أهلك الله شعوبا، وأباد قبائل، ودمر بلادا، ولا يزال عدل الله يبدل قوما بقوم ويأتي لكل حين بأناس آخرين، حكيم سبقت رحمته غضبه، جعل لكل عمل جزاء، وعين بحكمته لكل حادث سببا
ولا يظلم ربك أحدا (الكهف: 49)، وليست أفعاله جزافا، ولا يصدر عنه شيء عبثا، أمر الله عباده بالسير في الأرض
قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (الأنعام: 11) ليريهم قضاءه الحق وحكمه العدل، فيمن سلف ومن خلف، فيطيعوا أوامره، ويقفوا عند حدود شرائعه، ويفوزوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة، من كان له قلب يعقل وعين تبصر، وعقل يفقه، وتتبع حوادث العالم، وتدبر كيفية انقلاب الأمم، وخاض في تواريخ الأجيال الماضية، واعتبر بما قص الله علينا في كتابه المنزل ؛ يحكم حكما لا يخالطه ريب، بأنه ما حاق السوء بأمة وما نزلت بها نازلة البلاء، وما مسها الضر في شيء إلا وكانت هي الظالمة لنفسها، بما تجاوزت حدود الله وانتهكت حرماته، ونبذت أوامره العادلة، وانحرفت عن شرائعه الحقة، وحرفت الكلم عن مواضعه، وأولت من كلامه تعالى على حسب الأهواء والشهوات.
كما أن للأغذية والأدوية، واختلاف الفصول والأهوية، أثرا ظاهرا في الأمزجة بتقدير العزيز العليم، كذلك اقتضت حكمة الله أن يكون لكل عمل من الأعمال الإنسانية، ولكل طور من أطوار البشر، أثر في الهيئة الاجتماعية؛ ولهذا كان من رحمته بعباده تحديد الحدود، وتقرير الأحكام ليتبين الخير من الشر، ويتميز النفع من الضر، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، فمن خالف الأوامر الإلهية فقد ظلم نفسه، فليستعد لخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إن تأثير الفواعل الكونية في أطوار الحياة قد يخفى سببه حتى على الطبيب الماهر، أما تأثير أحوال بني الإنسان في هيئة إجماعهم، فيسهل على سره لكل ذي إدراك، إن لم تكن عين بصيرته عمياء.
ألم تر أن الله جعل اتفاق الرأي في المصلحة العامة والاتصال بصلة الألفة في المنافع الكلية سببا للقوة واستكمال لوازم الراحة في هذه الحياة الدنيا، والتمكن من الوصول لخير الأبد في الآخرة. وجعل التنازع والتغابن علة للضعف، وداعيا للسقوط في هوة العجز عن كل فائدة دنيوية أو أخروية، ومهيئا لوقوع المتنازعين في مخالب العاديات من الأمم، فمن نظر نظرة في أحوال الشعوب ماضيها وحاضرها، ولم يكن مصابا بمرض القلب، وعمى البصيرة؛ أدرك سر أمر الله في قوله:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (آل عمران: 103)، وسر نهيه في قوله:
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (الأنفال: 46)، أي جاهكم وعظمتكم وعلو كلمتكم.
إن الله تعالى يجعل الركون إلى من لا يصح الركون إليه، والثقة بمن لا تنبغي الثقة به، سببا في اختلال الأمر وفساد الحال، فمن وثق في عمله بمن ليس منه في شيء، ولا تجمعه معه جامعة حقيقية، ولا تصله به رابطة صحيحة، وليس في طبعه ما يبعثه على رعاية مصلحته، أو كتم سره، ولا ما يحمله على بذل الجهد في جلب منفعته، ودفع المضار عنه؛ فلا ريب يفسد حاله، ويسوء مآله، وإن كان ملكا ضاع ملكه، أو أميرا بطل أمره، والحوادث عاهدة، وأحوال المغرورين ناطقة، فمن لم يرزأ بعمى البصيرة يدرك بأول التفات سر نهي الله تعالى في قوله:
لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق (الممتحنة: 1)، وقوله:
Page inconnue