سر إن اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
اللهم إن القلم ليقف بين الأنامل مشدود الوثاق، والقلب لينعصر من الجزع والإشفاق، ليسطر نكبات الحرب ومصائبها ودواهيها وكربها، بل وما تجلبه على الأهلين من موت وخراب ديار، وتبديد عائلات وضياع آثار، بل وما يجنيه العالم من رزاياها السافلة، فالمقهور يقاسي آلام الانكسار، والمنتصر يتلذذ بنعمة الانتصار، ولكن كلاهما أضاع نفوسا زكية، وبدد أموالا، وأسال دماء بريئة.
فالحرب داهية شعواء، فهي كغراب البين، ما وجدت في بلد إلا دمرته، وما الانتصار إلا غطاء خفيف، إذا ما انكشفت ظهرت آثار الجرح التي لم تندمل، وبقايا المصائب التي لم تذهب آثارها.
دخل أحمد كوبريلي باشا زراونو ظافرا منتصرا بعد أن سلمت له الحامية بأجمعها.
ولكن ذلك المنتصر الظافر أمر عند تسليم المدينة كف القتال، وعامل جيوش بولاندا الباقية وقائدها جون سوبيسكي معاملة الخدن للخدن، فلم يتعسف ويستبد بهم، بل فاق في تلك الحالة في الرحمة أولئك المتمدنين أبناء أوروبا في القرن العشرين، الذين يدعون أنهم ملائكة الإنسانية.
وإنا لا نضرب مثلا بالبعيد الماضي، بل بالقريب الحاضر، بإيطاليا التي فتكت بالطرابلسيين شر فتك، ومثلت بأسرى الحرب أشنع تمثيل، وفتكت بالأيامى والأطفال والأرامل، فكانت طرابلس مدينة النجيع حقا؛ فالدماء تدفع، ورؤوس الأبرياء تقطع وقلب المدنية عليهم يتوجع.
اجترمت إيطاليا ذلك الجرم في رابعة النهار على رؤوس الأشهاد، وأوروبا واقفة ناظرة بعين وضع عليها حجاب ولسان أخرس لا ينطق، خرقت المعاهدات والمحالفات، ولم تحرك أوروبا ساكنا كأن لم يحدث هناك حادث.
نرجع إلى زراونو لنرى الرحمة، وكيف تكون، والرأفة وكيف يصير مبلغها؟ وذلك في وسط القرن السابع عشر، أي حينما كانت أوروبا لا تزال، ومحكمة التفتيش راسخة الأقدام بها، والاضطهاد الديني منتشر بها، والخزعبلات قائمة على ركن متين.
ذهب أحمد باشا إلى سوبيسكي في قصره، وقد كان يبكي آسفا على انتصار أعقبه خذلان، ولكنه عزى نفسه بجوقزين ولمبرج، تقابلا فأنست سوبيسكي رؤية أحمد باشا كل ما كان يقاسيه من آلام، وما يعانيه من متاعب.
Page inconnue