واصلت سيري شاعرا بالجوع. توقفت أمام دكان حديث يبيع الفطير والكعك والسمك والجبن المقليين واللحوم المحمرة. اشتريت ثلاث بيضات مسلوقة ببارة، وكانت الخمس ببارة منذ أسبوع .
الثلاثاء 31 يوليو
عاد أستاذي اليوم من إبيار حاملا معه أقفاصا من العنب والتين والخوخ غير الجوافة. دب الحماس في أرجاء البيت فنحن لا نأكل الفاكهة إلا في المواسم لأنها غالية الثمن ونادرة الوجود.
وبهذه المناسبة كان العشاء قدرا كبيرا من اليخني وأرزا بالزعفران والزبيب والبازلاء والبصل. وحلينا بالشمام البارد.
اجتمعنا في غرفة العقد بعد صلاة العشاء. وانضم إلينا خليل. وأرسل أستاذي إلى العطار يشتري معجونا منشطا من العنبر، ثم صرح لنا بأن الفرنساوية استدعوه لحضور اجتماعات الديوان الذي أنشئوه. وطلب مني أن أحكي له ما جرى من أحداث أثناء غيابه.
حدثته عن الورقة المطلوبة منه، ثم وصفت له موكب بونابرته واستقراره في بيت الألفي. هز رأسه آسفا. كان معجبا بالمملوك ويصفه بالأمير الكبير والضرغام الشهير. قال: هل تعرف قصته؟ لقد جلبه بعض التجار من الأناضول منذ عشرين سنة، واشتراه مراد بك بألف إردب من الغلال فسمي بالألفي. وكان جميل الصورة فأحبه وأعتقه، وجعله كاشفا بالشرقية؛ فطرد العربان وصادر ممتلكاتهم واشتهر بعسفه. ثم أقام في الصعيد أربع سنوات رجع منه بعد الطاعون، وقد اتزن عقله وتعلق بمطالعة كتب التاريخ والعلوم، وأكثر من شراء المماليك حتى صار عنده نحو ألف مملوك، وصار يزوجهم لجواريه، ويجهزهم بالجهاز الفاخر، ويسكنهم الدور الواسعة، ويعطيهم الفائظ والمناصب.
لحظت تغيرا في هيئة أستاذي، فمنذ مات أستاذه الشيخ مرتضى الزبيدي في الطاعون منذ سبع سنوات كف عن ترجمة أعلام العصر، وأخذ يبدو فاقدا للهمة والحماس. وكان يكتفي بأن يسجل بعض الوقائع والأحداث في أوراق متفرقة يسميها «طيارات». لكنه لم يستعد أبدا حيويته السابقة. وها هو الآن قد دب فيه النشاط.
استأذن خليل منصرفا فسأله أستاذي إذا كان قد قرأ الكتاب الذي أعطاه له وهو «آداب السلوك في الحمام العام» للشيخ المناوي، فأجاب بالنفي. قال: دخل حكيم على حكيم في منزله وهو متوحد، فقال له: أيها الحكيم. إنك لصبور على الوحدة. فقال: ما أنا وحدي فمعي جماعة من الحكماء والأدباء يخاطبونني وأخاطبهم. وضرب بيده على رصة كتب بجانبه ، وقال : هذا جالينوس حاضرا، وهذا بقراط يناظر، وسقراط واعظ، وأفلاطون لاقط، وهذا داود المعلم.
تنهد في أسى. كان يعذبه أن خليل لا يهوى القراءة. ومضى قائلا: هل سمعت عن الشيخ يوسف المغربي الذي توفي منذ أكثر من مائة عام؟ لقد بدأ حياته حرفيا قبل أن يخطو على الطريق الذي جعل منه عالما. كان يصنع حمائل السيف وهو صبي، وفي نفس الوقت يقرأ القرآن الكريم في جامع طولون من المغرب إلى العشاء، فمنعه أحد أخواله قائلا ليس في أقاربنا علماء. تطلع لمن؟ فأخذ يقرأ خفية، ثم ترك صنع الحمائل، وساعده جماعة من الناس على الاشتغال بالعلم، سمحوا له بالجلوس في دكان قماش يبيع فيها، وصار يشتري الكتب ويقرؤها، ثم التحق بالأزهر.
انصرف خليل فسألني عن أثر الأحداث في الناس، قلت: إنهم خائفون، فالفرنساوية يقطعون كل يوم رءوس خمسة أو ستة في الشوارع. وبعض السوقة فتحت عدة دكاكين بجوار منازلهم يبيعون فيها أصناف المأكولات. وفتح النصارى اليونانيون خمامير وقهاوي، ثم أضفت: هناك أيضا شائعات عن معارك بين المماليك والفرنساوية في القبة والمطرية والخانكة وأبي زعبل.
Page inconnue