208

وظهرت مقاصد الإنجليز وانكشفت مضمراتهم لعموم أوروبا ولم يبق فيها ريبة عند دولة من الدولة الأوروبية، وإن كان بعض الغفل في تلك البلاد المنكودة الحظ (لا نريد نوبار باشا فإنه ضارب في طريقه ذاهب إلى مقصده يتزلف للإنجليز بكل ما يمكنه؛ لينال بوساطتهم ما أشرنا إليه مرارا)؛ تسول لهم أنفسهم إما جهلا وإما طمعا أن يميلوا مع ريح الحكومة الإنجليزية ويظنوا أنها لا تقصد بالبلاد المصرية إلا خيرا، فإذا فاض الخير في البلاد وشملت الراحة جميع أنحائها؛ انجلت العساكر الإنجليزية عنها كما جاءت إليها ورجعوا إلى بلادهم فرحين بأنهم أدوا فرائض الذمة وحقوق الإنسانية!

والعجب من هؤلاء المغرورين كيف لم يعتبروا بحركات اللورد نورث بروك؟! يتجول في البلاد المصرية ويستدعي إليه العمد والمشايخ ويذاكرهم فيما يريد، طورا سرا وطورا آخر علانية، ويجاذبهم أطراف الأحاديث فيما يمكن أن يتخذ وسيلة لتمكين حكومته من الولاية على تلك البلاد، أما كان يكفي هذا السير لإدراك الحقيقة؟! فبم يعلل الغافلون أنفسهم؟ وأي أوهام تخيل لهم ما يظنون؟!

ألم يكشف الغطاء عن نية السوء بسؤال اللورد نورث بروك للشيخ العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر ومفتي القاهرة حيث افتتح الكلام معه بقوله: «ماذا تعلم من أفكار الأهالي لو أردنا نحن الإنجليز أن نديم الإقامة في البلاد؟!»

فلو لم يكن لدولة الإنجليز عزم على تملك وادي النيل فكيف كان هذا السياسي الداهية يبتدر شيخا من أجل المشايخ وأعلاهم مقاما في القطر المصري بهذا السؤال، مع أن أقل ما فيه إثارة الظنون وإحداث الريب إجابة حضرة الشيخ بما يفيد نفرة القلوب من بقاء الإنجليز في احتلال مصر، فاستدرك اللورد ما فرط منه بقوله إنا لا نريد البقاء، ولكن كان استدراكه مناقضا لما دل عليه أول سؤاله، وما الإنكار إلا خديعة لا تخفى على الصبيان فضلا عن الراشدين، يريد اللورد بهذه المحاولات أن يستكن مضمرات القلوب ليتبين له ضروب السير إلى ما يقصد من التسلط على أرض مصر، حتى إذا سد في وجهه باب حاول قرع باب آخر.

أما آن لهؤلاء المخدوعين أن يرجعوا لأنفسهم ويمدوا نظر الانتقاد لحركات هذا اللورد، أي إصلاح يقصده اللورد من طرد العساكر المصرية، وإلغاء كل ما يسمى جندا مصريا، ومحو هذا الاسم من دفاتر الحكومة المصرية؟! إن اللورد يلح بكل اهتمام على استبدال الجند المصري بأعوان الشرطة والخفر المسمى بالضابطة، ما هذا الاهتمام، إن لم يكن من قصده تمهيد الطرق للتسلط التام على مصر؟! هذا سبيل سلكته الإنجليز في جميع فتوحاتها كما نبهنا مرارا ، وإن هذا الداهية الإنجليزي لا يحيد عنه بعدما سلكه أسلافه من قبله وقفاهم عليه عندما كان حكمدار الهند وجنوا ثماره، يجتهد بما في وسعه لطرد العساكر المصرية وإبدالهم بالضابطة ليقترح بعد أيام تبديل رجال الضابطة المصريين بأقوام من الجيوش الإنجليزية أو الهندية، تعللا بفساد أخلاق المصريين وعدم أهليتهم للخدم النظامية، وعجزهم عن القيام بوظائف الضبط وصيانة الراحة، وبذلك يجرد الحكومة من جميع قواها وتكون السلطة الإنجليزية سائدة في جميع الجهات بلا معارض لها من طرف الحكومة المحلية، كل هذا يجريه قبل إعلان السيادة والاستملاك كما فعل سابقوه في الهند مع كل نواب وراجا ولا يزال يفعل خلفهم من بعدهم.

يزعم الإنجليز أن تدخلهم في مصر إنما كان لتسكين الاضطراب وإزالة العصيان وتقرير الراحة، ارتفع العصيان وسجن عرابي ورؤساء حزبه وتبددت جموعهم ولم يبق أثر لما سموه عصيانا، وألزمت دولة بريطانيا حكومة مصر بالتنازل عن السودان من مدة طويلة، فماذا تريد من إرسال الجيوش إلى مصر الآن، ألمجرد إرسال جوردون كما يدعي رجال الإنجليز؟ إنهم يقولون: إن جوردون يسوق مراكبه في كل وقت لمحاربة الثائرين وتشهد الجرائد الإنجليزية نفسها بأنه يستطيع الخلاص بأي وجه متى شاء، فليس هناك حاجة إلى تجريد الجيوش وسوقها إلى الأراضي المصرية تحت هذه التعلة، هل تريد حكومة بريطانيا بتوقية

1

جيوشها أن ترفع الخلل الداخلي وتكف أيدي الناهبين وقطاع الطريق؟! هذا خلل ما حدث إلا بوجود الجيوش الأجنبية والنفرة من السلطة الغربية، فكيف يمكن محو الشيء بتوقية علل وجوده؟! هذا الخلل يرتفع ويمحى أثره إذا انجلى جيش العدو عن الديار ولم يبق لها فيها رءوس ولا أذناب، نعم، هذه كلها تعلات يزعمها الإنجليز حجابا لما يسعون إليه من الاستعلاء على عرش السيادة في مصر وحط الرجال في سهولها وحزونها.

2

فلم يبق بعد هذا سوى أن ينتبه الغافل، ويلتفت صاحب الأمر إلى ما يحف به ليحترس من هذا الكيد العظيم، ولا يعين الإنجليز على مقاصدهم جهلا منه أو اغترارا بما يخيلون له من نفع يعود على شخصه أو بلاده، سبحان الله! هل كان مثل هذا الأمر يحتاج إلى تنبيه؟! هذا محل العجب من غفلة أمراء الشرق، لا تفيدهم التجارب، ولا تريبهم المحن، ولا تعلمهم الحوادث، ولا تدربهم النوازل، وتناوب الرزايا والمصائب.

Page inconnue