ومن التصديق ما لا يمكن إدراكه ما لم يدرك قبله أشياء أخر، كما أنا نريد أن نعلم أن العالم محدث، فيحياج فيحتاج أولا أن يحصل لنا التصديق بأن العالم مؤلف، وكل مؤلف محدث، ثم نعلم أن العالم محدث؛ ولا محالة ينتهي هذا التصديق إلى تصديق لا يتقدمه تصديق يقع به التصديق؛ وهذه أحكام أولية ظاهرة في العقل، كما أن طرفين نقيض أبدا يكون أحدهما صدقا والآخر كذبا، وأن الكل أعظم من جزئه. والعلم الذي نعلم به هذه الطرق، وتوصلنا تلك الطرق الى تصور الأشياء والى التصديق، هو علم المنطق. وغرضها هو معرفة هذين الطريقين الذين ذكرناهما، حتى نفرق بين التصور التام والناقص عنه، والتصديق اليقيني والقريب من اليقيني، وغالب الظن والشك؛ فيخلص لنا من هذه الأقسام اتصور التام والتصديق اليقيني الذي لا سبيل للشك إليه.
فنقول أن إن الموجودات على ضربين: أحدهما إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده، ويسمى ممكن الوجود؛ والثاني إذا اعتبر ذاته وجب وجوده، ويسمى واجب الوجود. وإن كان ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم منه محال، فلا غنى بوجوده عن علة، وإذا وجد صار واجب الوجود بغيره؛ فيلزم من هذا أنه كان مما لم يزل ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بغيره، وهذا الإمكان، إما أن يكون شيئا فيما لم يزل، وإما أن يكون في وقت دون وقت. والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلول، ولا كونها على سبيل الدور، بل لا بد من انتهائها الى شيء واجب، هو الموجود الأول.
Page 308