وقد أظهر العيني نبوغًا واضحًا في القاهرة، فكثر حساده الذين انتهزوا وفاة شيخه السيرامي سنة ٧٩٠ هـ / ١٣٨٨ م، وقد كان سنده، وأوقعوا بينه وبين الأمير جهاركس الخليلي أمير آخور، الذي أمر بنفيه، ولم يشفع له من النفى إلا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، فبقى مدة في القاهرة، إلا أنه شعر بأن الأمور لا تسير حسبما يريد، لهذا قرر العودة إلى مسقط رأسه عينتاب في ربيع الآخر سنة ٧٩١ هـ / ١٣٨٨ م.
كانت هذه المرحلة ضرورية في حياة العيني، إذ كانت مرحلة التجربة والاختبار، والمعاناة والابتلاء، فضلا عن كونها مرحلة الاطلاع والتثقف، إذ كونت شخصيته، وعرفت الناس قدره، وحققت شهرته وفضله، حتي كتب ابن تغري بردي عنه "فريد عصره ووحيد دهره، عمدة المؤرخين ومقصد الطالبين" (^١).
على أية حال اشتغل العيني بعد رجوعه إلى عينتاب بالتدريس والإفتاء والوعظ، نائيًا بنفسه عن شئون السياسة، إلا أن حوادث الدهر لم تتركه يهنأ بحياته، فقد حدث في الدولة الجركسية صراع بين كل من يلبغا ومنطاش ضد السلطان برقوق، فتصدي العيني بالكلمة للمعارضين لبرقوق حتى أباح للناس قتالهم، مما أوغر صدر منطاش عليه؛ فحاصر عينتاب سنة ٧٩٢ هـ / ١٣٨٩ م، مما اضطر العينى للاحتماء بقلعة المدينة، وظل بها حتى فك منطاش الحصار عنها.
ورحل العيني وأسرته إلى حلب سنة ٧٩٣ هـ/ ١٣٩٠ م، إلا أنه لم يجد فيها ذاته، فتوجه إلى القاهرة بعد أن عركته الحياة، ورأى بثاقب بصره أنه لا مقام له بها إلا إذا كان قريبًا من صانعي القرار؛ لهذا اقترب من الأمراء والسلاطين وصادقهم، أمثال الأمير جكم من عوض، وتغري بردي القردمي، وقلمطاي العثماني (^٢)، فقدموه للسلطان الظاهر برقوق، فأعجب بعلمه ومنطقه، فطلب منه تعليم المماليك الأتراك الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، فأثبت قدرة فائقة. فلما تولى الناصر فرج بن برقوق أمر السلطنة، عين العيني في حسبة القاهرة وضواحيها، في مستهل ذي الحجة سنة ٨٠١ هـ/ ١٣٩٩ م، بدلا من تقي الدين أحمد بن على المقريزي (^٣).
_________
(^١) ابن تغري بردي: المنهل الصافي، ج ٥، ورقة ٣٤٠. (مخطوط بدار الكتب المصرية، تاريخ تيمور، رقم ١٢٠٩) [ميكروفيلم ٥٣٣٥٩].
(^٢) ابن تغري بردي: المنهل الصافي، ج ٥، ص ١٤١؛ السخاوي: الذيل على رفع الإصر، ص ٣٣٢؛ السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣٢.
(^٣) المقريزي: السلوك، ج ٣، ص ٩٧٠؛ السخاوي: الضوء اللامع، ج ٣، ص ١٣٢.
1 / 21