كل ما حدث أنها حين لاح عليها وكأنها ترفع رأسها مفيقة، لم يضع الجندي الفرصة الذهبية فرفع صوته يقول للزبون المرتبك المحرج: خد راحتك قوي يا عبادة بيه ... الآنسة سناء زميلتنا ومنا وعلينا، خد راحتك قوي قوي ... دي مش غريبة ... دي معانا.
ورغم أن المقطع الأخير رن في أذنها رنينا مزعجا غريبا، إلا أنها لم تشأ أن تنكص وقررت أن تظل منهمكة، وعادت مرة أخرى إلى الدفتر الكبير الذي كانت تسجل فيه، أو على وجه أصح تدعي التسجيل.
وكأنما انزاح عن كاهل الزبون عبء من جديد، فقد أخرج علبة سجائره وقدم للجندي واحدة، بل عزم عليه بالعلبة كلها، ثم قال: ما دام المسألة كده يبقى نتكلم بصراحة ... والصراحة أنتم لازم تتوصوا بنا شوية ... أنا ما أقدرش أدفع خمسين جنيه عالتصريح.
وبينما كان قلب سناء يدق أكثر من خمسين دقة متقاربة متتالية كأنها دقة واحدة تفتت إلى دقات، ومضى الجندي يقول: ما دام صراحة بصراحة، نتكلم احنا كمان بصراحة ... يا عبادة بيه أنت نسيت أن الخمسين اللي بناخدهم بتكسب من وراهم سعادتك ألف وأكثر. - بيتهيأ لك، لو تعرف اللي فيها ما تقولشي كده ... أنت فاكر إن الحكاية تصريح وبس؟ مش عارف في المراقبة لازم برضه على الأقل خمسين وخمسين زيهم واللا ميه في الجمرك؟ ما أنت عارف كل حاجة ... إيه الداعي تخليني أتكلم. - ما أنت كمان يا عبادة بيه ما فيش داعي أقول لك ... أنت بتقول عليهم خمسين إنما أحلف لك بإيه الواحد منا ما بينوبه خمسة يمكن واللا ستة. - بينوبك خمسة! أمال الباقي بيروح فين؟ - يا سعادة البيه احنا هنا في المكتب أربعة غير الباشكاتب، شوف كل واحد ينوبه كام، ولازم يروح للناس اللي في المصلحة كام، وبتوع الوزارة كام، إن كان علي أنا أحلف لك بإيه إني يمكن ما باطلع بحاجة، وشرفي ورحمة أمي أنا مجرد واسطة خير.
ولسبب ما بدا أن «عبادة بيه» الزبون لم يهمه من كل إجابة الجندي إلا نقطة واحدة رسمت الدهشة على ملامحه أول الأمر، ثم جعلته يلقي على سناء نظرة خاطفة ويطمئن إلى انهماكها في العمل قبل أن يميل على الجندي عبر المكتب ليهمس له بصوت ملؤه الدهشة وغير قليل من الاستنكار: ودي رخره بتاخد معاكم؟
ورفع الجندي صوته عن عمد وهو يكاد يقهقه قائلا: أمال يا بيه، هو يصح نبقى زملاء في مكتب واحد وحاجة زي دي ما نقاسمش بعض فيها؟ ده أنا إن مكانش لي خير في زميلي ما يصحش واحد زي سعادتك يعبرني أو يثق في، أمال يا سعادة البيه ... كلنا بناخد أنا وزملائي الثلاثة كلنا والباشكاتب.
وكان يقول الجملة الأخيرة وهو يدور بصوته العالي في كل اتجاه، وكأنما ليشهد السقف والجدران والمكاتب الخالية على ما يقول، بينما يسدد بصره الذي لا يطرف إلى سناء. •••
فجأة اكتشفت سناء أنها غارقة إلى قمة رأسها في هوة كأنما حفرت داخلها في لمح البصر، ومضت بسرعة مجنونة تتسع وتعمق وتحتويها، كانت لأول مرة في حياتها تواجه بموقف حاد عاجل يتطلب منها تصرفا حادا عاجلا، وهي لا قدرة لديها على القيام بأي تصرف، أو حتى النطق، مجرد النطق بكلمة، لم تكن تتصور أبدا أنها ستنقلب هكذا - دون أن تحس - من متفرجة محبة للاستطلاع على موقف، إلى مشتركة لقمة رأسها فيه وأن يكون الجندي العبيط في نظرها هو فاعل هذا ومدبره، كيف استطاع ساذج مثله أن يقلب الحديث الدائر بينه وبين «الزبون»، الحديث المفروض أنها تجهله تماما وأن يتم خلف ظهرها ودون علمها، إلى حديث عام يرفع فيه صوته ويسمعها وكأنه في ندوة، وكأنها الطرف الثالث في «الصفقة» ... بل كاد لولا بقية من حياء أن يطلب منها أن تساهم برأيها فيما تجري عليه المساومة.
بقية من حياء تثبت أنها لم تكن موجودة أصلا، إذ ما لبثت بعد وقفة التقط فيها أنفاسه ومن السيجارة أشعل سيجارة، وبينما «الزبون» يهم بفتح فمه للرد إذا بالجندي يشير إليه مقاطعا مصوبا نظراته إلى حيث سناء رافعا صوته بحيث خرجت كلماته واضحة مفهومة لا تقبل اللمس: والله إيه رأيك يا آنسة سناء؟ أنا بذمتك وشرفك ببالغ؟ مش يدوب الواحد منا بيتلايمله من الخمسين اللي بناخدهم ع التصريح يدوبك على ورقة بخمسة؟! كده ولا لأ يا سناء؟ كده ولا لأ؟
حشدت سناء نفسها بكل قواها لترد بكل ما تملك من قدرة على الغضب، بكل ما استدعته إلى وعيها من ألفاظ السباب، بكل طاقتها على الانفعال، بوجهها الأسمر الذي من احتقانه كاد يسود، بعينيها اللتين جحظتا إلى أمام، بالارتجافة الشاملة التي اكتسحتها وأرعشت حتى المكتب الذي تستند إليه، ولكن كلمة ما لم تخرج من فمها.
Page inconnue