منزلة كتاب العين في تاريخ علم اللغة
تقدم علم اللغة في النصف الثاني من القرن العشرين خطوات واسعة بحيث غدا علما
جديدا له طرائقة العلمية التي ابتعدت عن التأمل الذاتي كما كان.
علم اللغة عند قدماء اللغويين.
لقد أصبح علم اللغة في الداراسات الحديثة مادة منهجية يدرسها الطلاب في مرحلتهم الجامعية في الاقسام اللغوية كما يدرسها غيرهم من طلاب علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة في سني تخصصهم واعدادهم.
إن علم اللغة في هذا الحيز من الدراسات اللغوية الحديثة علم قائم على المللاحظة والتجربة العلمية.
وهو من أجل ذلك مادة جددية.
غير أن هذا العلم الجديد مما يجهله طالب اللغة في جامعاتنا العربية.
انه ليس مادة " انشائية " تملى على الطلاب، بل هو بحث وتجربة علمية أقول: " انه ليس مادة انشائية " لا صرف النظر إلى حقيقته العلمية التي تبتعد عن السرد القصصي في كثير من المواد التي تفيد من التأمل والاستقراء والاستنتاج.
إن علم اللغة في عصرنا كسائر العلوم الانسانية التي أفادت من التقدم اعلمي ومما يدعى ب " التكنولوجيا " الحديثة.
إن الآلة الجديدة الدقيقة قد غزت ميدان هذا العلم، لا سيما ما كان منه متصلا ب " الاصوات ".
ثم إننا واجدون كل يوم نمطا جديدا من هذا الغزو العلمي الذي استعان به علماء اللغة في عصرنا الحاضر.
غير أن شيئا من ذلك ما زال بعيدا عن عالمنا العربي، مجهولا كل الجهل، فلم تدرس اللغة بوجه عام ولم تدرس العربية بوجه خاص الدراسة الموضوعية، ولم يستعن بشئ من مبتكرات العلم الحديث على فهم أصواتنا فهما جيدا تحليليا وتركيبيا دقيقا.
ثم إننا ما زلنا غير شاعرين بحاجتنا إلى الاخذ بشئ يسير في أساليب البحث الجديد.
1 / 5
ما زلنا ننكر أن اللغة التى يعرب بها الناس شئ يستحق القليل من العناية، وأنها نتيجة لذلك، لغة مرذولة في حين أنها مادة الحياة اليومية، وكأن صنيعنا هذا انتصار
للفصيحة التي لم نحسن الوصول إليها وفهمها بل افهامها إلى ناشئة المتعلمين منا.
إننا نعاني صعابا حين نعرب بلغتنا الفصيحة، ومن أجل ذلك لا نقيم اعرابها ولا نحسن أن نأتي بالابنية الفصيحة على نحو ما هو معروف في " صرف " العربية، ثم لا نجيد صوغ جملها على نحو يكفل الاعراب عن مقاصدنا اعرابا مفيدا صحيحا.
لقد نسي أصحابنا الغيارى على الفصيحة المعربة أن السلف من علماء اللغة الثقات كانو يعنون بلغات القبائل ولغات الناس وأنهم سجلوا في رسائلهم شيئا من ذلك.
إن البحث في تاريخ العربية يدلنا على أن العلم اللغوي القديم قد اتبع في تقييده وضبطه وسائل علمية ما زالت مقوبولة.
لقدا اهتموا بالفصيحة لاهتمامهم بلغة التنزيل ولغة الحديث، كما اهتموا بلغات العامة.
إن الخيل بن أحمد مثل من الامثال اضربه لادلل على جهلنا بتاريخ هذه اللغة.
لعل الكثيرين من الدارسين وذوي الاختصاص لا يعرفون سوى أن الخليل من النحاة المتقدمين الكبار.
ثم نبة فريق من المتخصصين إلى " الكتاب " كتاب سيبويه ومكانة الخليل في هذا " الكتاب " النفيس.
ولا يعدو علم اخرين بالخليل سوى أنه صاحب كتاب العين، ويذهب فريق آخر في علمه إلى أبعد من ذلك قليلا فيعرف قاصدا أم غير قاصد إلى هذه المعرفة أن " العين " ليس من صنع الخليل.
وما زلنا نردد أحيانا هذه المقولة المكذوبة المختلقة التي روجها الاقدمون وفي مقدمتهم الازهري صاحب " التهذيب ".
أن نفرا آخر من أهل العلم لا تعدو معرفته بالخليل سوى كونه مبتدعا لعلم موازين الشعر.
ومن العجيب أن الخليل بن أحمد لم يعرف على حقيقته في مختلف العصور على الرغم من أن معاصريه ومن خلفهم قد أفادوا من علمه الشئ الكثير.
1 / 6
كان النضر بن شميل من علماء اللغة المتقدمين يقول: " أكلت الدنيا بعلم الخليل بن
أحمد وكتبه وهو في خص لا يشعر به " (١) ولعل شيئا واحدا قد بقي معروفا عن الخليل هو أنه من علماء النحو المتقدمين، وأن كتاب سيبوية قد حفل بعلمه وآرائه في النحو واللغة.
ان اشياء كثيرة تتصل بعلم الخليل قد خفيت على جمهرة من الدارسين.
أقول: ان الخليل أحد الكبار العباقرة الذين هم مفخرة الحضارة العربية، وانه مبدع مبتكر، والا ابداع عند الخليل متمثل في عناصر عدة منها: أن الخليل قد وضع أول معجم للعربية فلم يستطع أحد ممن تقدمه أو ممن عاصره أن يهتدي إلى شئ من ذلك.
ولا بدلنا من أن نشير إلى أن علماء اللغة ممن تقدم الخليل وممن عاصره لم يستطيعوا استيفاء العربية بصنعة محكمة قائمة على الاستقراء الوافى.
وبسبب من ذلك قصروا عملهم على تصنيف الرسائل الموجزة المصنفات المختصرة التي تناولوا فيها موضوعا من الموضوعات كالابل والوحوش والخيل والجراد والحشرات وخلق الانسان وخلق الفرس والبئر والسراج واللجام ونحو ذلك من هذه المواد.
غير أن الخليل بن أحمد لم يصنع شيئا من ذلك فلم يعرض لهذه الابواب التي أشرنا إليها، ولكنه استقرى العربية استقراء أقرب إلى ما يد على ب " الاحصاء " في عصرنا الحاضر، فقيض له أن ينتهي إلى " كتاب العين " فكان أول معجم في العربية، وهو عمل جد كبير إذا عرفنا أنه من المعجمات الاولى في تاريخ اللغات الانسانية.
ومن غير شك أن أصحاب المصنفات الموجزة التي أشرنا إليها قد أفادوا من " كتاب العين " لقد استفروه استقراء وافيا فجردوا منه مصنفاتهم كما استقروا كتبا أخرى لا نعرفها ولم يفصحوا عنها.
_________
(١) الانباري، نزهة الالباء ص ٤٨.
[*]
1 / 7
إن صنعة أول معجم في أية لغة من اللغات على نحو وترتيب جديدين لا سابق لهما،
لهو من أعمال الصفوة العباقرة الخالدين.
ولا أريد أن اعرض للرأى القائل إن الخليل قد اهتدى إلى شئ من علمه اللغوي والنحوي بسبب ما أفاده مما ترجم من العلم الا غريقي.
ذكر هذا جماعة من المستشرقين ثم خلف من بعدهم اخرون من المشارقة فأعادوا هذه المقولة التى تفتقر كل الافتقار إلى الدليل التاريخي.
قلت: إن الخليل قد احصى العربية احصاء تاما، وبذلك هيأ مادة مصنفة معروفة لمن جاء بعده من اللغوين الذين صنفوا معجمات لقد اهتدى الخليل إلى طريقة " التقليب " التي استطاع بها أن يعرف المستعمل من العربية والمهمل فعقد الكتاب على المستعمل وأهمل ما عداه.
حتى إذا تم احصاء اللغة من الثنائي إلى الثلاثي فالرباعي فالخماسي كان ذلك ايذانا ببدء مرحلة التدوين العلمي للعربية.
ومع ذلك لم يستطع معاصروه أن يضيفوا شيئا أو يقوموا بما قام به كما لم يستطع من خلفه أن يأتي بما أتى.
كان كل جهد الذين خلفوا الخليل أن يفيدوا من نظام العين فيصنفوا معجمات اتخذ أصحابها منه أساسا لهما كما فعل ابن دريد في الجمهرة والازهري في " التهذيب ".
ان عملية احصاء العربية وحدها تعد العملية الكبرى التي هيأت لجميع أصحاب المعجمات المطولة المادة التي عقدوا عليها أبوابهم وفصولهم.
ونستطيع أن نؤكد أن أضافه هؤلاء إلى ما جاء به الخليل لا تتناول المواد الاساسية بل هي اضافات ثانوية كزيادة في الشواهد من شعر وقرآن وحديث أو نسبة أبيات إلى أصحابها لم تنسب في " العين ".
ولعلنا نجد في المعجمات المطولة كلسان العرب وتاج العروس أشياء لا نجدها في
1 / 8
" العين " وذلك لان ابن منظور صاحب اللسان والزبيدي صاحب التاج وأمثالهما من المتأخرين قد سجلوا مواد لم تكن معروفة بفصاحها في عصر الخليل مثلا أو عصر الجوهري صاحب الصحاح المتوفي سنة ٣٨٣ هـ، ومعاصره ابن فارس المتوفى سنة ٣٩٥ هـ.
وهذا يعنى أن معيار الفصاحة في خلال القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة غيره في القرون المتأخرة.
إذا عدنا إلى " العين " اهتدينا إلى أن الخليل كان قد فطن إلى شئ في التطور التاريخي للعربية.
لقد بدأ الخليل بذكر المضعف الثلاثي وهو يشعرنا بهذا البدء أن المضاعف الثلاثي قائم على الثنائي الذي يصار منه إلى الثلاثي.
وهو من أجل ذلك يدعوه ب " الثنائي ".
ومعنى هذا أن طريقة تضعيف عين الكلمة هي الطريقة الاولى في نقل الثنائي إلى الثلاثي، حتى إذا تم الثنائي على هذا النحو انتقل إلى الثلاثي فيستوفيه ثم يعرض لما زاد على الثلاثي في هذا البناء المرتب على الثنائي ثم نقل إلى المضعف، ثم إلى غير المضعف.
ومن هنا ندرك أن الخليل كان على علم واضح بأبنية العربية وتطورها التاريخي.
لقد ذهب الخليل إلى " أن العرب تشتَقُ في كثير من كلامها أبنية المضعف في بناء الثلاثي المثقل بحرف التضعيف " (مقدمة التهذيب) .
لقد سمى الخليل كتابه " العين " وهذا يعني أنه ابتدأ بصوت العين واتبع نظاما خاصا ابتدعه فلم يتبع النظام الابجدي ولم يتبع نظام الالفباء الهجائي.
إن الاصوات اللغوية عند الخليل على النحو الآتي: ع ح هـ خ غ، ق ك، ج ش ض، ص س ز، ط د ت، ظ ث ذ، ر ل ن، ف ب م، وا ي همزة.
وقد أشار الخليل قي مقدمة العين إلى اهتدائه إلى عمله الكبير.
وهو في هذا العمل يضع البداية الاولى لعلم الاصوات في العربية.
نعم لقد حفل كتاب سيبويه بمادة مهمة في هذا الموضوع، وأكبر الظن أن سيبويه قد أفاد من الخليل كثير ذلك أنه في " الكتاب " قد
1 / 9
اعتمد على الخليل فهو ينقل عنه ويثبت أقواله وآراءه.
إن مقدمة " العين " على ايجازها، أول مادة في علم الاصوات دلت على أصالة علم الخليل وأنه صاحب هذا العلم ورائده الاول.
في هذه المقدمة بواكير معلومات صوتية لم يدركها العلم فيما خلا العربية من اللغات الا بعد قرون عدة من عصر الخليل.
لقد جاء في المقدمة قوله: " هذا ما ألفه الخليل بن أحمد البصري من حروف: أب ت ث مع ما تكمَّلَت به فكان مدار كلام العرب وألفاظهم، ولا يخرج منها عنه شئ.
أراد أن يعرف بها العربُ في أشعارها وأمثالها ومخاطبتها، وألا يشذ عنه شئ من ذلك، فأَعْمَلَ فكره فيه فلم يمْكِنْه أن يَبْتَدِئَ التأليفُ من أول اب ت ث، وهو الألف، لأن الألف حرف معتلّ، فلما فاته الحرف الأوّل كره أن يبتدئ بالثاني وهو الباء إلاّ بعد حُجّةٍ واستقصاء النَّظَر، فدبّر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها فصيَّر أولاها بالابتداء ادخَلَ حرف منها في الحلق.
وإنما كان ذَواقه إِيَّاها أنّه كان يَفْتَحُ فاهُ بالألفِ ثم يُظْهِرُ الحَرْفَ نحو: أب، أع، أغ، فوجد العيْن ادخَلَ الحروف في الحَلْقِ فَجَعَلهَا أوّل الكتابِ ثمّ ما قَرُبَ منها الا رفع فالأرفع حتى أتَى على اخرها وهو الميم.
في هذه المادة الاولى فائدة لغوية هي أن الخليل مبتدع طريقة علمية قائمة على تحليل أصوات الكلمة ومشاهدتها في طريقة اخراجها في حيز الفم.
وانت تحس أن الخليل كان على علم بالجهاز الصوتي وتركيبه واجزائه وما اشتمل عليه من احياز ومدارج فاستطاع أن يحدد مخارج الاصوات.
ومن المفيد أن نلاحظ أن مصطلح " صوت " لم يرد في مادة الخليل الصوتية، ولم يكن من مصطلح العلم اللغوي إلا في القرن الرابع الهجري فقد ورد في مصطلح ابن
جني " التصريف الملوكي ".
1 / 10
ان كلمة " حرف " تعني في مصطلح الخليل ما نعنية باستعمالنا كلمة صوت في عصرنا الحاضر ولنسمعه يقول: " فإذا سُئِلَتَ عن كلمة وأردتَ أن تعرِفَ مَوْضِعَهَا فانظُرْ إلى حُرُوْفُ الكلمةِ فمهما وَجَدتَ منها واحدًا في الكتاب المقدَّم فهو في ذلك الكتاب ".
ان قوله " حروف الكلمة " يعني أصواتها وهو يشير إلى أنه ضمن مقدمته التي دعاها " الكتاب المقدم " هذه المواد الصوتية واللغوية.
قلت: ان هذه المقدمة تشتمل على مادة صوتية وأخرى لغوية وهو يخلط بين هذه وتلك لحاجته إلى ذلك، فهو يقول بعد تلك الاشارات الصوتية: " كلاَمُ العَرَب مبنيّ على أربعةِ أصناف: على الثُنَائِيِّ والثلاثي والرباعي والخماسي " ثم يعرض لكل واحد من هذه الاصناف ويمثل له.
قال بعد أن تكلم على الخماسي: " والألف التي في " اسْحَنْكَكَ واقشَعَرَّ واسْحَنْفَرَ واسْبَكَرَّ ليستْ من أصل البناء وإنما دخلت هذه الألِفات في الأفعال وأمثالها من الكلام لتكونَ الألِفُ عمادًا وسُلّمًا لِلِّسان إلى حَرْف البناء، لأنَّ حرف اللِّسان لا ينطلق بالساكِن من الحروف فيحتاجُ إلى ألفِ الوَصْل.
إلاّ أنَّ دَحْرَجَ وهَمْلَجَ وقَرْطَسَ لم يُحْتَجْ فيهنَّ إلى الألفِ لتكون السلم فافهم..".
أقول: لم يرد الخليل بقوله: " والاف في ... ليستْ من أصل البناء ... " إنها من أحرف الزيادة فقد كان بوسعه أن يصرح بذلك، وإنما أراد أنها وسيلة لاخراج الصوت فكأن أي صوت لا يمكن للمعرب أن ينطقه ويأخذ الصوت مادته وصفته إلا بعد اعتماده على صوت الاف الاولى (الهمزة) قبله.
ومن أجل ذلك دعاها عمادا أو سلما،
وقوله: " لان حرف اللسسان لا ينطلق بالساكِن من الحروف فيحتاجُ إلى ألفِ
1 / 11
الوصل " يشير إلى أن إخراج الصوت وهو ساكن بصفته محتاج إلى وسيلة إلى اخراجه.
ويذهب الخليل بعيدا في هذ المقدمة فيحلل الاصوات وبكتب في مادتها وصفاتها فيقول: إعلم أنَّ الحروف الذُلْقَ والشقوية ستَّة وهي، ر ل ن، ف ب ب م، وإنَّما سُمِّيَتْ هذه الحروف ذُلْقا لأن الذلاقة في المنطق إنّما هي بطَرَف أَسَلة اللَّسان والشفتين وهما مدرجتا هذه الاحرف الستة، منها ثلاثة ذليقة: ر ل ن تخرج من ذَلْقَ اللسان من طَرَف غار الفم، وثلاثة شفوية: ف ب م، مخرجها ما بين الشَّفَتيْن خاصة.
لا تعمل الشفتين في شئ من الحُرُوف الصَّحاح إلاَّ في هذه الا حرف الثلاثة فقط، ولا ينطلق طرف اللَّسانُ إلا بالرَّاء والّلام والنون ".
في هذا المادة الصوتية ندرك أن الخليل استطاع أن ينشئ في العربية معجمها في المصطلح اللغوي الصوتي لا نعرفه قبل الخليل بهذه السعة وهذا العمق.
ولقد تهيأ له أن يلم بالكلم في العربية فيميز بينها وبين الاعجمي الذي يتصف بصفات خاصة.
يقول: " فان وردت عليك لكمة رباعيَّة أو خماسيَّة معرَّاة من الحروف الذُلْق أو الشفوية ولا يكون في تلك الكلمة من هذا الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم أنَّ تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست في كلام العرب، لأنك لست واجدا من يُسمعْ في كلام العرب كلمة واحدة رباعيَّة أو خماسيَّة إلاَّ وفيها من الحروف الذلق أو الشفوية واحد أو اثنان أو أكثر ".
وأما البناءُ الرباعيُّ المُنبَسطِ فإنَّ الجُمهور الأعظم منه لا يَعْرَى من الحروف الذُلْق أو من بعضها، ألا كلمات نحو عشرجئن شواذ.
وقد أسهب الخليل في شرح صفات الكلم الدخيل غير العربي من الناحية الصوتية.
ولم يقتصر الخليل على وصف الاصوات مفردة بل عرض لها وهي مجموعة في كلمات لتوفر شئ
1 / 12
أو أشياء فيها فمن ذلك مثلا قوله: ... ولكن العين والقاف لا تدخلان في بناء الاحسنتاه لأنهما أطلق الحروف وأضخمها جرسا ".
ثم يقول: فإذا اجتمعا أو أحدهما في بناء حَسُنَ البناء لنَصاعتهما، فإنْ كان البناءُ اسمًا لَزِمَتْهُ السِّين أو الدَّال مع لزوم العَيْن أو القاف، لأن الدَّال لانَتْ عن صلابة الطَّاء وكزازتها، وارتقت عن خُفُوت التّاء فَحَسُنَتْ.
وصارت حالُ السِّين بين مَخْرَجِ الصَّاد والزاي كذلك ... " ثم يقول: وأمّا ما كان من رباعي منبسط معرى من الحروف الذُلق حكاية مؤلفة نحو " دهداق " واشباهه فإن الهاء والدلال المتشابهَتَيْن مع لُزوم العين أو القاف مُستحسَن، وإنما استحسنوا الهاء في الضرب للينها وهشاشتها وإنما هي نَفَس لا اعتياص فيها ".
أقول: كأن الخليل وقد ملك اللغة عرف دقائقها وكيف تتم أبنية الكلام فيها ومم تتألف مادة تلك الابنية، استطاع أن يقطع بصورة الكلمة وهندستها إن جازي لي أن استعبر هذا اللفظ، فهو يبتدع الكلمة التي لا يمكن أن تكون في العربية لانها عريت عن صفات الكلمة العربية.
وكأن الخليل اصطنع (دهداق) واشار إلى ذلك بقوله " حكاية مؤلفة " ليقول مقولته التي أشرنا إليها.
وقد أهمل الجوهري في " الصحاح " هذا المادة، والجوهري قد خلف الخليل بنحو أكثر من قرنين كاملين.
غير أن المتأخرين ومنهم الصاحب بن عباد في " المحيط " ذكر: دهدقت البضعة دهدقة " أي دارت في القدر إذا غَلَتْ.
وقال: دابة دهداق بالفتح
وتكسر أي هملاج.
وفي " الجمهرة ": دهدق اللحم دهدقة ودهداقا كسره وقطع عظامه.
أقول: وهذا يشير إلى أن الكلمة مولدة استحدثت فضمت إلى العربية المعجمية بعد الخليل لشيوعها.
1 / 13
ويتكلم الخليل على البناء المضاعف الثلاثي والرباعي فتلمح في كلامه ما اهتدى إليه الباحثون في عصرنا من أن الفعل الثلاثي قائم على الثنائي.
وأن هذا الثنائي يصار به إلى الثلاثي أما عن طريق التضعيف، وأما عن طريق زيادة صوت اخر.
وهذا الصوت الاخر قد يأتي صدرا في أول الفعل وهو ما يدعى باللغات الاعجمية " "، وقد يأتي حشوا في وسط الفعل الثلاثي ويدعى " " infixe، وقد يأتي كسعا في اخر الفعل ويدعي ".
" suffixe ومثل هذا قوله في الاسم الثلاثي: " حرف يُبْتَدَأُ به وحرف يخشي به وحرف يوقف عليه ".
وإذا كان علي أن أوجز أقول: ان مقدمة العين مادة غزيرة في علم الا أصوات العربية وعلم وظائف الاصوات.
phonologie وهي بهذا تعد من أهم الوثاثق في علم اللغة التاريخي وذلك لتقدمها ولان صاحبها مبتدع مؤسس لم يأخذ علمه هذا عن معاصر له أو سابق عليه.
1 / 14
منزلة " العين " في المعجمات العربية
كان الخليل فكر، وأطال التفكير في صنع كتاب في اللغة يحصر لغة العرب كلها، لا تفلت منه كلمة، ولا يشذ منها لفظ، وهداه عقله الناقد الفاحص إليه، وخطا في ذلك خطوات علمية محكمة، وأقام خطته على نظام رياضي دقيق.
بني الخطة على أساس من عدة الاصول التي تتألف منها للكلمة، ولم يعبأ بالزوائد، وقد توافرت لدية أبواب منتظمة محبوكة حبكا رياضيا متقنا.
عدة أبواب كتاب العين هي عدة الحروف السواكن يضاف إليها باب خاص بأحرف العلة، وأول أبواب الكتاب باب العين الي اتخذ منه اسم هذا المعجم، وينطوي فيه الكلمات المستعملة التي تتألف من العين مع ما يليها.
ويليه باب الحاء، وينطوي فيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الحاء مع ما يليها.
ويليه باب الهاء وينطوي فيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الهاء مع ما يليها.
ثم باب الخاء، وفيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الهاء مع ما يليها.
ثم باب الغين وفيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الغين مع ما يليها، وبالغنن تنهي مجموعة حروف الحلق، وهي تعادل نصف الكتاب.
فإذا انتهى من مجموعة أصوات الحلق بدأ بمجموعة اللهاة وفيها حرفان هما القاف والكاف وباب القاف يحتوي الكلمات التي تتألف من القاف مع ما يليها، وكذلك باب الكاف.
وهكذا ينتقل من مدرجة إلى ما يليها حتى ينتهي إلى مدرجة الشفتين، وفي صفحة الشفتين عنده ثلاثة أحرف صحاح هي الفاء والباء والميم، وأبواب هذه الحروف صغيرة جدا، لانها أنما تحتوي الكلمات التي تتألف منها مع ما يليها، ولا يلي الفاء إلا الباء والميم ولا يلي
1 / 15
الباء إلا الميم، ولا يلي الميم حرف ساكن فلم يبق منها إلا الكلمات التي تتألف منها مع أحرف العلة.
قال الخليل في باب الفاء: " لم يبق للفاء إلا اللفيف وشئ من المعتل ".
وقال في باب الباء: " منزلة الباء مثل منزلة الفاء لانها شفهية، وكذلك الميم في حيز واحد، وهو اخر الحروف الصحاح، ولذلك لم يكن له في شئ من الابواب تأليف لا في الثّنائيّ ولا في الثلاثي و[لافي] الرباعي و[لافي] الخماسي، ولم يبق منها إلا الفيف ".
وقال في باب الميم: " الميم آخِرُ الحُروفِ الصِّحاح، وقد مضت مَعَ ما مَضَى من
الحروف، فلم يَبْقَ للميم إلا اللفيف ".
فإذا انتهى من الحروف الصحاح عقد بابا للاحرف المعتلة، وهو اخر أبواب كتاب العين، واخر كلمة ترجمت فيه هي كلمة (آية) .
وكل باب من تلك الابواب يتناول بالدرس الكلم مرتبة بحسب عدة أصولها، والكلم من حيث عدة أصولها تندرج في ستة أبواب: ١) باب الثنائي المشدد ثانية.
٢) باب الثلاثي الصحيح.
٣) باب الثلاثي المعتل.
٤) باب اللفيف.
٥) باب الرباعي.
٦) باب الخماسي.
وليس بعد الخماسي باب، لانه " ليس للعرب بناء في الأسماء والافعال أكثر من خمسةِ أحرُف، فمهما وجدت زيادة على خمسة أحرف في فِعل أو اسم فاعلم أنَّها زائدة على البناء، نحو قرعبلانة، أنما هو قَرَعْبَلَ، ومثل عنكبوت، إنما هو: عنكب ".
(١)
_________
(١) تهذيب اللغة ١ / ٤٢.
[*]
1 / 16
وطريقته في ترتيب الكلام في داخل الباب الواحد أن يأخذ من الثنائي مثلا عق فيترجم لها ثم يترجم لمقلوبها قع قبل أن ينتقل إلى الكلمة التي تلي عق وهي عك.
وإذا وصل إلى باب الثلاثي الصحيح كانت المادة الاولى عنده هي المولفة من العين والهاء والقاف ولم يستعمل من وجوه هذه المادة إلا عهق وهقع فأثبتها وأهمل الا وجه الاخرى.
فإذا انتهى من الكلمة وتقليباتها انتقل إلى الكلمة التى تليها وهي المؤلفة من العين والهاء والكاف: عهك، ولم يستعمل غيرها فأثبتها وأهمل ما سواها من التقليبات.
وهكذا إلى أن انتهي الكلمات المبدوءة بالعين مع ما يليها من الحروف فيعقد بابا جديدا وهو باب الحاء مع ما يليه ويفعل فيه ما فعل في باب العين إلى أن تنهي أبواب الكتاب كلها.
وكان قد بدأ بالعين، لا لانها أول الحروف مخرجا، ولكنها أول الحروف نصاعة وثباتا، والهمزة عنده هي أول الحروف مخرجا، لانها نبرة في الصدر تخرج باجتهاد على حد تعبيره في الكتاب، ولم يبدأ بها " لانها حرف مضغوط مهتوت إذا رفه عنه انقلب ألفا أو واوا أو ياء ".
ولم يجعل البدء بالاف لانها ساكنة ابدا ولا بالهاء لهتتها وخفائها فهي كالالف، ولكنها أقوى منها في التأليف، لانها تقبل الحركة، ويبدأ بها، ومن أجل ذلك أخرها عن العين، لان العين عنده أنصع الحروف (١) .
قال ابن كيسان فيما حكى السيوطي: " سمعت من يذكر عن الخليل انه قال: لم أبدأ بالهمزة: لانها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالاف لانها لا تكون في ابتداء كلمة لا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لانها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف " (٢) .
_________
(١) المقدمة.
(٢) المزهر ١ / ٩٠ [*]
1 / 17
وما قاله أبو طالب المفضل بن سلمة، فيهما زعم السيوطي، أن صاحب العين ذكر " أنه بدأ كتابه بحرف العين، لانها أقصي الحروف مخرجا " (٣) وهم محض، لانه لم يقل ذاك، ولا شيئا قريبا منه.
وكان وهما أيضا ما جعله الزبيدي أساسا لنفي نسبة " العين " إلى الخليل.
وكان قد استند إلى أمرين كلاهما ضعيف لا يصح الاستناد إليه.
الاول: ما لا حظه من خلاف في الظاهر بين ترتيب الاصوات في العين وترتيبها في الكتاب، ولو كان العين له، " لم يكن ليختلف قوله، ولا ليتناقض مذهبه ".
والثاني: ما لاحظه من إدخال الرباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف، وهو مذهب الكوفيين خاصة، فيما زعم (١) .
أما الاول فالجواب عنه هو ما قدمناه من بيان، ومن نقل عن ابن كيسان.
وأما الثاني فالجواب عنه أن الزبيدي لم يقع له مذهب الخليل على حقيقته، لان الثلاثي المضاعف عند الخليل أنما هو من الثناثيات، وأن الرباعي المضاعف إنما ينشأ من تكرار الثنائي فهو منه وليس من باب اخر، وإذا أخذا الكوفيون بهذا الرأي فيما بعد فلن يعني هذا أنه من مذهبهم وأنه خاص بهم.
* * * * والعين بهذا أول معجم في العربية ولعله معجم موعب، وقد أنجز في زمن لم تكن أذهان الدارسين ممهدة لتقبل مثله، مثله مثل أي عمل يبتكركان الخليل قد انفرد في انجازه، ولذلك بقي بعيدا عن متناول رواة اللغة السلفيين، ولم يخطر على بال أحدهم إذا ذاك أن يصنف كتابا يكون " مدار كلام العرب وألفاظهم، ولا يخرج منها عنه شئ ".
كما جاء في مقدمة " العين " ولم يكن ليكون مما اتجهت أذهانهم إليه، وانصبت عنابهم عليه.
_________
(٣) المزهر ١ / ٩٠ (١) انظر ما اقتبسه السيوطي من كلام الزبيدي في كتابة " استدراك الغلط الواقع في كتاب العين " المزهر ١ / ٧٩ -! ٧.
[*]
1 / 18
وكان ابن دريد على حق إذ قال: وقد ألف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي رضوان الله عليه كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته، وعنى من سما إلى نهايته، فالمنصف له بالغلب معترف، والمعاند متكلف، وكل من بعده له تبع، أقر بذلك أم
جحد، ولكنه ﵀ ألف كتابا مشاكلا لثقوب فهمه، وذكاء فطنته " (١) .
ولذلك أنكره حملة الرواية " المحافظون " مثل أبي حاتم السجستاني وأصحابه أشد الانكار، ودفعوه بأبلغ الدفع (٢) .
بحجة أن أصحاب الخليل غبروا مدة طويلة " لا يعرفون هذا الكتاب، ولا يسمعون به، ومنهم النضر بن شميل، ومؤرج ونصر بن علي وأبو الحسن الاخفش وأمثالهم، ولو أن الخليل ألف الكتاب لحملة هؤلاء عنه " (٣) .
لان أكثر من سموا لم يكن بالمتلقي المستوعب لكل ما هو جديد، ولان أبا الحسن الاخفش خاصة كان قد عاصر الخليل ولكنه لم يأخذ عنه، ولم يحك عنه حرفا واحدا، فكيف يحمل عنه علمه في العين وغيره.
ولان عدم علمهم، وعلم أشياخهم لا يعني عدم وجوده، ولم ينقدوه ولم يفحصوه ليعرفوا أنه من عمل الخليل أو من عمل غيره، بل تمسكوا بأوهى الاسباب ليملاوا الدنيا صخبا.
ويوجهوا الاذهان إلى إنكاره ورفضه.
وقد اتخذوا من انكاره وسيلة إلى نهب ما احتواه ليقيموا عليه كتبا زعموا أنها لهم أمثال الازهري والقالي وغيرهما.
وكان الازهري أشد المنكرين إنكار له، وأكثر أصحاب المعجمات إفادة منه.
زعم أن الكتاب ليس للخليل، وإنما هو لليث بن المظفر، نحله الخيلى " لينفقه باسمه ويرغب فيه من حوله " (٤)
_________
(١) مقدمة الجمهرة ص ٣.
(٢) المزهر ١ / ٨٤ (٣) المزهر ١ / ٨٤.
(٤) مقدمة التهذيب ٢٨.
[*]
1 / 19
وقد عقد الازهري في مقدمته بابا ذكر فيه الائمة الذين اعتمد عليهم فيما جمع في
كتابه " تهذيب اللغة "، ذكر أكثر الدارسين الذين صنفوا الكتب في اللغات، وفي علم القرآن وفي القراءات، بدأهم بأبي عمرو بن العلاء، وختمهم بأبي عبد الله نفطويه، ولم يكن الخليل بن أحمد واحدا من هؤلاء الاثبات فقد تجاهل مكانته في الدراسات اللغوية، ولم يذكره إلا على أنه أستاذ سيبويه، وأنه " رجل من الازد من فراهيد " وأن ابن سلام كان يقول: " استخرج من العروض واستنبط منه ومن علله ما لم يستخرجه أحد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم " (١) .
ولم يكن الخليل ليساوي عنه الازهرى حتى أصغر تلاميده الذين سلكهم في مصادره المعتمدة حتى كأن الخليل لا علاقة له باللغة ولا بالنحو ولا بالتأليف المعجمي، مع أنه اقتبس مقدمة لعين بكل تفصيلاتها، وجعلها مقدمة لمغجمه، نقل منها رأي الخليل في عدة حروف العربية، وأحيازها ومخارجها وصفاتها، وتأثير بعضها في بعض، حين تتألف وتتجاور في كلمات، وأخذ عنه تصنيف الكلم من حيث عدة أصولها، وأخذ عنه ما يأتلف من الاصوات وما لا يأتلف.
ولم يجعل الليث من مصادره، لان الليث، فيما زعم، من أولئك الذين ألفوا " كتبا أودعوها الصحيح والسقيم، وحشوها بالمزال والمصحف المغير " (٢) .
ولكننا حين نتصفح " تهذيب اللغة " ونقابله بما في كتاب العين نعجب من أمر الرجل الذي حاول في غير ذكاء أن يجمع بين تحامله على الليث وغضه من شأنه، ونهب ما في كتابه، على حد زعمه، ليبني كتابه عليه.
لقد كان " العين بكل ما فيه من ترجمات وبيانات وتفسيرات أساس كتابه الذي لم يزد عليه إلا روايات ونقولا عن غير الخليل، ولم يضف شيئا على ما فعله الخليل الذي يسميه بالليث أو بان المظفر إلا مفردات أهملها الخليل.
_________
(١) مقدمة التهذيب ١٠.
(٢) مقدمة التهذيب ص ٢٨.
[*]
1 / 20
أما ما كان يرد به على الليث، ويزعم أنه مصحف أو أنه غير معروف فأكثره مزاعم يبطلها مراجعة نصوص العين.
وقد وضح لدينا في كثير من الاحيان أن الازهري كان لا يتواني عن النيل من العين أو نسبة التخليط إليه ولو باطلا.
فقد جاء في التهذيب في ترجمة (سعد): " وخلط الليث في تفسير السعدان.
فجعل الحملة ثمر السعدان، وجعل حسكا كالقطب، وهذا كله غلط.
القطب: شوك غير السعدان يشبه الحسك والسعدان مستدير شوكه في وجهه.
وأما الحملة فهي شجرة أخرى وليست من السعدان في شئ " (١) وإنه لمن الواضح أن الازهري بهذا حاول أن يوهم من حوله بصحة تقويمه الليث حين جعله من غير الاثبات وممن ألفوا كتبا أو دعوها الصحيح والسقيم وحشوها بالمصحف إلى اخر ما تحامل به عليه.
غير أن ما نسبه إلى الليث هنا لم يقله الليث، وحقيقة ما جاء في العين مما اتفقت عليه النسخ وهو قوله: " والسّعدان نباتٌ له شوكُ كحسك القُطْب، غير أنه غليظ مُفْرْطَح كالفَلكْةَ، ونباته سمّي الحَلَمَةَ وهو من أفضل المراعي ... ويقال الحملة نبتٌ حسنٌ غير السعدان " (٢) فأين هذا مما زعمه الازهري.
تَأبى بدِرّتها إذا ما استكرهت * إلاّ الحميَم فإنّه يتبصَّع بالصاد، أي: يسيل قليلا قليلا، فقال: ابن دريد " أخذ هذا من كتاب ابن المظفر فمر على التصحيف الذي صحفه " (٣) .
لم يكن الخليل مصحفا، ولا الليث كما يحلو للازهري ذلك، فقد عرض في العين في ترجمة (بصع) لكلتا الرواتين، يتبصع بالصاد المهملة، ويبضع بالضاد المهملة ولكن الازهري أخفي هذا ليضفي على زعمه شيئا من الوجاهة.
_________
(١) التهذيب ٢ / ٧٣.
(٢) العين، ترجمة (سعد) في باب العين والسين والدال معهما.
(٣) التهذيب ٢ / ٥٣.
[*]
1 / 21
ومن ذلك ما جاء في ترجمة (عصم): " والاعصم: الوعل، وعصمته بياض شبه زمعة الشاة في رجل الوعل في موضع الزمعة من الشاء ".
(١) قال الازهري: " الذي قاله الليث في نعت الوعل أنه شبه الزمعة تكون في الشاء محال ".
(٢) .
وتغافل عما ورد في الترجمة نفسها من قوله: " قال أبو ليلى: هي عُصْمَة في إحدى يديه من فوق الرُّسغ إلى نصف كراعه " ثم أردفه بشاهد من قول الاعشي: فأرتك كفا في الخضا * ب معصما ملء الجباره.
وذكره الرأيين يسد باب التحامل في وجه الازهري.
وأعجب من هذا كله فعلته في ترجمعة (سمع) فقد زعم أن الليث قال: " تقول العرب: سمعت أذني زيدا يفعل كذا، أي: أبصرته بعيني يفعل ذاك "، فعقب عليه بقوله: " قلت: لا أدري من أين جاء الليث بهذا الحرف، ليس من مذاهب العرب أن يقول الرجل: سمعت أذني بعني ابصرت عيني، وهو عندي كلام فاسد، ولا آمن أن يكون مما ولده أهل البدع والاهواء، وكأنه من كلام الجهمية " (٣) .
وجاء ابن منظور على عادته فنقل ذلك عنه من دون تحفظ.
إذا استطاع الازهري أن يثير الدخان حول " العين " ويكدر الهواء من حوله حينا من الدهر فلن يستطيع دخانه أن يثبت أبدا فسيتبد أمام الواقع الناصع، والحقيقة المجلوة، وقد أتيح لكتاب " العين " أن يبقي، وأن يستعصي على ما أراد له الازهري وأمثاله، وأن تتداوله أقلام النساخ على تعاقب العصور شاهدا على جحود أبناء العربية لكتابها الاول كتاب " العين ".
وهذا هو النص الذي شوهه الازهري، أو جاءه مشوها ولم يتحر فيه الصواب، وهو مما اتفقت فيه نسخ العين الموجودة.
_________
(١) انظر مادة " زمع " في التهذيب.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر مادة " سمع " في " التهذيب ".
[*]
1 / 22
قال الخليل في ترجمة (سمع): " وتقول: سَمِعتْ أذني زيدًا يقول كذا وكذا، أي: سَمِعتُه، كما تقول: أَبَصَرْت عيني زيدًا يفعل كذا وكذا، أي: أَبْصَرْتُ بعيني زيدا " (١) .
فأين هذا مما خلط فيه الازهري وحرف وصحف، وهو كلام سليم لا غبار عليه، غير أن ما فعله الازهري هنا لقليل من كثير مما تعرض له العين من الازهري ومن حذا حذوه، وهو قليل من كثير مما ورط الازهري نفسه فيه من تحامل على الخليل، والغض من شأن عمله اللغوي الكبير من وراء حجاب سماه الليث أو ابن المظفر.
على أن كثير مما كان ينسبه الازهري إلى الليث كان ابن فارس ينسبه إلى الخليل، ومن ذلك أن الازهري قال: " وقال الليث: العسن: نجع العلف والرِّعْيِ في الدّوابِّ " (٢) وقال ابن فارس: " قال الخليل: العَسَنُ: نُجُوعُ العلف والرِّعْيِ في الدواب " (٣) .
وإن كل ما كان ينسبه الازهري إلى الليث كان أبو علي القالي ينسبه في " بارعه " إلى الخليل.
من ذلك: (١) ما جاء في التهذيب في ترجمة (ضغط): " قال الليث ": " الضغط عصر شئ إلى شئ، والضِّغاطُ: تَضاغُط الناس في الزحام ونحو ذلك " (٤) فقد جاء في البارع قوله: " وقال الخليل: الضغط: عصر شئ إلى شئ، والضِّغاطُ: تَضاغُط الناس في الزحام ونحوه " (٥) .
_________
(١) العين، باب العين والسين والميم معهما، (سمع) .
(٢) التهذيب ٢ / ١٠١.
(٣) المقاييس ٤ / ٣١٦.
(٤) التهذيب ٨ / ٣.
(٥) البارع ص ٢٥٧.
[*]
1 / 23
(٢) وما جاء في التهذيب في ترجمة (غضن)، قال: وقال الليث: الغضن والغضون: مكاسر الجلد في الجبين) (١) .
وجاء في البارع: " وقال الخليل: الغَضْنُ والغُضُون مكاسر جلدِ الجبين " (٢) (٣) وما جاء في التهذيب في ترجمة (غضف): " قال الليث: الغَضَف: شجر بالهند كهيئة النخل سواء من أسفله إلى أعلاه [له] سعفٌ أخضر مغش عليه.
ونواه مقشر بدون لحاء " (٣) .
فقد جاء في البارع هكذا: " وقال الخليل: الغضف بفتع الغين والضاد شجر بالهند كهيئة النخل سواء من أسفله إلى أعلاه [له] سعف مغش عليه، ونواه مقشر بدون لحاء " (٤) وكان الدكتور عبد الله درويش قد فطن لهذا حين قال: " نرى أن الازهري في تهذيبه، حينما لم تسعفه الامور بما يرى به الخليل، كما فعل بابن دريد وغيره رأي أن يتحاشي أن يترجم للخليل حتى لا يتعرض لذكر العين تحت اسمه بالمرة [كذا] وعند ما نرى في مقدمته ذكر الخليل فإنما كان ذلك عرضا عند الكلام على اخرين كتلاميده مثلا.
وترى قبل أن نعرض للسبب الرئيسي لتجنب الازهري ذكر الخليل أن نذكر أن تعضب الازهري لم يكن فقط ضد [كذا] كتاب العين أو ابن دريد الذي رأى أن العين تأليف الخليل بل تعداه هذا إلى كل من ألف في المعجم من قبله " (٥) .
_________
(١) التهذيب ٨ / ١٠.
(٢) البارع ص ٢٥٥.
(٣) التهذيب ٨ / ٩٧.
(٤) البارع ص ٢٦٠ (٥) المعاجم العربية ص ٥٦.
[*]
1 / 24