبُعة الأولى
١٤٣٠هـ - ٢٠٩٩ م
٥ - ٧٥٤ - ٨١ - ٩٩٥٣ - ٩٧٨ ISBN
الكتب والدراسات التي تصدرها الدار تعبر عن آراء واجتهادات أصحابها
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص. ب: ٦٣٦٦/ ١٤
هاتف وفاكس: ٧٠١٩٧٤ - ٣٠٠٢٢٧ (٠٠٩٦١١)
بريد الكتروني: [email protected]
1 / 2
عُيُوْنُ المَسَائِل
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
المقدِّمَة
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه على نعمه الوافرة، وأشكره على ما اختصنا به من الشريعة الفاضلة، المتضمّنة سعادة الدنيا والآخرة.
وأصلّي وأسلّم على سيد الأنبياء وإمام الأتقياء، ومعلّم النّاس الخير، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحبه النجوم المجتهدين، ومن اهتدى بهديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنّ مذهب الإِمام مالك بن أنس ﵀ من أكثر المذاهب الفقهية ثراءً وتنوّعًا، فقد تعدّدت مدارسه، وتنوعت خصائص كلٍّ منها، ضمن الإطار العام للمذهب؛ فتفنّنت في طردتى التدريس والتعليم، وأنواع التأليف والتصنيف، وهذا ما يتناسب مع مواهب مؤسّسه الأوّل إمام دار الهجرة؛ فهو مفتي أهل المدينة، وفقيه أهل الأثر، ومحدّث أهل السنّة.
وأشهر هذه المدارس: مدرسة المدينة المنوّرة، ومدرسة مصر، ومدرسة العراق، ومدرسة المغرب (القيروان وفاس والأندلس).
وقد شكّلت هذه المدارس بدورها، طريقتين متمايزتين في التأليف
1 / 5
وهما: الطريقة المغربية (وتضمّ مصر والمغرب)، والطريقة العراقية.
أ - فأمّا الطريقة المغربية: فقد عُنيت منذ بداياتها الأولى بتحقيق آراء مالك وأصحابه، وتنقيحها واختصارها وتجريدها، ويرجع ذلك - والله أعلم - إلى الدخول المبكّر للطبقة الأولى من تلامذة مالك الفقهاء، من أمثال: عثمان بن الحكم (١٦٣هـ)، وعبد الرّحمن بن خالد (١٦٣هـ) وهما أوّل من قدم بمسائل مالك إلى مصر، وعبد الله بن فروخ (١٧٦ هـ) بالقيروان، وزياد بن عبد الرّحمن (١٩٣ هـ) بالأندلس وغيرهم؛ وانتشار المذهب وهيمنته على تلك الربوع، مع قلّة المنافسين له.
ولهذا تركّز التأليف الفقهي عندهم على غرضين رئيسين هما:
١ - كتب السماعات عن مالك وتلاميذه والمدوّنات والفتاوى؛ مجرّدة عن الاستدلال والتعليل.
٢ - كتب المختصرات لتلك السماعات والمدوّنات، ومختصرات فقهيّة أخرى هي بمثابة الزّبدة المعتمدة في الإفتاء والقضاء.
ب - وأمّا الطريقة العراقية: فقد اهتمّت بالبسط والتّفصيل والتّدليل والتّعليل، ويرجع ذلك - والله أعلم - إلى نوعيّة ناقلي المذهب هناك، فمعظمهم من المحدّثين الذين تلقّوا الموطَّأ عن مالك؛ كسليمان بن بلال (١٧٦ هـ) وعبد الله بن مسلمة القعنبيّ (٢٢١ هـ). وأمّا فقهاؤهم من الطّبقة الثّانية الذين لم يلقوا مالكًا، كأحمد بن المعذّل (قبل ٢٤٠ هـ) فقد تتلمذوا على تلامذة الإمام المدنيّين، الذين ورثوا إمامة الحديث مع الفقه كعبد الملك بن الماجشون (٢١٢ هـ).
ومن الناحية الجغرافية؛ فإن العراق - فرّج الله عن أهله - كان عاصمة الخلافة، ومنبت المذهب الحنفي، وعرين مدرسة الرأي، يعجّ بمختلف المذاهب الفقهية والعقدية، مشحونًا بالتنافس فيما بينها، لا مكان فيه إلّا للحجّة والبرهان، وقوّة الاستدلال وفنون المناظرة.
ولهذا تنوّعت أغراض التأليف عندهم، وتوشعت إلى العلوم الّتي تخدم
1 / 6
الفقه وتقويه وتمكنه، فأثمرت بذلك ألوانًا جديدة، منها:
١ - كتب أحكام القرآن.
٢ - كتب شرح السماعات والمدونات والمختصرات بالتفصيل والتفريع والتعليل والتدليل.
٣ - كتب في معرفة الخلاف.
٤ - كتب في فقه الخلاف العالي.
٥ - كتب في نصرة المذهب والرد على مخالفيه.
٦ - كتب في مناقب إمام المذهب، وأهل المدينة.
* ويجدر التنبيه إلى أن هذا التوصيف أغلبي في معظمه، وليس عامًّا لكلّ مؤلّفات تلك المدارس، فقد نجد من كِلا الطريقتين من يحذو حذو الأخرى، وأمثِّل في هذا المقام بمثالين لكلٍّ منهما:
١ - الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البرّ الأندلسي (٤٦٣ هـ) في كتابه: "الاستذكار لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطَّأ من المعاني والآثار ... "، كما هو واضح من العنوان والحجم (٣٠ مجلدًا).
٢ - الإمام أبو عبد الله محمَّد بن علي المازَري (التونسي) (٥٣٦ هـ) في كتابه: "شرح التلقين"؛ إذ اعتنى فيه بالتدليل والتعليل وذِكر خلاف المذاهب الأخرى، وقد شرحه بطريقة مبتكرة، ليس للمالكية كتاب مثله.
٣ - أبو القاسم عبيد الله بن الجلّاب البصري (٣٧٨ هـ) في كتابه: "التفريع"، وهو مختصر فقهي مجرّد عن الدّليل والتعلّيل، وهو أحد الكتب الّتي عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا.
٤ - القاضي عبد الوهّاب بن نصر البغدادي (٤٢٢ هـ) في كتابه: "التلقين"، وهو من أخصر المختصرات الفقهية، مجرّد عن ذكر الدّليل وأوجه التّعليل، وهو كذلك أحد الكتب الّتي عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا.
1 / 7
وبهذا تكون المدرسة العراقية قد أَثرَت المذهب المالكي، ومنحته أبعادًا جديدة، وجبرت نقائص مدارسه الأخرى. غير أن أمدها لم يدم طويلًا، فبموت شيوخ المذهب وكبرائه، وخروج القاضي عبد الوهّاب إلى مصر بدأ أفولها، ولم يكد ينقضي القرن الخامس، حتّى انتهت كليًا، وقد كان آخرهم وفاة الإمام أبو يعلى أحمد بن محمَّد العبدي البصري (٤٨٩هـ) (١).
وللأسف، فإن ذخائر مالكية العراق قد ضلّت طريقها إلينا، من جملة ما ضلّ من إرث هذه الأمّة العزيز، أو ما تزال حبيسة المكتبات والزوايا.
ومع تراجع مستوى الاجتهاد الفقهي وانحساره، إلى جانب تزايد التعصّب المذهبي، واكتفاء المفتين بالرّجوع إلى ما عليه العمل عند المتأخرين، واستهجان رأي المخالف، ووصفه بأشنع أوصاف التّضليل والتّفسيق والتّبديع، بات من الواجب على الأحفاد - صونًا لأمانة الأجداد، وإحياءً للنماذج الفقهية واسعة الأُفُقِ، المتحلّية مع المخالف بزينة الحلم والرّفق -، البحثُ عن هذه الدّفائن، وخدمتُها حقّ الخدمة، وإخراجُها إلى عموم الطّلبة والعلّماء.
وقد شهدت السّاحة العلّميّة في الآونة الأخيرة - بحمد الله-، إنقاذ كثير من هذا الكنز الضّمار، فطُبعت جملة وافرة من مؤلفات القاضي عبد الوهّاب، وقِطع نادرة لأمثال: إسماعيل القاضي (قطعة من أحكام القرآن)، وأبي بكر الأبهري "شرح كتاب الجامع من مختصر ابن عبد الحكم)، وابن الجلّاب (التفريع)، وابن القصّار (المقدِّمة الأصولية، وقطعتين من عيون الأدلّة) ... ولا تزال الهمم طموحة لإنقاذ الكمّ الأكبر المتبقّي من تركة هذه المدرسة العتيقة.
ومحاولة منّي للمشاركة في هذا المسعى العلّمي النّبيل، فإنّي أقدّم
_________
(١) راجع ما كتب حول المدرسة البغدادية في: اصطلاح المذهب عند المالكية للدكتور محمَّد إبراهيم أحمد علي، ومنهج كتابة الفقه المالكي بين التجريد والتدليل للدكتور بدوي عبد الصمد الطّاهر.
1 / 8
لإخواني القراء، كتاب "عيون المسائل" للقاضي عبد الوهّاب البغدادي، الّذي اختصر فيه كتاب "عيون الأدلّة" لشيخه القاضي أبي الحسن بن القصّار، وهو كتاب نفيس، من أقدم ما وصلنا في فنّه، وهو شاهد على اتّساع الباع وسعة البال.
وقد كان الرّجاء متّجهًا إلى خدمة كتاب الأصل "عيون الأدلة"، لكن حال دون ذلك تعذّر إيجاد هذا السَّفر الضخم كاملًا، إذ لم تورد الفهارس إِلَّا أجزاء يسيرة منه، أفاد منها الأستاذ محمَّد الحسين السليماني (الجزائري) في إخراج المقدِّمة الأصولية، وكذا الدكتور عبد الرّحمن الأطرم في تحقيقه للجزء الثّاني منه (كتاب الصّلاة)، وأخيرًا الدّكتور عبد الحميد السعودي في الجزء الأوّل منه (كتاب، الطّهارة).
وإذا كان قد تعذّر عليّ تحصيل الأصل، فلم يفتني إدراك المختصر، مع ضرورة التّنبّه إلى أن غرض الكتابين مختلف؛ فقد بيّن ذلك كلّ واحد منهما، فالأصل في فقه الخلاف العالي (المقارن)، وأمّا المختصر ففي معرفة الخلاف العالي.
* ويكمن الفرق بينهما في أنّ الأوّل يخوض في أسباب الاختلاف، وأدلة المسائل وطرق الاحتجاج بها ومناقشتها، والتّرجيح فيما بينها. ومن ثمّ فهو خير معين على معرفة طرق الاستدلال وما يردّ عليه، ممّا يسهم في تكوين الملكة الفقهية. ومن أوائل من ألّف في هذا الفن تأليفًا مستقلًا:
١ - القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي (٢٨٢ هـ) له: كتاب الرَّدِّ على محمَّد بن الحسن الشيباني في مائتي جزء - ولم يكتمل -، والرد على أبي حنيفة، والرد على الشّافعيّ. وهي لا تزال في عالم المخطوطات.
٢ - القاضي محمَّد بن بكير البغدادي المالكي (٣٠٥ هـ) له: كتاب في مسائل الخلاف. خ.
٣ - الإمام محمَّد بن جرير الطّبريّ (٣١٠ هـ) له: اختلاف الفقهاء. والمطبوع منه: قطعة (في الجهاد والجزية)، وقطعة (متعلّقة بالبيوع).
1 / 9
٤ - الإمام أبو سعيد البردعي الحنفي (٣١٧ هـ) له: مسائل الخلاف. خ.
٥ - الإمام أبو بكر ابن المنذر النيسابوري (٣١٨ هـ) له: الإشراف على مذاهب العلماء (والمطبوع منه غير مكتمل)، والأوسط (والمطبوع منه الأجزاء الأولى).
٦ - الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي (٣٢١ هـ) له: اختلاف الفقهاء (والمطبوع منه جزء يسير).
٧ - الإمام أبو علي الحسن بن القاسم الطّبريّ الشّافعيّ (٣٥٠هـ) له: المحرر في النظر. خ. قيل عنه: إنّه أول كتاب في الخلاف المجرّد.
٨ - الإمام أحمد بن زيد القزويني المالكي (نيف وتسعين وثلاثمائة) له: المعتمد في الخلاف في مائة جزء. خ. قيل عنه: هو من أهذب كتب المالكية.
* وأمّا النوع الثّاني: فإنّه يُعنى بذكر المسائل الخلافية، واستقصاء آراء الصّحابة والتابعين ومذاهب الفقهاء فيها، ولا شأن له بالاستدلال والتّرجيح. ومن ثمّ فهو بمثابة مذكّرة في مسائل الخلاف. ومن أهمّ من ألّف في هذا الفن:
١ - الإمام محمَّد بن نصر المروزي الشّافعيّ (٢٩٤ هـ) له: اختلاف العلماء. (وهو مطبوع). وقد يذكر في النّادر دليل المسألة، دون شرح أو توجيه.
٢ - الإمام أبو بكر الجصّاص الرازي الحنفي (٣٧٠ هـ) له: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي. (وهو مطبوع). وطريقته تقارب الكتاب السابق.
٣ - الإمام أبو الحسن القدوري الحنفي (٤٢٨ هـ) له: التجريد (وهو مطبوع). تناول فيه صاحبه مسائل الخلاف بين الحنفية والشّافعيّة.
1 / 10
* ولا شكّ في أهمية كِلا الفنّين معًا، ولا غنى لطالب العلم عنهما، فضلًا عن الفقيه والمُفتي، وفي هذا يقول العلّامة الشاطبي ﵀:
"ولذلك جعل النَّاس العلم معرفة الاختلاف، فعن قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفُه الفقه.
وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.
وعن عطاء: لا ينبغى لأحد أن يفتى النَّاس حتّى يكون عالمًا باختلاف النَّاس؛ فإنّه إنَّ لم يكن كذلك رَدَّ من العلم ما هو أَوثَق من الّذي في يديه" (١).
* وإلى جانب معرفة الخلاف العالي، فقد جمع لنا المؤلِّف فوائد أخرى؛ كمعرفة الخلاف داخل المذهب الواحد، وترجيح أقوى الروايات وبيان المفتى به.
كما أن صنيعه في تقديم القول المعتمد عند المالكية مطلع كلّ مسألة، يعدّ وثيقة فقهية مهمّة؛ لما جرى به العمل والقضاء، واستقرت عليه الفتوى عند مالكية العراق.
كما ضمّ الكتاب بين دفّتيه بعض اختيارات ابن القصّار الفقهية، وتُحَفًا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السّلفية، الّتي وردت على سبيل النّدرة.
وإني لأعتذر إلى القاري الكريم عن كلّ خلل أو زلة أو تقصير، قد يلحق هذا العمل، فللهِ الكمال وحده، وكما جاء في خاتمة هذا الكتاب:
إِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الخَلَلا ... جَلَّ مَنْ لاعَيْبَ فِيه وَعَلا
_________
(١) الموافقات في أصول الشّريعة: ٤/ ١٦١.
1 / 11
وفي خاتمة هذه المقدِّمة لا يسعني إِلَّا الاعتراف بقلّة الزّاد، ومشقّة المضمار، غير أنني بذلت غاية وسعي، أسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، موصولًا عنده في ميزان الأجر والثواب.
وكتبه:
حامدًا مصلّيًا راجيًا رحمة ربه علي محمَّد بن إبراهيم بورويبة الجزائر العاصمة في ١٩ ذي الحجة ١٤٢٨ هـ الموافق لـ ٢٨ ديسمبر ٢٠٠٧ م
1 / 12
دراسة تمهيدية
المبحث الأوّل: ترجمة مؤلِّف الأصل القاضي ابن القصّار.
المبحث الثّاني: ترجمة مختصر الأصل القاضي عبد الوهّاب.
المبحث الثّالث: تعريف بكتابي "عيون الأدلة" و"عيون المسائل".
1 / 13
المبحث الأوّل
ترجمة مؤلِّف الأصل أبي الحسن علي بن عصر بن القصّار
لم تتوسّع المصادر في ترجمة القاضي أبي الحسن بن القصّار (١)،لذا سأقتصر على أهم معالم حياته:
اسمه ونسبه ولقبه:
هو القاضي أبو الحسن، علي بن عمر بن أحمد البغدادي الأبهري الشيرازي المالكي، المعروف بابن القصّار، الإمام الفقيه الأصولي الحافظ النظّار.
وإذا أُطلق عند المالكية لفظ "القاضي أبو الحسن" فهو المقصود، أمّا إذا أطلق لفظ "القاضيان"، فالمقصود بهما: القاضي ابن القضار والقاضي عبد الوهّاب.
_________
(١) من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد: ١٢/ ٤١، طبقات الفقهاء: ١٦٨، ترتيب المدارك: ٤/ ٦٠٢، سير أعلام النُّبَلاء: ١٧/ ١٠٧، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢٧/ ٣٤٥، الديباج المذهب: ١٩٩، شذرات الذهب: ٢/ ١٤٩، شجرة النور الزكية؛ ١/ ١٣٨، الفكر السامي: ٣/ ١٢٣.
1 / 15
ولادته ونشأته ورحلاته:
لم تذكر المصادر تاريخ ولادته، ولا فصّلت في مكان نشأته وحلّه وترحاله، لكن الأغلب أنّه نشأ ببغداد، وترعرع فيها.
ولا ينافي هذا أن يكون قد تجوّل داخل مدن العراق، فقد ذكر في كتابه، أنّه سمع من القاضي أبي حامد المرّورّذي (٣٦٢ هـ) مسألتين في الفقه بالبصرة (١).
شيوخه:
إنَّ طول مكث القاضي أبي الحسن ببغداد، كان له الأثر البالغ في تمكّنه من شتّى العلوم النقلية والعقلية، والضلوع فيها والأخذ بأصولها، إذ كانت المدرسة المالكية وقتها في أزهى مراحلها، ومن أشهر أعلامها:
أبو الحسن السّتوري (٣٤٣ هـ)، وأبو الفضل بكر بن العلّاء (٣٤٤ هـ)، وأبو عبد الله التستري (٣٤٥ هـ)، وأبو جعفر الأبهري "الصغير" (٣٦٥ هـ)، وأبو الطّاهر الذهلي (٣٦٧ هـ)، وأبو عبد الله ابن مجاهد (تقريبًا: ٣٧٠هـ)، وأبو بكر الأبهري (٣٧٥ هـ)، وأبو بكر ابن علوية الأبهري (تقريبًا: ٣٧٦ هـ)، وأبو القاسم ابن الجلّاب (٣٧٨ هـ)، وأبو سعيد القزويني (تقريبًا: ٣٩٠هـ)، وأبو بكر الباقلاني (٤٠٣هـ).
غير أن مترجميه لم يصرّحوا بأسماء كلّ شيوخه، وإنّما اقتصروا على اثنين:
الأوّل: أبو بكر الأبهري (٢):
_________
(١) انظر المسألة الأولى: عيون الأدلة: ١/ ٢٣٢، والثّانية: عيون المسائل: مسألة [١٤٢٥].
(٢) من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد: ٥/ ٤٦٢، طبقات الفقهاء: ١٦٧، ترتيب المدارك: ٤/ ٤٦٦، سير أعلام النُّبَلاء: ١٦/ ٣٣٢، تاريخ الإسلام للذهبي: ٢٦/ ٥٨٠، الديباج المذهب: ٢٥٥، شذرات الذهب: ٨٥/ ٢، شجرة النور التركية: ١/ ١٣٦، الفكر السامي: ٣/ ١٢٢.
1 / 16
وهو القاضي الإمام العلّامة الفقيه المُقرئ الصالح النظّار أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن صالح الأبهري التميمي المالكي، شيخ المالكبين في وقته، ولد قبل (٢٩٠ هـ)، وتوفي في بغداد يوم السبت لسبع خلت من شهر شوال سنة ٣٧٥ هـ، وصلّي عليه بجامع المنصور.
ولقد أمضى أبو بكر الأبهري ستين سنة بجامع المنصور ببغداد، وهو يفتي النَّاس ويعلمهم، وفيها التقى القاضي أبو الحسن به، ولازمه مدّة طويلة، قال الذهبي: "وكان من كبار تلامذة القاضي أبي بكر الأبهري، يُذكر مع أبي القاسم ابن الجلّاب".
ولقد ترك القاضي أبو بكر الأبهري مجموعة قيّمة من التآليف، شاهدة على تعدّد مهاراته، وتنوّع علومه، أذكر منها:
١ - شرح المختصر الكبير لابن عبد الحكم (١).
٢ - شرح المختصر الصغير لابن عبد الحكم.
٣ - مسلك الجلالة في مسند الرسالة. (رسالة ابن أبي زيد القيرواني).
٤ - كتاب الأمالي.
٥ - كتاب إجماع أهل المدينة.
٦ - كتاب الرَّدِّ على المزني.
٧ - كتاب الأصول.
٨ - مسألة إثبات حكم القَافَة.
٩ - كتاب فضل المدينة على مكّة.
١٠ - مسألة الجواب والدلائل والعلل.
_________
(١) حقّق منه (كتاب الجامع): أ. د حميد لحمر [ط: دار الغرب الإِسلامي: ٢٠٠٤].
1 / 17
وقد صرّح ابن القصّار بذكر شيخه في مواضع من كتابه عيون الأدلّة (١)، ونقلها القاضي عبد الوهّاب في مختصره عيون المسائل (٢).
الثّاني: أبو الحسن السُّتوري (٣):
وهو أبو الحسن علي بن الفضل بن إدريس بن الحسين بن محمَّد الستوري: من أهل سُرّ من رأى، سكن بغداد، وحدث بها عن الحسن بن عرفة أحاديث يسيرة. قال فيه العتيقي: "ثقة، ما سمعت شيوخنا يذكرونه إِلَّا بجميل".
توفي سنة ٣٤٣ هـ.
تلامذته:
لقد حظي ابن القصّار بتلامذة نجباء، تفقّهوا به ونقلوا عنه، وخلّدوا ذكره بعد وفاته، ومن أشهرهم:
الأوّل: القاضي عبد الوهّاب بن نصر البغدادي
وستأتي ترجمته في المبحث التالي.
الثّاني: أبو ذر الهروي (٤):
وهو الإمام الحافظ الحجة الثقة أبو ذر عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن غفير الهروي المالكي، المعروف بابن السّمّاك، ولد سنة ٣٥٥ هـ، واشتغل بالحديث فبرع فيه وغلب عليه، له مصنّفات كثيرة، أهمّها:
_________
(١) انظر: ١/ ٣٨٥ و٤٤١، ٢/ ٧٠٥.
(٢) انظر: ٧٤، ٧٩، ٨٢، ١٢١، ١٣٨، ١٤٢، ١٥٠، ١٨٠، ١٨٥، ٢٩٤، ٤١٢، ٤٣٩، ٤٤٢، ٤٤٥، ٤٥٠، ٤٩١، ٥٣٣، ٥٦٣، ٥٧٦.
(٣) من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد: ١٢/ ٤٨، سير أعلام النُّبَلاء: ١٥/ ٤٤٢، تاريخ الإسلام: ٢٥/ ٢٨٢، شذرات الذهب: ١/ ٣٦٥.
(٤) من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد: ١١/ ١٤١، ترتيب المدارك: ٤/ ٦٩٦، سير أعلام النُّبَلاء: ١٥/ ٤٤٢، شذرات الذهب: ٣/ ٢٤٥، الديباج المذهب: ٢١٧، شجرة النور: ١/ ١٥٦.
1 / 18
١ - كتاب الجامع.
٢ - فضائل مالك.
٣ - المناسك.
جاور الحرم إلى أن مات في ذي القعدة ٤٣٥ هـ.
الثّالث: أبو الفضل بن عمروس (١):
وهو الإمام العمدة الفاضل الفقيه الأصولي أبو الفضل محمَّد بن عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن عمروس البغدادي المالكي، ولد سنة ٣٧٢ هـ، وإليه انتهت الفتوى في الفقه على مذهب مالك ببغداد، من مصنّفاته:
١ - تعليق حسن كبير مشهور في المذهب والخلاف.
٢ - مقدّمة في أصول الفقه.
توفي أول محرم سنة ٤٥٢ هـ.
الرّابع: أبو علي بن عبّاس (٢):
وهو الإمام العمدة الفاضل الفقيه أبو علي إسماعيل بن الحسن بن علي بن عبّاس الصيرفي البغدادي المالكي، درس على الأبهري، ثمّ درس على ابن القضار، توفي في رمضان ٤٠٨ هـ.
مكانته وعلمه:
اعترف بعلم القاضي ابن القصّار وفضله، كلّ من رآه أو تتلمذ عليه أو قرأ له، فهذا تلميذه أبو ذر الهروي يصفه، فيقول: "هو من أفقه من رأيت من المالكيين" (٣).
_________
(١) من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد" ٢/ ٣٣٩، طبقات الفقهاء: ١٦٩، ترتيب المدارك: ٤/ ٧٦٢، سير أعلام النُّبَلاء: ١٨/ ٧٣، الديباج المذهب: ٢٧٣، شجرة النور: ١/ ١٥٦.
(٢) من مصادر ترجمته: تاريخ بغداد: ٦/ ٣١٢، ترتيب المدارك: ٤/ ٦٠٢، تاريخ الإسلام: ٢٨/ ١٧٢.
(٣) انظر: ترتيب المدارك: ٤/ ٦٠٢، الديباج المذهب: ١٩٩.
1 / 19
وقد تعدّى هذا العرفان والتّزكية إلى أعلام المذاهب الأخرى، فهذا أبو حامد الإسفراييني الشّافعيّ (٤٠٦هـ)، أحد أقران القاضي ومنافسيه، يعترف أمام القاضي عبد الوهّاب ببراعته، فيقول عن كتابه (عيون الأدلة): "ما ترك صاحبكم لقائل ما يقول" (١).
- وهذا أبو إسحاق الشيرازي الشّافعيّ (٤٧٦ هـ) على غزارة علمه، وسعة مطالعته، قرأ للقاضي وأعجب به، حتّى قال: "وله كتاب في مسائل الخلاف كبير، لا أعلم لهم كتابًا في الخلاف أحسن منه" (٢).
- ولم يقتصر هذا العرفان على أهل صنعته من الفقهاء والأصوليين فحسب، بل تخطّى تحرّي المحدّثين وشدّة نقدهم، فهذا حافظ المشرق أبو بكر الخطيب البغدادي (٤٦٣ هـ) يوثّقه في تاريخه (٣)، ويقول عنه تلميذه أبو ذر الهروي: "كان ثقة قليل الحديث" (٤).
- وقد صاحبت هذه الشّهرة، كتبه وتلاميذه لتصله بالأقطار البعيدة، فهذا القاضي عياض المالكي (٥٤٤ هـ) يقول فيه: "كان أصوليًا نظّارًا" (٥).
ونختم هذه الشهادات، بمقولة مشهورة عند أهل التراجم، وهي قولهم:
"لولا الشيخان (ابن أبي زيد وأبو بكر الأبهري)، والمحمدان (محمَّد بن سحنون ومحمد بن الموّاز)، والقاضيان (القاضي أبو الحسن ابن القصّار والقاضي عبد الوهّاب) لذهب المذهب المالكي" (٦).
_________
(١) انظر: ترتيب المدارك: ٤/ ٦٠٢.
(٢) انظر: طبقات الفقهاء: ١٦٨.
(٣) انظر: تاريخ بغداد: ١٢/ ٤١.
(٤) انظر: ترتيب المدارك: ٤/ ٦٠٢، الديباج المذهب: ١٩٩.
وقد عثرت في فهرس مركز المخطوطات والتراث والوثائق، بدولة الكويت، تحت رقم: ٤٤ - ٤٩ - ٣. على "جزء فيه أحاديث عن أبي الحسن علي بن عمر بن القصّار" في أربع ورقات.
(٥) انظر: ترتيب المدارك: ٤/ ٦٠٢.
(٦) انظر: شجرة النور: ١/ ١٣٨.
1 / 20
مؤلفاته
- أجمع أهل التراجم على نسبة كتاب "عيون الأدلّة" - الآتي ذكره - إلى القاضي ابن القصّار، وأنّه سرّ شهرته ودليل براعته، وتوقّفوا عند هذا الحدّ، مكتفين بذكر مؤلّف واحد، الأمر الّذي لا يتناسب مع ما ذكر آنفًا من الشّهرة الّتي نالها.
إِلَّا أن هذا الإشكال قد يزول قليلًا، إذا علمنا أن حجم الكتاب كبير جدًا، فقد ذكر الأدفوي أنّه رآه في ثلاثين مجلدة (١)، فهو بمثابة موسوعة متنوّعة، جمع فيها علومًا شتّى - كما سيأتي -.
كما أن القضاء الّذي وليه في مدينة كبيرة كبغداد، مشتّت للذِّهن ومستغرق للعمر، وهذا الذكرها دفع بكثير من العلماء قديمًا إلى التبرّم منه واعتزاله.
- وقد أفرد بعض العلماء مقدّمة "عيون الأدلة" - الأصولية - بذكرها من جملة مؤلّفاته، ولا ندري إنَّ كان القاضي ابن القصّار قد أفردها بمؤلّف، كما فعل شهاب الدّين القرافي مع مقدّمة كتابه الذّخيرة - حين أفردها عنه وسمّاها: "تنقيح الفصول في اختصار المحصول"؛ ليتولى شرحها فيما بعد في "شرح تنقيح الفصول" -، أو أن الطّلاّب والدّارسين اهتمّوا بها، واستثقلوا نسخ كلّ تلك الأسفار، فاصطلحوا على تسميتها بالمقدّمة في الأصول، لكن ممّا لا شكّ فيه، أنّها احتوت على جلّ مباحث أصول الفقه، متناسقة محرّرة ملخّصة، جديرة بأن تفرد بكتاب مستقل، لتكون مرجعًا معتمدًا للمبتدئين والمجتهدين (٢).
وفاته:
وبعد حياة مباركة قضاها القاضي ابن القصّار ما بين رواية للحديث
_________
(١) انظر: المقفّى الكبير: ٦/ ٣٧٤.
(٢) للاستزادة من حقيقة المقدّمة الأصولية، وقيمتها ومنهج مؤلفها، راجع المدخل الّذي صدّر به الأستاذ محمَّد الحسين السّليماني المقدّمة الأصولية: ١٥ - ٣٧.
1 / 21