152

لا أريد بما أكتب في هذا المقال القصير تنفير قلوب المصريين من سلطة الإنجليز، فإن لي يقينا بأن المصريين الذين أنبتتهم أرض مصر لا يذعنون لولاية الإنجليز عليهم، بل يعارضونها بأرواحهم وأموالهم، ولهم من الغيرة الدينية والوطنية ما يحملهم على ذلك، وإن رأوا من عدلها ما لا يصل إليه إنصاف أنوشروان، ويفضلون ولاية مواطنيهم وإن مسهم منها أنكى ما يكون من الحيف، اللهم إلا قليل ممن فسدت أخلاقهم وانتكست طباعهم، وقليل ما هم، وإنما القصد كشف ما تدعيه هذه الدولة العظيمة من العدالة وما تختص به نفسها من الوصاية على نوع الإنسان.

إذا أشرف السائر على أي بقعة من البقاع الهندية الواسعة شخص بصره ودهش لبه بما يراه من آثار عناية الله بتلك البقاع وما منحتها من الخصب الطبيعي، حتى إن الأحجار الصلدة لتنشق عن الأشجار الضخمة العالية الأغصان المورقة الأفنان، تظل الواحدة منها امتدادا واسعا من الأرض وكأن أديم الأرض بما استوى عليه من أنواع النباتات قد بسط عليه بساط من السندس الأخضر، فيخيل للناظر أن سكنة هذه الأراضي في خفض من العيش وسعة من الرزق بل يظنهم أسعد من عمر الغبراء.

ولكنه إذا تجاوز السهول والأودية إلى المدن والقرى ضاق صدره وتفطر قلبه من مناظر سكانها، يرى آلافا مؤلفة يعبرون في الشوارع والأزقة جيئة وذهابا حفاة عراة بادية سوآتهم، كاسفة أحوالهم، لا يجدون رمقة من العيش. يلتمس الواحد منهم عملا من الأعمال الشاقة يقضي فيه نهاره وبعض ليله ليصيب من الأجر عليه ثلاثة فرنكات في الشهر بل فرنكين ونصفا ولا يتيسر له.

ويرى هذه الحال عامة حتى في المدن التي بسواحل البحر على كثرة الأشغال التجارية فيها، ويشتد به العجب عند المقابلة بين خصب التربة وجودة المنابت وسوء حالة القائمين عليها، ويحكم حكما لا ريبة فيه بأن إدارة الحكومة الإنجليزية (حامية النوع الإنساني) هي التي حرمت أولئك المساكين من التمتع بما آتاهم الله من فضله، إذا سأل سائل عن حال كثير من أولئك المعدمين الذين لا يملكون نقيرا ولا قطميرا، فربما يقف على أنهم كانوا من أرباب الثروة الواسعة والمقدرة السامية وكانوا يسكنون القصور العالية ثم أصبحوا يأوون إلى خصاص بل أقفاص.

إذا انتقل الفكر للبحث عن السبب أوصله النظر إلى أسباب كثيرة يرجع جميعها لتصرف الحكومة الإنجليزية، وأشدها ظهورا وفرة الإتاوات (خراج الأراضي) وثقل الضرائب على كواهل الأهالي، فإن الحكومة قد فرضت علي العاملين في زراعاتهم ولم تجعل الأداء على حسب ما تجود به الأرض كل عام بقدره ولكنها خرصت (حزرت) ما تأتي به كل أرض على درجتها من الخصب وقدرت مبلغا معينا تجيبه من العامل في الأرض سواء سلم زرعه من الآفات أو اجتاحته الجوائح، وقد يستغرق مطلوب الحكومة جميع المحصول بل يزيد عنه، وأداؤه حتم لا تردد فيه على أي حال، هذا فضلا عن الرسوم المختلفة التي لا حد لها ولا نهاية وتعرف عندهم (بالتكس) أي الرسوم غير الثابتة أو غير المحدودة، وربما أتينا على بيانها مع بيان سائر الأعمال بالتفصيل فيما بعد.

في هذا المقام تذكرت شيئا قد يخطر بالبال، رب غني في مصر يملك مزارع واسعة وإقطاعات كثيرة (أبعاديات وجفالك) فيركن إلى ما تفيض عليه من الرزق ويطمئن قلبه من جهة معيشته ومعيشة أبنائه من بعده، فيستوي عنده أجناس الحاكمين ولا يبالي بولاية الإنجليز على بلاده حيث سلم له قوته، وهنا أشير إلى طرف مما يعامل به الإنجليز أمثاله في الهند لتكون له عبرة.

أراد الإنجليز أن لا يكون لغيرهم يد على ملك واسع فيما تحت سلطتهم، فضربوا على أرباب الإقطاعات رسوما زائدة يؤدونها عن أراضيهم في أوقات محدودة، ثم وضعوا في قانون الزراعة أنه لا يجوز للمالك أن يقيم الدعوى على مزارعيه إذا تأخروا عن تأدية ما شرط عليهم إلا بعد مضي ثلاث سنوات من وقوع موضوع الدعوى، وإذا خان المزارعون أو أهملوا في أعمالهم أو استأثروا بمحصولات الزراعة؛ فلا يمكن لصاحب الملك أن يخاصمهم في مجالس القضاء إلا بعد مضي تلك المدة، إلا أنه يؤدي ما عليه للحكومة في أوقاته رغم أنفه، وإن لم يؤد إليه العاملون له شيئا.

وفي قانون المرافعات عندهم أنه إذا مضى على موضوع الدعوى ثلاث سنوات لم تحصل في أثنائها إقامة الدعوى فلا تسمع، فهذا يحمل العاملين في الزراعة على الإضرار بأرباب الأملاك ولا سبيل لهؤلاء إلى استخلاص حقوقهم من أولئك، والحكومة لا تترك من فريضتها شيئا ولا تتساهل في طلب أدائها بوجه فيضطر الملاك للتنازل عن أراضيهم للحكومة الإنجليزية (العادلة)، هذه أعمال من تأخذه ريبة في خبرها، فليسأل الهنديين عنها.

وإن الجرائد الإنجليزية في الهند تنادي على حكومتها الهندية دائما بوجوب التخفيف في الوطأة والرفق في السطوة، وتنذرها بأن الأعمال الإدارية والمالية لو دامت على نمطها هذا لا يمضي قليل من السنين حتى يشتد الضيق والضنك في عموم الأقطار الهندية، ويضطر الأهالي لإصلاء فتنة عمومية لا طاقة لدولة بريطانيا بإطفائها، ولكن لا يسمع الصم الدعاء.

الفصل الثامن والخمسون

Page inconnue