إن صغر عندها عن عظمه عند اشبيلية فإنّ لتقارب برّيه هنا لك، وتقطّع غدره ومروجه معنى آخر، وحلاوة أخرى، وزيادة أنس، وكثرة آمان من الغرق، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة.
في هذه البيئة المليئة بالعطر والورود والأفياء نشأ صاحب العقد، وأمضى سحابة شبابه مستمتعا بطبيعة بلاده وأجوائها المساعدة على النظم واللهو والغناء، ولذا فقد أولع الرجل بسماع الغناء والطرب اللذين شاعا في المدن الأندلسيّة أيّما شيوع، حتّى أصبحت بلاطات الأمراء مسارح للمغنّيات والقيان اللواتي كنّ يفدن إلى هناك من مختلف الأقطار العربية في بداية الأمر كالجارية العجفاء، وقد استأثرت قرطبة باستقبال روّاد هذا الفن، ثم انتقل مركز الغناء إلى اشبيلية حتى ظنّ أنّها عاصمة هذا الفنّ. وتفرّدت قرطبة بالعلم والفقه، وأصبحت عاصمة الأدب وحاضنة علوم الدين.
وكان طبيعيّا أن يتأثر أديبنا بطبيعة بلاده، ويساير تلك الموجة العارمة من الطرب واللهو والعبث والمجون، فشرب الخمرة، وطرب لسماع الأصوات العذبة، وهذا ما يمكننا أن نستشفّه من خلال شعره المبثوث في ثنايا عقده. ومن الواضح أنّ الرجل قد تاب عن غيّه وعاد إلى رشده خلال العقد الرابع من عمره، فطرق باب الفقه، وتتلمذ على شيوخ عدة نذكر منهم الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، وفي تلك الحقبة من الزمن كانت دراسة الفقه مدخلا وممهدا لتسلّم المراكز الرفيعة، فامتلأت المدن الأندلسية التي خضعت للحكم العربي وخاصة قرطبة بالعلماء والأدباء والفقهاء..
ويظهر أنّ صاحب العقد كان على صلة مع أمراء عصره، فقد مدح أمير قرطبة محمد بن عبد الرحمن الحكم، كما كان على صلة بابنه المنذر أيضا، وفي هذه الحقبة من تاريخ الأندلس كثرت الفتن، حتى أن أحد قوّاد الفتنة، عمر بن حفصون، قد هدّد السلطة الأمويّة، وقد نعته ابن عبد ربه، بالمارق الفاسق..
واتصل صاحب العقد كذلك بالقائد العربي ابراهيم بن الحجاج الذي جعل أمارته في أشبيلية، وكان كريما سخيّا على الأدباء والشعراء، فوفد إلى بلاطه معظم علماء الأندلس وشعرائها.
€
المقدمة / 2