دخل الإنجليز مصر فزعموا أن ما كان موجودا من الجند الأهلي نفخت فيه روح العصيان فلا يصلح للأعمال العسكرية فطردوه، ثم اختاروا من الأهالي جندا جديدا في عدد قليل واستلم الرئاسة عليه ضباطهم البارعون، وبعد أشهر أثنوا عليه بحسن النظام وسرعة النجاح وطنطنت بالإطراء عليه جرائدهم، ولم نلبث بعد هذا أن رأيناهم يسارعون إلى طرد الجند الجديد، فهموا بذلك مرارا مع العزم على عدم استبداله بآخر من أبناء الوطن، وكلما صدتهم بعض الموانع السياسية عن هممهم، كتموا أمرهم زمنا ثم عادوا للإشارة إليه تعللا بما ينسبونه إلى بعض العساكر وهو من دسائسهم، وآخر الأمر خفتت أصواتهم وأحسوا بعجزهم عن الاستبداد بطرد الحامية الوطنية وعلموا أن لا بد فيه من مشورة الدول.
في هذه الأيام رغبوا إلى الدول في عقد مؤتمر للنظر في قانون التصفية وتحويره ووضع نظام للمالية المصرية يخفف عنها بعض أثقالها، فصرحوا في لائحتهم المرسلة إلى حكومات أوروبا بضرورة طرد الجند الوطني رعاية للاقتصاد وبلزوم تخفيض فائدة الديون المصرية.
إن الإنجليز من ست سنوات جعلوا بعض الضيق في المالية المصرية ذريعة للانقلاب العظيم الذي حصل في مصر، وألزموا الدولة العثمانية بمجاراتهم في ذاك الانقلاب، ودافعوا عن الدائنين، وزعموا من المحال تنقيص شيء من الفوائد، وطلبوا من الحكومة المصرية إذ ذاك تقليل عدد حاميتها ليتوفر من النقود ما يصرف لحقوق الدائنين، واليوم عطفوا على المصريين (عطفة الأب الرحيم) وبسطوا أيديهم إلى الدول يلتمسون مساعدتها لتخفيف الفائدة مع محو حاميتهم الوطنية، أليست البلاد المصرية كسائر بلاد العالم تحتاج إلى حامية تحفظ حدودها من الخارج وتصون داخلها من الغوائل التي لا يأمن طروقها حكومة من الحكومات، إن في تلك القسوة الأولى والمرحمة الثانية لسرا عظيما.
للإنجليز في مصر مطامع من زمن قديم يعدون سلطتهم عليها من ضروريات شوكتهم في الهند، وفي خلدهم أن المصريين لو كانت لهم ثروة مالية وقوة عسكرية عظيمة فإنهم يمانعون فيما يريدون ببلادهم، فضيقوا على المالية في تلك الأوقات وألجئوا الحكومة لتمزيق قوتها العسكرية ليحصل الضعف في القوتين المالية والجندية، فتمد لهم طريق ما طمحوا إليه.
وكان هذا التدبير سببا في الانقلاب الذي تبعته هذه الحوادث الهائلة، وبعدما فتح لهم بضعف الحكومة سبيل المداخلة في مصر طفقوا يسعون بما جبلوا عليه من الهوينى في المضي إلى مقاصدهم لإيجاد عنوان غير التملك يعنون به إقامة عساكرهم ومأموريهم في تلك البلاد زمنا طويلا، ويكون وضع ذلك العنوان برأي الدول تملصا من الوعد الذي وعدوها به، مع ترقب حوادث السياسة في أوروبا لعل حادثة منها تساعدهم على إبدال العنوان بما هو المطلوب لهم، ورأوا من أحسن الوسائل لدعوة الدول إليهم عرض المسألة المالية.
ولما كان من المحتوم في آرائهم بقاء عساكرهم في الديار المصرية، فلا بد من طلب وسيلة لطرد الجند المصري حتى تكون الحاجة إلى عساكرهم قائمة ، هذه طريقة ربما خفيت على المصرين وغفل عنها كثير من الأوروبيين إلا أنها من الطرق المتعارفة عند الإنجليز، وهي التي سلكوها في البلاد الهندية ونالوا بسلوكها السلطة المطلقة على تلك الأقطار الواسعة بدون سفك دماء غزيرة ولا مقاومة فتن شديدة.
دمر الإنجليز (دخلوا بلا استئذان) على الهنديين في أراضيهم وانبثوا بينهم، فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء وإغراء كل نواب أوراجا بالاستقلال والانفصال عن السلطنة التيمورية، فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه فصارت الأراضي الهندية الواسعة ميادين للقتال، واضطر كل نواب أوراجا إلى المال والجنود ليدافع بها عن حقه أو يتغلب بها على عدوه.
فعند ذلك تقدم الإنجليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببدر الذهب وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب، بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك الصغار من عساكرهم الأهلية ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاحتلال، ثم أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الإنجليزية وقوادها وما هم عليه من القوة والبسالة والنظام، حتى اقتنع كل نواب أوراجا بأن لا ناصر له على مغالبه إلا بالجنود الإنجليزية، فأقبل الإنجليز على أولئك السذج يضمنون لكل صيانة ملكه وفوزه بالتغلب على عيره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الإنجليز، ويكون بعض الجنود من الهنديين وبعضها من البريطانيين، وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها، ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم، حتى أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر؛ لتدفع شر بعضهم عن بعض، وصار الإنجليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها: ففرقة سموها «عمرية»، وأخرى سموها «جعفرية»، وغيرها سموها «كشتية»، إرضاء لأهل السنة والشيعة والوثنيين.
ولما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية؛ فتح الإنجليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض وأظهروا غاية السماحة، فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة وبعضهم بدون فائدة وينتظرون به الميسرة، حتى ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء ، وبعد مضي زمان كانوا يومئون إلى طلب ديونهم بغاية الرفق ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا: إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات الجنود يصعب عليكم، ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من الأرض نستغلها ونستوفي منها ديوننا وننفق من غلاتها على الجيوش التي أقمناها لكم، ثم الأرض أرضكم نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء، وإنما نحن خادمون لكم، فيضعون أيديهم على غضروات
1
Page inconnue