الذي أباح لمستر جلادستون أن يركب غير طريقه، ويتداخل في مصر بقوة السلاح؛ ما زعمه من احتياج تلك البلاد إلى إقرار الراحة، وتخليصها من خلل الفوضى، ومن مصلحة إنجلترا أن تتولى إغاثتها مما وقعت فيه، فمد يده لوضع قواعد العدالة، وتخليص الحكومة من الضعف وإعادة الأمن إلى البلاد، وكان يظن أن هذا المطلوب يتم بهدم طوابي الإسكندرية، والحلول في ثكن القاهرة، فيكون قد كسب أجرا أو نال ملكا جديدا أو حفظ مصلحة مهمة، بأعمال خفية، ونفقات قليلة، وكلمات غير طويلة، ولكن مع الأسف لم يساعده التوفيق على نوال البغية.
تتابعت الفتن وعلا لياقها حتى لذعه فنبهه لما لم يخطر له على بال، فاضطر لسوق العساكر، ومداومة الحروب، ومع هذا لم تؤيد الحكومة التي انتصر لها، ولم يكف محمد أحمد عن دعوته، ولم يهن عزم عثمان دجمة بهذه الصدمات المتتالية، وأجمعت الجرائد على أنه نادى بالحرب الدينية وهو يجمع متفرقة العرب ليزيدها إلى قبيله، ويهاجم الإنجليز مرة ثالثة، وأكد رواة الأخبار أن محمد أحمد أنبأ من قبل أنه سيهزم مرتين قبل تمام ظفره بالإنجليز، فكانت هذه الهزمات مما يقوي الاعتقاد به ويجمع الكلمة عليه - ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه المصاعب شوشت أفكار البرلمان، وحركت الخواطر على الوزارة الجلادستونية، وتخوف رئيس الوزارة من عواقب المداولات في المسائل المصرية، فتأخر عن حضور الجلسات من مدة أيام، وقام وزير الحربية مقامه في التعبير عن أفكار الوزارة، وفهم من بعض خطاباته أن من نية الحكومة أن تحفظ الثغور المصرية بعساكرها، وأن تحل في شرق السودان، وأن تتولى إدارة الحكومة المصرية كما تراه في غير هذا المحل، فقامت الحجة بكلامه هذا في حزب المحافظين، ووبخوا الحكومة على ضعفها السابق والتجائها للعدول عن سياستها في هذه الأوقات.
ولم يكن من رأي جلادستون أن تصرح الحكومة بمقاصدها، وتظهر مشرعها بوجه جلي، ووقع الخلاف بينه وبين وزير الحربية، وكثير من أعضاء الوزارة، على جملة مواضيع في المسألة المصرية، وزاد الخلاف شدة ميل جلادستون لمرضاة الأيرلنديين وتجافي بقية الوزراء عن رغبته، وثبت الرئيس في آرائه وهو يفضل الاستعفاء على التساهل في شيء منها، ومن هذا غلب على الظن أنه سيحصل انقلاب في الوزارة أو فض البرلمان، وأكدت قرب ذلك جريدة التايمس وجريدة الديلي نيوز، وهي نصف رسمية، وجاءت الأخبار الأخيرة متفقة على أن وزارة جلادستون في خطر.
فإذا انقلبت الوزارة الإنجليزية، وخلفتها أخرى، من أي حزب كان، فما عساها تفعل لحل المسألة المصرية والتخلص من الورطة، أقبل الصيف وصعب على عساكر الإنجليز أن تأتي بحركات عسكرية في أطراف السودان الشرقية مدة أشهر، ويتعذر حفظ المواصلة بين سواكن وبربر والخرطوم، فإن طلبوا عساكر هندية كما أنبأت به البرقية انكشف للهنديين بتكرر طلب العساكر من الهند ضعف القوة البريطانية، واجترءوا على حامية الهند وهناك الهول الأكبر.
في هذه المدة وهي غير قصيرة يتيسر لمحمد أحمد ودعاته أن يجمعوا قواهم وينالوا من المنعة ما يتعسر على عساكر الهند مقاومته، بل هم الآن على القرب مما نقول، ففي الأخبار الصحيحة أن حالة النيل الأعلى لا ترضي الحكومة الإنجليزية، والبلاد المجاورة للخرطوم في ثوران شديد، وقد انقطع الأمل من فتح الطريق بين بربر وعاصمة نوبيا، ومحمد أحمد مهتم من نحو شهر بجمع قوة عظيمة يساعده على تنظيمها ضباط من أركان الحرب فيهم اثنا عشر أوروبيا وستون ضابطا مصريا نجوا من عساكر هكس.
ذكرت جميع ذلك جريدة الديلي نيوز واعترف مستشار خارجية إنجلترا أن المواصلة بين شندي والخرطوم منقطعة، ولم يصله خبر عن جوردون من حادي عشر هذا الشهر، فإذا ترك هذا الخطب الجلل للقوة الإنجليزية فلا نظنه إلا يصدع جدار الهند كما بينا في العدد الماضي، ويذهب بكل ما يعبر عنه بالمصالح الأوروبية في مصر (وليكن ذلك).
ولا نظن أن دول أوروبا تسمح بضياع مصالحها في الأقطار المصرية، خصوصا بعض الدول التي كانت تسابق إنجلترا في وادي النيل وانحط مقامها فيه بالتداخل الإنجليزي الذي ليست له حدود معروفة، ولا غايات معلومة، وإلى هذا تشير جريدة التان الفرنسية الوزارية حيث تقول: إن إنجلترا لا يمكنها أن تضع مصر تحت حمايتها حتى تناقش الحساب بين أيدي أوروبا، وتنوه به جريدة سان بترسبورج حيث تقول: إن روسيا ليس في عزمها أن تفتتح بعمل في مصر، فإن إنجلترا اعترفت في جميع الأوقات بأن المسائل المصرية لها هيئة دولية، وبناء على هذا لا يمكن القطع في شيء منها إلا باتفاق أوروبا، هذا إذا تمكنت إنجلترا أن تأخذ على نفسها إطفاء الفتن وإجهاض الثورات، واستطاعت القيام بما تكتب على ذاتها، ففي نهايته تطلب عند أوروبا بما تقتضيه مصلحة كل دولة منها.
فإن عجزت - كما هو الغالب على الظن - أو طال عليها الزمان، وهي بين ظفر وانهزام ولا تتجاوز في حركاتها العسكرية شواطئ البحر؛ فلا ريب أن القلق يستفز الدول لطلب وسائل أخرى سوى ما تهيئه دولة إنجلترا، وإنا نرى، وسيحكم الزمان لنا إن شاء الله، أن حفظ حقوق الأوروبيين، وضبط البلاد المصرية وإخماد نيران الفتنة فيها لا يتم إلا على أيدي أهلها - ويفعل الله ما يشاء.
الفصل الثامن
Page inconnue