الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
عود على بدء
عود على بدء
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
الفصل الأول
قالت امرأتى ونحن ندنو بالسيارة من طنطا: «بعد زيارة السيد البدوى، مل بنا إلى بيت الشيخة صباح لنسلم عليها.»
قلت: «لا صباح ولا مساء. الوقت ضيق ...».
قالت: «أرجو، لأجل خاطرى ...».
قلت: «يا امرأة، ألا تتقين الله فى هذا العبد الصالح الذى سخره الله لخدمتك وخدمة بنيك»؟
قالت متهكمة، مستضحكة: «أنت عبد صالح»؟
قلت: «من حسن الحظ أنه لن تنصب امرأة لنا الميزان يوم الحساب. على كل حال، نحن الان بعد العصر، وما زال علينا - على أنا - أن نقطع مائة كيلو وزيادة قبل أن نبلغ القاهرة، وأخشى أن يتحلل بى التعب إذا أدركنا الليل قبل أن أفرغ من الطريق، أم ترى تعبى راحة لك؟ ثم إنك قد سلمت عليها منذ أربعة أيام ليس إلا، فما حاجتك إلى سلام جديد؟ أهو زاد تتزودينه للطريق»؟
قالت، وكأنها تحلم: «لست أشبع من النظر إلى حسن وجهها».
وقد صدقت.
فقد كانت الشيخة صباح، على الرغم من «التمشيخ» غيداء، حسناء، مبتلة، ورطبة حلوة، يجرى ماء الشباب فى محياها من نضرة النعمة، ولو طبع وجهها على «جنيه» لزانته وأغلته، وكان شعرها، الفاحم السبط، والورد الذى تتضرخ به وجنتاها من آيات صنع الله، تبارك وتعالى من خلاق عظيم، أما عينها النجلاء الرقيقة الجفن «الجنية» الانسان فأنقذ من أشعة «إكس» إلى حنايا الصدور وطوايا القلوب.
وقلت: «إذا كنت تشعرين أنك لن تطيقى الحياة إلا إذا حملتك إلى ذلك البيت الضيق لأختنق ساعة بالبخور المنطلق من المجامر حتى تتفضل فتبرز لك، وتمن عليك بإنبائك - وأنا من الشاهدين - أن «أمامك سفرا ...».
فصاحت بى مقاطعة: «اسكت، وحذار أن تذكرها بغير الخير».
فكست، وما حيلتى؟ •••
ورفع السجف، ودخلت علينا الشيخة صباح مسترسلة الأعطاف، ناعمة، غير متثنية على لينها، كأنها ملكة. وكانت ترتدى ثوبا أبيض رقيقا من الكتان، وتغطى رأسها بشف ينسدل على جانبي وجهها إلى كتفيها وصدرها الناهد، ويحجب جيدها الأتلع ويدور على ذقنها إلى قريب من ثغرها الدقيق الرفاف الشفتين الذى ما خلق إلا للقبلات الحرار، لا لما يلهج به، وأستغفر الله..
وقبلت زوجتى، ومدت إلى يدا هممت أن أبوسها بطنا وظهرا، لولا هذه الزوجة التى لا تزال تظلمنى بسوء ظنها.
ولما دارت القهوة. نظرت إلى وقالت: «أرنى كفيك ... ابسطهما».
ولمستهما لمسا خفيفا ثم أرسلتهما وأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها وحدقت فى دون أن تطرف وقالت: «ستعطى ما لم تطلب، وتؤتى ما لا يباع ولا يشترى، وتسلبه فى اليوم نفسه ...».
فرفعت عينى إلى السماء - أو إلى السقف - ولمحت زوجتى وقد أخذ كتفاها يهتزان من الضحك المكتوم.
ومضت الشيخة صباح فى كهانتها غير عابئة بنا: «... وسينضى عنك ثوب الرجولة ... إلى حين يا صاحبى».
ونحت وجهها عنى.
وقالت وهى تودعنا: «أحسبنى لم أخاطب منك سوى أذنيك، فإنى أحس أن قلبك بعيد ...».
فأكدت لها أنه «ما زال فى موضعه، تحت الضلع العاشر، أم تراه الخامس عشر؟ معذرة، فلست أعرف عدد هذه الضلوع».
فجذبتنى امرأتى، من ذراعى، ثم دفعتنى خارجا، وسمعتها تقول للشيخة صباح: «إنه يمزح ... فلا تغضبى عليه».
فقرضت أسنانى، ولم أقل شيئا.
الفصل الثاني
ولما صرنا فى البيت، وجلسنا إلى المائدة نتعشى، قال أحد الشقيين - ولدى ولا فخر: «هل تعلمين يا ماما أنك عدت أصبى وأجمل؟ ومع ذلك لم تغيبى سوى أيام أربعة».
قلت: «لا عجب. فقد استراحت من وجع الرأس الذى تورثانها».
فضحك الشقى الأكبر، وعاد الأصغر يقول: «صحيح يا ماما - رجعت بنت عشرين».
فقلت: «فى مثلك سنك وتنافق، وتداهن، وتتملق، فكيف إذا دخلت مداخل الرجال»؟
فألقت إلى نظرة تنطوى على نذير أعرفه بالتجربة، فلئن لم أستدرك ليحيقن بى ما أكره من ائتمارها مع هذين اللعينين، فقلت: «وهل رأيتها أسنت وكبرت، وشابت، وشيخت حتى تقول إنها ارتدت بنت عشرين؟ ومتى كانت إلا بنت عشرين أو أقل ... رفافة الحسن..». «ولو ...».
فبلعت ريقى، وبلعت معه لقمة بلا مضغ.
وعاد الأصغر يسأل - فإنه ثرثارة مشهور: «قولى لى يا ماما. ماذا تصنعين إذا رددت بنت عشر»؟
قالت بسرعة: «أذهب ألعب معكما».
قال: «وبابا..؟ ماذا يصنع»؟
قالت، وهزت كتفيها: «يصنع ما بدا له.. مالى أنا»؟
قال: «وتظلين زوجته»؟
قالت، وعينها على: «أظل زوجة هذا الذى تصطك ركبتاه من الكبر»؟
ولم يكن عندى لهذا الطعن القبيح المفاجئ، جواب حاضر. وعلى أنها لم تمهلنى فمضت تقول: «بل كنت أنتظر حتى أبلغ وأرشد، ثم أزف إلى فتى نجيب بارع عليه طلاوة، وله مال، وفى خلقه دماثة، وفى نفسه طيب وخير».
فقلت: «حسبك! والله يسامحك، وما أظن بك إلا أنك ستعذبين فى جهنم الحمراء عذابا غليظا طويلا يما تجحدين من نعمة سيدك وتاج رأسك ...».
وسكنت الثورة، وقرت الفورة، وجمعت الخادمة ما على الأرض من المقذوفات المرتجلة المصنوعة من لباب الخبز الطرى على هيئة الكرات الصغيرة. وهى خادمة «فلكية» تغنيني عن مرصد، فترينى نجوم السماء طرا في الظهر الأحمر. ورثتها عن أمى. لأنها - أى الخادمة - آنقذتها من بين أخفاف الابل فى طريق «منى» قبل عهد السيارات. وكانت أمى رحمها الله قد استصحبتها فى حجها الأول لتقوم على خدمتها. ولعلها آنست منها القدرة على الشيل والحط. وكانت - أى أمى - وهنانة لا عهد لها بالجمال ولا قدرة على احتمال المخض من سيرها فدار رأسها فتدحرجت وهوت إلى الأرض. فلولا أن نطت الخادمة ورفعتها لقضى عليها فحفظت لها هذا الجميل، وأبت أن تسرحها بعد ذلك، وأوصتنى بها خيرا، وهكذا ورثتها عنها.
والإرث يباع، أو يرهن، أو يوهب أو يبدد. ولكن الدول، كما تعلم، آجمعت - لمكيدتى - على تحريم الرق. فلا سبيل إلى بيع هذه الخادمة أو رهنها أو وهبها. ثم إنها لا تساوى ملء أذنها نخالة. ومن المستحيل تبديدها لانها هائلة الأنحاء جدا. والعمر- كل العمر - أقصر من أن يتسع لهذا الجهد. وعسير جدا إضاعتها لأنها تعرف الطريق إلى البيت. ولعله كل ما تعرفه. وقد خطر لى أن أتخلص منها، كما تتخلص الناس من قطة مزعجة لم يبق فيها خير، فيضعونها فى غرارة ويحملونها إلى مكان سحيق، وهناك يطلقونها أو يدلقونها، فتضل الطريق ولا تعود. ولكن أين الغرارة التى تسعها - أعنى الخادمة - وأين الكتف التى تقوى على حملها؟ فهى قعيدة البيت ولا حيلة لى فى ذلك.
وشر ما فيها، إخلاصها، ومن العجائب أن تنقلب المحمدة مذمة، والمزية منقصة، والفضيلة رذيلة. ولكنها الدنيا وأنت سيد العارفين. وكل ما فيها اعتبارى، كما لا أحتاج أن أبين لك. قمت مرة برحلة مع صديق لى، فأضافنا رجل كريم، سيد ماجد. ففرحنا وزهينا. فإن مثله يفخر المرء بأن يكون - أى المرء - ضيفا عليه. وكان يسبق كل رغبة لنا باقتراحها وتحقيقها. ويعنى براحتنا وسرورنا، عناية لم تترك لنا رأيا أو إرادة أو شعورا حتى بحرية التفكير. وكانت مبالغته فى تحرى مرضاتنا، عن كرم وإحساس مرهف بالواجب، لا عن ثقل نفس، أو رغبة فى التظاهر. وكنا على يقين من هذا. ولكنا مع ذلك ضقنا ذرعا بهذا الكرم. وما كدنا نرحل حتى تشهدنا كأنا كنا سجناء. وما زلنا نضحك كلما تذكرنا كيف ظلمنا هذا الرجل الكريم وغمطنا حقه وجحدنا فضله.
وأعود إلى هذه الخادمة المخلصة الأمينة فأقول إنى أغلط أحيانا فأناديها وأطلب أن تجيئنى بشىء، فتجيئنى بخلافه. ولا تغلط مرة واحدة فتجىء بما أريد.
أقول: «هاتى الكبريت».
وليس فى لفظ الكبريت ولا فى حروفه ما يمكن أن يلتبس «بالجبن الرومى». وهى ليست بالصماء فإن سمعها كسمع القطة، وأنا خفيض الصوت ولكنى آتوخى معها أن أزعق وأصيح، حتى ليبح صوتى، ويوجعنى حلقى، وأمرض يوما أو يومين ومع ذلك لا تكاد تسمعنى أطلب الكبريت حتى تقول: «حاضر» وتعمد إلى ملاءة سوداء تلفها على نفسها - فإنها حيية - وتخرج فتشترى لى جبنا قد يكون روميا غير مزيف أو مقلد، ولكنه لم يخطر لى على بال، ولا كانت لى رغبة فيه.
وأراها مقبلة على تحمل على كفيها صينية عليها طبق فيه الجبن الرومى وشوكة وسكينة وفوطة ولقمة - فإنها تدرك من تلقاء نفسها وبغير حاجة إلى تلقين أن الجبن لا يؤكل وحده فلابد من خبز معه، وما دام سيدها سيأكل، وقد اشتهت نفسه الجبن الرومى فهل تتركه يوسخ يده؟ معاذ الله، وهذا هو تفسير الشوكة والسكينة.
وأنظر إلى هذا الذى على يديها فأتميز من الغيظ. وأكاد أطق وأنفلق، ولكنى ألم نفسى بجهد، وأهز رأسى، وأروح أتعجب لقدرة ربى على خلق كل هذه الأصناف من الناس. هذه امرأة لها كل ما لى - تقريبا - من الأعضاء. وليس ينقصها شىء. وهى تتكلم العامية التى نتكلمها ولا أعرف لها لغة غيرها. ومع ذلك لكل لفظ فى هذه اللغة معنى عندها غير معناه عندنا. فالكبريت معناه الجبن الرومى. والكتاب معناه طاحونة البن. والكلب معناه «الخيط وإلابرة». والكمون معناه السجاير إلخ.. حتى لقد خطر لى أن الألفاظ التي تبدأ بالكاف هى التى انفردت عندها بهذا الحال المقلوب. وأنا أحصى هذه الألفاظ - إيثارا للراحة - وآثبت معانيها إلى جانبها ليتسنى لى أن أخاطبها بلغتها فأقول لها مثلا: «خذى اشترى لى كمونا» ويكون مرادى السجاير. أو: «هاتى كلبا وخيطى هذا الزرار» وإذا مر بالشارع الذى يصلح طواحين البن قلت: «خذى الكتاب فأصلحيه عنده» أو: «اشترى لنا كرنبا» أى بترولا ... إلخ إلخ ولكنى أخشى أن تتطور اللغة عندها وتكتسب الألفاظ كل بضعة أيام معانى جديدة فيذهب تعبى سدى.
وآه إذا مرضت ... تلازمنى ولا تبرح كرسيها إلى جانب سريرى، وليتها تسكت ولكنها لا تكف عن الكلام والدعاء والتنهد وضرب الكف بالكف. ثم ليت هذا كان كل ما تصنع فإنها تفتأ تجسنى، وتلفنى، وتدس اللحاف تحتى هنا، وههنا، وتسوى لى المخدة، وترفع رأسى وتحطها، وتستخبرنى عن حالى ومبلغ سوئه، حتى يكاد عقلى يطير. وما دمت مفطوما عن طعام أهل البيت وملتزما الحمية الموصوفة فهى صائمة، لا كصيام المسلمين من عباد الله، بل كصيام غاندى إلا عن قطرات من الماء كحسو الطائر، لبل الريق.
وربما تعجبت لها وتساءلت: «أترى أمى لم تكن أمى، بل تبنتنى، وهذه هى أمى الحقيقية؟ وإذا لم يكن ذاك - وأرجو ألا يكون - فهل الأمومة عندها قوية إلى هذا الحد؟ ولكأنى بها تنظر إلى ضخامة جسمها، وذهابه طولا وعرضا، وضالة جسمى وهزاله فتحنو على، وترأمنى».
وأقول قد برمت بهذا العطف «الفاحش»: «ما كان ضر أمى لو نسيت أن توصينى بها قبل موتها»؟
ويجىء الطبيب، وهو يعرفها ويطيب له أن يعابثها، فيهول عليها بما أصابنى من برد أو غيره، فتروح تبكى وتندبنى، قبل الأوان سامحها الله! وينال الطبيب جزاءه أيضا. فتأخذ بتلابيبه ولا تدعه يبرح غرفتى إلا بحيلة يحتالها. ولولا ذلك لسجنته معى حتى أشفى. وكثيرا ما يقول لها: «يا ستى الحاجة الشفاء من الله، ولست إلا واسطة خير». فلا تقتنع ولا تطلق سراحه.
وأقول لامرأتى: «هاتى لى كل ما أمر الطبيب باجتنابه من الأكل».
فتسأل عن السبب فأقول: «إن هذه الحاجة لا تقتنع بأنى شفيت إلا إذا أكلت ما يأكل الناس. ولن تعفينى من عطفها ما لم أفعل. فاصنعى معروفا وأطعينى وأمرى إلى الله. وسأموت على التحقيق وسيكون دمى في عنقها ولكن ما حيلتى»؟
فتضحك الزوجة وتقول: «لا تغالط. إنما تريد أن تأكل وتخالف أمر الطبيب».
فأقسم بكل يمين أعرفها. ولكن من يصدق؟
حتى أنا، ينتهى الأمر بأن يساورنى الشك، أحيانا، ولى العذر .... •••
وقالت امرأتى تخاطب أصغر الشقيين: «لقد أذكرنى سؤالك حكاية سمعتها، أو قرأتها، وأنا صغيرة. قالوا إن ملكا واسع السلطان، أسن ولم يرزق ولدا، وكان تقيا صالحا فدعا الله أن يرده شابا. ونام فهتف به هاتف أن قم فكل من شجرة التفاح، فإن عليها ثمرة فى غير أوانها. وكان له بستانى هرم هم يتوكأ على العصا، وكان يجوس خلال البستان، فبلغ الشجرة ونظر فإذا ثمرة ناضجة تتدلى فتعجب، ومد يده فقطفها، وخطر له أن يهديها إلى الملك، غير أنه راجع نفسه، واستقل الهدية وإن كانت نادرة، وقال لنفسه إن تفاحة واحدة ولو كانت فى غير أوانها، لا تستحق أن ترفع إلى ملك، وليس يضيرنى أن أكلها، فلن يفتقدها أحد وهذا غير أوان التفاح، ثم إنى جوعان فما طعمت فى يومى شيئا. فأهوى عليها بأسنانه حتى أتى عليها، وعاد إلى كوخه فنام. وجاء الملك بعد قليل، فلم يجد تفاحة، ولا إيذانا بتفاحة، فلم يستغرب، وقال ما كان لى أن أتوقع غير ذلك، إن هى إلا أضغاث أحلام. وكر راجعا إلى قصره.
وأقبل ابن البستان على الكوخ ليوقظ أباه، فألفى فى فراشه فتى منظرانيا فتعجب وتساءل من عساه يكون؟ وأيقظه وراح يسأله من يكون؟ وماذا جاء به؟ وماذا يصنع فى كوخ أبيه؟ فقال: «أنا أبوك ... ألا تعرفنى»؟ قال: «أبى؟ وكيف يمكن ان تكونه وأنت أصغر منى وأصبى»؟.
وأمسكت. وجلسنا صامتين ننتظر البقية. فضحكت وقالت: «نسيت بقية الحكاية».
فصاح بها الشقيان محتجين: «لا، لا، لا، يا ماما ... هذا لا يجوز ...».
قالت: «فليتمها بابا».
قلت: «كيف يمكن أن أفعل وأنا ما سمعتها إلا الساعة»؟
قالت، وهى تنهض عن المائدة وترفع أطباقا: «أليست دعواك أنك واسع الخيال؟ تخيل إذن، ولا تخيب أمل ولديك ...».
فنهضت مثلها، ودنوت منها، وغافلتها، وقرصتها، فلولا لطف الله لتهاوت الأطباق قطعا متناثرة..
وكانت ساعة! ثم لاحت لى فرصة، ففررت إلى غرفتى، وأوصدت بابها.
الفصل الثالث
فكأنما أوصدته دون عالمى كله..
وكنت قد أشعلت سيجارة، واستلقيت على جنبى معتمدا بكوعى على المخدة، ومسندا رأسى إلى كفى، وذهبت أفكر فى أمر هذه الزوجة الصالحة التى لا تفتأ تغرى ولدينا بالمعابثة وتشاركهما فيها. وحدثت نفسى أنهما ولدان صغيران غريران، وإن كانا عفريتين، وأنها هى ليست إلا امرأة، والمرأة فيما تصفها الحكمة المأثورة أو الشائعة على الأقل، ينقصها العقل والدين. ولأنا خليق، بفضل السن، والتجربة، والخيال، وسعة الحيلة، والقدرة على الابتكار، أن أقهر ثلاثتهم فى هذا المعترك، وإنى لأعلم أن الكثرة تغلب الشجاعة، وأعرف أن هؤلاء الثلاثة لا تنقصهم الشجاعة، ولكنى أعرف أيضا أن شجاعتهم هذه إن هى إلا ثمرة تدليلى لهم، وطول أناتى وحلمى معهم. وإنما يتعفرتون، ويتشيطنون، ويركبون رؤوسهم بالعبث، لأنى أستملح ذلك وأحبه لهم وأوثر تفكيههم بما يطيب به عيشهم، ويجمل الحياة والدنيا فى عيونهم، وقد أوهمهم طول مساناتى لهم، وفرط ترفقى بهم، أنهم يستطيعون أن يبذونى ويسبقونى فى هذه الحلبة، فيحسن أن أريهم «بعض» النجوم فى الظهر الأحمر ... أى نعم، أدب هين آؤدبهم إياه، يزجرهم زجرا كافيا عن طمع مسرف يطمعونه فى حلمى.
وغلبنى النعاس، وأنا أحدث نفسى بهذا. ونمت ملء جفونى على هذه النية الطيبة السارة بإذن الله.
وكان النوم عميقا هنيئا لا حلم فيه فاستوفيت حظى منه كاملا لا ينقص دقيقه واحدة، ثم استيقظت على نور الصبح، فتعجبت لهذه البلجة من أين جاءت، وأنا قد غلقت الشبابيك والباب قبل أن اوى إلى الفراش؟ وفركت عينى لأستثبت. ولكن الضوء الساطع كان يحوجنى إلى تغميض عينى، والمداناة بين جفونهما. على أنى ما لبثت أن فتحت عينى جدا، فقد رأيت امرأة فى مئزر أبيض، تنحى ستائر عن شباك - كاباب - عريض لا عهد لى به. فغضضت البصر وأدرت وجهى إلى الحائط، وفى ظنى أن هذا حلم يتراءى لى. ومن أين بالله يمكن أن تجىء المرأة ذات المئزر الأبيض؟ ومن أين تدخل والباب موصد ومفتاحه فيه - أو لابد أن يكون فيه فما رفعته منه؟ وأنى لى هذه الستائر الرقاق الموشاة بمثل صور الطير، وليس فى بيتي من الأستار إلا كل غليظ النسج قاتم اللون؟ وما هذا الشباك العريض كالباب؟ بل هو باب، وغرفتى ذات شباكين ولا باب فيها إلا ما أوصدت.
إنه حلم على التحقيق، فلننعم به ما دام. وألفيتنى أدعو الله فى سرى أن يجعل المرأة ذات المئزر خودا منظرانية، فإنه ما دمنا نحلم ولا نرى حقا فلا أقل من أن نحلم بخير.
وسرعان ما استجاب الله دعائى، فليته يفعل ذلك فى اليقظة - يقظتى آنا، كما لا أحتاج أن أقول فإنه - سبحانه - لا ينام - فاستدارت، فإذا هى من البيض الحسان والحواريات المسمورات، حلوة رقراقة ناعمة، ووضيئة قسيمة، مستغنية بجمالها عن كل زينة، فتبسمت لها، وقد رف لها قلبى، وهى مقبلة على، تهفو كالنسيم، ولا تكاد تمس الأرض، فما كنت أسمع وقع قدميها وهى تمشى إلى، وعلى ثغرها النضيد إبتسامة ما أحلاها وأعذبها! فلماذا يا ترى نحرم مثل هذا فى عالم الحقيقة، ونخايل به فى أحلامنا، وأشفقت - وأنا أرنو إليها مغتبطا بدنوها منى شيئا فشيئا، متطلعا إلا حلاوات سأتذوقها مها، ولذات سأفوز بها من قربها - أقول آشفقت أن يكون مصور الحلم قد جعل لها قدمين على هيئة السمك أو ذنبه، وخفت أن تنقلب الغرفة بحيرة والسرير زورقا، وتذهب تسبح بنت الماء هذه، وتطالعنى من هنا وههنا وتحاورنى، فأحاول أن أدركها، فيضطرب الزورق فى الماء وأغرق فما أحسن السباحة، أو أبتل على الأقل.
وصوبت عينى إلى الأرض فاطمأنت نفسى. فما زلنا فى الغرفة. وإن للفتاة لقدمين دقيقتين جميلتين، وإن ساقيها لممشوقتان.
واتكأت على السرير براحتيها، ومالت، وصار محياها فوق وجهى، وبينهما شبران، أو أقل، فليتها تختصر المسافة أو تختزلها أو تمحوها! وقالت بأعذب صوت صافح أذنى: «صباح الخير يا بابا..» فحيرنى قولها «يا بابا»، أهو تدليل لى أو مفاكهة؟ إن كان هذا فأنا خليق أن أسر، أم هي إشارة إلى ما بيننا من فرق السن؟ إن تكن الأخرى فهى ليست من حسن الذوق على الريق. وخطر لى أنى جدير - على الحالين - أن أسر بأن أصبح على هذا الوجة الحسن، وراقتنى، وأنا أنظر إليها - بل أحدق فيها - نقرتان عند الشدقين حفرهما الابتسام، فافتررت لها كما تفتر وقلت لها أمازحها مثل مزاحها، وإنها لأولى بذلك من الحاجة! «صباح الخير يا ماما ...».
وما كدت أفعل، حتى وجمت، ووضعت يدى على فمى فما كان هذا بصوتى ولا هو يشبهه، وإن صوتى لأجش، جهير، وفيه برجمة، وغلظ، وكثيرا ما عابتنى به امرأتى وزعمته صلبا شديدا، مبالغة منها على عادتها، عندما تمزح. وقد قالت فى صفته مرة إنه «ضوضاء». أما هذا الذى سمعته من نفسى حين حييتها فصوت ناعم دقيق مع ارتفاع، كأصوات الصبيان قبل أن يبلغوا الحلم، أو أصوات البنات، فماذا جرى ؟ هل أصاب حلقى شىء؟
وتحسست رقبتي، وبلعت ريقى لأستوثق، فلم أشعر أن بى شيئا.
ورأت الفتاة سهوم وجهى، وشرود نظراتى، فأراحت كفها على كتفى وسآلتنى: «مالك؟ ألست بخير هذا الصباح»؟
فتنبهت. ووقع فى نفسى ما فى صوتها من الحنو. وأسرعت فقلت: «نعم بخير. شكرا لك».
وارتعت ثانية لما سمعت هذا الصوت الجديد الناعم، وأحسب أن وجهى امتقع فقد حنت على، وراحت تمسحه لى بكفها الرخصة، وتجسه، وكاد طيب لمسها يذهلنى عن تعجبى لصوتى وإنكارى له.
وسمعتها تقول: «كلا. لا شىء بك. وسأجيئك بطعامك فتهيأ له»، وألقت إلى ابتسامة وانصرفت خفيفة كمر النسيم.
وجلست على السرير وقلت لنفسى: «هذه خلوة يحسن أن أقضيها في جلاء هذا الأمر»، ورفعت يدى إلى رأسى أسوى شعرى وأسرحه بأصابعى، وإذا بيدى تقف وعينى تشخص، فإن شعرى قليل خفيف، على طوله، وقد استوى بياضه وسواده أما هذا الذى تخللته بأصابعى فكثير مجتمع مسترسل إلى القفا، وهوت يدى إلى خدى من الدهشة، فإذا الصفحة ملساء ناعمة أسيلة، وبضة طرية لا أثر فيها لشعر نابت يحتاج إلى الموسى لحلقه. فأدنيت أصابعى فى حذر وإشفاق من شفتى العليا فكان ما خفت أن يكون، ولم أجد شيئا. وزاد عجبى أن أحسست فى هذه الشفة انقلابا يسيرا واسترخاء. فدفعت الغطاء وانتفضت أريد الوثوب إلي الأرض لانظر فى المرآة وأتبين ما حل بى، ولكن الغطاء لم يكد يطرح وينحسر حتى جمدت مكانى. فقد ألفيتنى فى ملابس الصبيان - سراويل قصير لا ساق له، وقميص مقور الجيب بغير كم، والجرم كله جرم حدث، لا جرم الرجل الذى أعرف أنى هو - أو أنى كنته - ودليت ساقى من فوق السرير فلم تبلغا الأرض، فجعلت أهزهما وأتأمل بضاضة بشرتهما، وأتعجب أين ذهب الجسم الذى كنت فيه؟ وكيف دسست فى هذا الإهاب الجديد؟ واشتقت أن أسمع صوتى فرحت أتكلم بصوت خفيض مخافة أن يدخل على داخل فيستقل عقلى. واشتهيت أن أرى وجهى وصورتى فى مرآة، فإنى أرى معظم بدنى، ولا أرى وجهى وطولى وعرضى، ولكنى خفت أن يباغتنى أحد وأنا أتأمل نفسى فى المرآة وأدور امامها، فقلت أنتظر حتى أغتسل أو أغير ثيابى. فلابد أن لى ثيابا أخرى وعسى أن تكون فى هذه الخزانة.
واستثقلت هذا الحلم، وضاق صدرى بالتحول الذى تحولته فيه، وإذا طال الحلم فستتراخى السنون وتتعاقب قبل أن أبلغ مبالغ الرجال مرة أخرى، ثم ضحكت، فإن الأحلام تبدو لرائيها كالدهر طولا فيما يحس، ولكنها لا تستغرق أكثر من ثوان أو دقائق، وفاء بى هذا الخاطر إلى حد من السكينة والرضا، فقلت إنها على كل حال رؤيا سينسخ الإصباح كل ما فيها من صور، ولا منطق للأحلام، ولاضابط، ولا ايين تجرى عليه فإنما هى خيالات تتمثل، وأضغاث كسمادير السكر، وليس بمستغرب فى حلم أن يرتد المرء حدثا ابن عشر - ترى كم بلغت؟ - ووالله لقد نسيت كيف كنت إذ أنا طفل، فلعل ما أنا فيه يجدد لى الذكرى ويحيى ما غمض، وينشر ما انطوى.
ولمحت الباب يفتح فاستحييت أن ترانى هذه الفتاة المليحة عارى الساقين، فآسرعت فرفعت رجلى إلى السرير وتغطيت بالملاءة وأسندت رأسى إلى شباك السرير.
وكانت تحمل صينية كبيرة عليها أطباق شتى مغطاة وفنجان وإبريق وفوطة. فوضعتها على منضدة قريبا من الشباك أو الباب على الأصح ثم انثنت إلى وقالت: «ألا تزال فى سريرك؟ ما هذا الكسل؟ تعال».
وحنت على، وطرحت الملاءة عنى، وراحت تدلك لى جسمى من فوق. فأغمضت عينى مستحليا ذلك منها، ولكنها هوت بكفيها إلى الفخذين فدفعت يدها وتغطيت وصحت بها، وقد أنسانى الحياء ما أنكر من صوتى: «كله إلا هذا»!
قالت متعجبة: «ماذا جرى لك اليوم؟ ألست أفعل هذا كل يوم تقريبا»؟
كل يوم..؟ إن هذا الحلم أطول مما أعرف! فما أغربه من حلم مقتضب يبدأ من نصفه؟ وهل ترى اسمى فيه بقى كما أعرفه أو تغير هذا أيضا؟ وهل ترانى أجرؤ على الاستفسار؟
أم ستتاح لى فرصة فأعرفه بلا سؤال؟
وسمعتها تقول: «مالك لا تعجب؟ إنك اليوم متغير».
فقلت فى سرى: «لو عرفت لعذرتنى». ثم لها: «لاحاجة بى إلى التدليك . ثم إنه غير لائق».
فاستضحكت ثم قالت: «غير لائق؟ هذا جديد ... هذا ممتع».
قلت: «ممتع أو غير ممتع، سيان. لا أريده والسلام».
فهزت رأسها وقالت: «إنك لطفل غريب. لا ينقضى منك عجبى، طيب. قم إلى طعامك».
فسألتها: «ألا أغتسل أولا»؟
قالت: «طبعا. تعال».
وتقدمتنى إلى باب لم أفطن إليه من قبل، يفتح على حمام، ورأيتها تسبقنى إليه فناديتها فخرجت إلى فما أسرع ما اندفعت داخلا وأغلقت الباب ورائى.
ورأيت فى الحمام مرآة فوق الحوض، إلا أنها عالية لا ترينى إلا وجهى وصدرى. ولم يخطئ ظنى. فقد كان الوجه صابحا والشعر شعر حدث، ولكنه لم يعجبنى، فقد كان - أى وجهى - كأنه منتفخ الصفحتين، وكانت الشفتان شديدتى الحمرة وعلياهما منقلبة قليلا قليلا كما ظننت، حيث ينبت الشارب، على أني حمدت للذى صورنى هذه الصورة آنه لم يجعلنى أشرم.
ونظرت بعد ذلك إلى ألوان الطعام ثم إليها وسألتها: «ألا تشاركيننى»؟
فابتسمت، وشكرتنى وقالت إنه طعامى وحدى.
فقلت: «كل هذا لى؟ أتعنين أنك تتوقعين أن أحشو معدتى وأكظها بكل هذا؟ إذن سأمرض بلا شك».
قالت: «كلام فارغ، إنك أكول مبطان، أو تحسب أنى لا أعرف ماذا تلتهم فى نهارك بين الوجبات من شكولاته، وفول سودانى، وحمص وغير ذلك؟ كل وأنت ساكت، ولا تتظاهر بهذه الزهادة، فلولا شفقتى عليك لأخبرت آمك».
قلت فى سرى: «ولى أم أيضا.. ترى كيف هى»؟ ثم للفتاة: «ولكن.. زبدة وجبن وبيض مقلو مع اللحم المتمر، وقشدة، وعسل، ولبن وشاى، وهذا. ما هذا؟ آه خبز مكسر على السمن. فماذا تظنينى بالله؟ غولا.. ألا تعرفين أن «الغازات» تسود عيشى؟ فكيف آكل هذا وآمن فورتها وسورتها»؟
ونسيت وأنا أقول هذا أن الذى ردنى طفلا، وكر بى راجعا كل هذا الزمن لابد أن يكون قد عنى بأن يضع لى مكان معدتى العتيقة، معدة جديدة شابة. فما يعقل أن يكون هذا قد فاته، وإلا صار ما صنعه بى تخليطا لا يستقيم معه الأمر.
وقالت الفتاة: ألا ليت أحدا يناديها باسمها فأعرفه فقد أحتاج إليه،ثم ليتها تدعونى باسمى لأعرف من أنا؟: «ما هذا الكلام الذى تقول؟ إنه أشبه بالهذيان. سم بالله وكل».
فأطعت. وهل كان لى معدى عن الصبر؟ وجعلت فى أول الأمر أتناول بحذر وتقية، وآكل على مهل وبحساب، وأمضغ مضغا طويلا مستأنئا فيه، ثم أحسست وأنا ألوك أن رغبتي تشتد، وشهوتى تقوى، فعكفت على الطعام عكوف المنهوم الرغيب الذى لا تنتهى نفسه ولا تمتلئ عينه، وما هى إلا لحظة حتى كنت قد قششت كل ما أمامى. ثم اضطجعت وربت على بطنى وحدثت نفسى أن أملى لم يخب فيمن صنع بي هذا، فليتنى أعرف حيلة أستبقى بها هذه المعدة لما بعد اليقظة.
وتذكرت قول ابن الرومى: «ذى معدة ثعلبها لاحس
وتارة أرنبها ضاغب
تعلوه حمى شره نافض
لكن حمى هضمه صالب»
وتمنيت، وقد آتانى هذه المعدة الفتية، أن لو كان آتانى أيضا عقل حدث. وأحسبه نسى أن يغير لى نفسى كما غير لى جسمى، على أنى ما أظن إلا أنه لو كان فعل لما فطنت إلى أنى تغيرت.
وسمعت فتاتنا تقول: «هنيئا مريئا يا بابا».
قلت؟ «شكرا».
ووددت لو نسيت «بابا» وذكرت اسمى..
وخطر لى أن خادمتنا الحاجة لعلها صغرت مثلى!
الفصل الرابع
وخرجت فى الشباك العريض - أو الباب - بعد أن أعطيت ثيابا أخرى أرتديها - إلى شرفة رحيبة تصلح للعب وتتسع لفنون منه، وتطل على بستان زهر وثمر، تخترقه طرق ممهدة وبعضها مفروش بدقاق الحصى المصفر، وفى أرجائها المترامية ظلال من الحرور، وأكنان من القر، وبين الأفنان فواكه شتى، رأيت فمى يتحلب عليها فيتلمظ لسانى وشفتاى، وإن كنت ناهضا عن المائدة الساعة.
واشتهيت، وأنا واقف أجيل عينى فى هذه الحديقة، أن تكون بين أصابعى سيجارة وأمامى فنجان من القهوة، فأترشف وأدخن وأنعم، وأنى لى ذلك إلا بحيلة أحتالها؟
واتكأت على حافة الشرفة وذهبت أفكر فى أمرى، وتساءلت: «ترى ماذا صنع الله بإهابى الذى كنت فيه؟ بالجسم الذى كان لى»؟ وقلت فى جواب ذلك: إنى أحسبه ما زال مطروحا على سريره. وفزعت اذ خطر لى أنهم لعلهم وجدوه فى الصباح لا حياة فيه ولا حراك به - بعد أن خرجت منه ونضوته عنى - وما يدرينى أنهم حينئذ لا يعدونه ميتا فيدفن؟ إن هذه تكون إحدى المصائب الكبر، لأنه يقضى على أن أظل فى هذا الإهاب الصبيانى وينتسخ كل أمل فى إصلاح هذا الحال المقلوب.
وجرى ببالى أن لعل هذا هو تناسخ الأرواح الذى سمعت أن البعض قالوا أو يقولون به. ولكن التناسخ لا يجرى على هذا النحو، ولا يكون - أو لا ينبغى آن يكون - بنقل نفس حية من جسم إلى جسم آخر، فيه هو أيضا حية تطرد منه، ويتطلب طردها إحلالها محل ثالثة تنفى هى كذلك إلى جسم رابع وهكذا وليس لهذا آخر يقف عنده وينتهى إليه، ومؤداه الفوضى العميمة. وما ظنك بحال عالم يسمى ناسه وهم هم، ثم يصبحون وهم غيرهم؟ ولا خير فى هذا لأنه لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل من آجسام. وإنما يحصل التناسخ بعد موت الجسم، وأنا لم أمت. أو من يدرى؟ لعلى مت، وانتقلت روحى أو نفسى إلى جسم هذا الصبى! ولكنى لم أولد معه، بل حللت فى بدنه فجأة فى بعض مراحل عمره، وليس هذا بجائز فيما أرى.
ونشف ريقى وأنا أفكر فى هذا ولا أهتدى. وتصببت عرقا. وحرك النسيم الأغصان فتنبهت إلى أن ههنا - تحت أنفى - شجرة عظيمة ذاهبة في الهواء، وفى وسعى بلا مشقة أن أتخطى الحافة إليها وأتدلى منها إلى الأرض، واستغربت أن يخطر لى خاطر هذا العبث الصبيانى، وماذا أصنع إذا لقيت من لا أعرف؟ وقد يبتدرنى بسؤال عن شىء أو أحد أو عن نفسي، أو يدخل معى فى حديث يتناول ما أجهل. كلا ... الخير أن أبقى حيث أنا، وأن أدع من شاء يصنع بى ما يشاء حتى أهتدى إلى نفسى.
وأقبلت الخادمة - أعنى الفتاة المليحة - مرة أخرى، فسألتها: «فى آى يوم نحن؟».
فابتسمت وهزت سبابتها فى وجهى وقالت: «تتباله؟ يا مكار».
فحدثت نفسى أنى لن أهتدى إلى شىء فى هذه الحياة الجديدة إذا ظل كل من ألقى يفترض أنى أعرف ما أجهل.
وقلت أستدرجها: «إنما أريد أن أستوثق».
قالت: «لا محل للشك. هو اليوم العظيم ولا كلام».
قلت: «بل شكى عظيم. ويخيل إلى أن هناك خطأ كبيرا».
قالت، وهزت رأسها: «آه، فهمت، ولك العذر إذا اختلج فى نفسك شك، فإنك ما زلت صغيرا، وصحيح أن اليوم قد يختلف فيكون السبت مرة، والجمعة مرة، ولكن التاريخ ثابت، وهو الذى عليه المعول».
فقلت لنفسى: «هذه فرصة فلأغتنمها»، ثم لها: «مهلا. أرجو أن تزيدي هذا إيضاحا، فإن الأمر مختلط على قليلا».
قالت: «حبا وكرامة. اليوم الجمعة، مثلا».
فلم يعجينى قولها «مثلا» لأنه يتركنى حيث كنت، حائرا لا أدرى، وضالا فقاطعتها سائلا: «مثلا أو هو يوم الجمعة فعلا؟ يجب أن يكون كل شىء واضحا بدقة».
قالت: «هو الجمعة فعلا».
فقلت فى نفسى: «إنى لا أستغرب أن يحيق بى هذا فى يوم جمعة، فالان آمنت بزعم العامة أن فى يوم الجمعة ساعة منحوسة، ولكنى نقلت هذه النقلة ليلا لا نهارا؟ وما الفرق؟ إن الجمعة تبدأ بالحساب القمرى من مغرب الخميس، فليلتها السوداء تبدأ حيث ينتهى نهار الخميس. وهى بالحساب الشمسى تبدأ بعد منتصف الليل، فهى الجمعة المنحوسة بنهارها وليلها على الحسابين جميعا.
وفاتنى وأنا أفكر فى هذا، بعض ما هى قائلة، فقرضت أسنانى من الغيظ، والسخط على نفسى، وقلت: «معذرة. ماذا كنت تقولين»؟
فزوت وجهها وتناولت كتفى وسألتنى: «ماذا جرى لك اليوم؟ واليوم على الخصوص؟ إنى خائفة ...».
فقلت مقاطعا: «على الخصوص؟ وما وجه هذا الخصوص»؟
فسألتنى، وهى مقطبة مضطربة: «أو نسيت هذا أيضا»؟
قلت، وأنا أتكلف السخر: «وما فضله على الأيام»؟
قالت، وضربت كفا بكف: «فضله؟ عيد ميلادك تتكلم عنه بهذه اللهجة»؟
ففهمت - هذا على الأقل - وقلت: «آه! تعنين «يوم» ميلادى الجديد»؟
قالت: «أيوه عيد ميلادك ... أعنى يوم عيد ميلادك ... أوه لقد أعديتنى فأنا أتكلم مثلك».
قلت: «الصواب أنه «يوم» ميلادى الجديد ...».
قالت: «هو كذلك. يوم ميلادك الجديد».
قلت: «إنك غير فاهمة - ولا أنا أيضا فاهم إذا أردت الحقيقة ».
قالت: «ماذا»؟
قلت: «لا شىء.. لا شىء. ولن تفهمى إذا قلت. فدعى عنك هذا. وهاتى أنت ما عندك».
قالت: «مالك تتكلم كأنك شيخ كبير، وأنت ما جاوزت العاشرة»؟
فحدثت نفسى أن هذا شىء آخر جديد عرفناه، وقد بقى أن نعرف من أنا. ومن هؤلاء ممن أرى ومن لا أرى، وقلت لها: «هذا إحساسى ... أنى شيخ ... أنى كبير، وإن كنت أبدو كما ترين غلاما صغيرا».
قالت: «كيف تقول هذا والدهر كله، مستقبلك كله، لا يزال أمامك»؟
قلت: «إلى البارحة فقط كنت قد خلفت ورائى شبابى، وفى هذا الصباح، أو فى الليل فما أدرى، دار الزمن - بى وحدى على ما يظهر - دورة انقلب معها الحال فصار قدامى ما كان ورائى، ماذا كنت أنت أمس؟ طفلة؟ امرأة عجوزا؟ الحاجة زكية»؟
فلمست جبينى بكفها وسألتنى: هل أنت مريض؟
أتشعر بشىء على خلاف العادة»؟
فقلت - برغمى، وإن كنت أدرك أن هذا عبث لا طائل تحته، وقد يجر على ما لا أحمد: «نعم أشعر، وأعرف، يقينا، أن كل شىء على خلاف العادة، ولكنى لست مريضا. أوه. ما الفائدة؟ لن تفهمى. ولن تصدقى إذا فهمت ...».
وأوليتها ظهرى، واتجهت إلى الباب، فلما بلغته سألتها: «هل أظل محبوسا فى الغرفة والشرفة»؟
فأسرعت إلى، وقالت: «أنا متعجبة وخائفة، فليست هذه عادتك».
فلم أرحمها وقلت: «إن كل ما اعتدته تغير - كل شىء تغير - صدقينى وإن لم تفهمى، وقولى لى ماذا ينبغى أن أصنع الآن»؟
قالت: «أرجو إذا نزلت إلى ماما أن لا تتكلم هكذا فإنه لن يسرها، وفى يوم عيدك على الخصوص ... ليتنى أعرف ما بك»؟
فرق لها قلبى، وهممت أن أقبلها شكرا لها على عطفها، واندفعت يداى تريدان تطويقها، ولكنى صددت نفسى مستحييا. وإنى لغلام صغير فيما ترى، ولكن إحساسى إحساس رجل، وطاف برأسى أن هذه فرصة لى، إذا شئت اغتنمتها فلن تردنى عن عناقها وتقبيلها، فما تدرى إلا أنى طفل، ويغنم الرجل الذى انطوى عليه، والذى تنكر فى زى غلام، حلاوة القبلة ومتعتها. ولكنى صرفت نفسى عما يغريها بذلك ، وقلت لها فيما قلت: إنها قد تحنو على، ويعطفها ما يعطف المرأة على الصغار، وقد تحتمل ثقل تقبيلى لها وتعلقى بعنقها، لأنى صغير يلاطف، وقد يسر الأم الكامنة فى نفسها أن يلاعبها طفل، ولكنها لن تستحلى القبلة أو تستطيبها وتستمتع بها إلا من رجل، وما خير قبلة لا تبادلنيها؟ وأنفت أيضا أن أخدعها، وإن كان ما تحولت إليه ليس من فعلى أو تدبيرى.
وقلت لها: «ألا ترافقيننى إلى حيث ماما»؟ فابتسمت وقالت: «كأنك لا تعرف طريقك ... إن كل أحوالك اليوم غريبة. كلا. لا أستطيع مرافقتك. فإن عملى هنا، وهو كثير، كما تعلم».
فتوكلت على الله، فما بقيت لى حيلة إلا أن أقذف بنفسى على المجهول.
الفصل الخامس
ورأيت سلما عريضا درابزونه من الخشب المصقول، ودرجاته مكسوة ببساط، فقلت فى نفسى: إن هذا قصر على ما يظهر. فلماذا يا تري آثروا لأرض غرفتى العرى وقد كسوا السلم؟ وهبطت على مهل،درجة درجة، ونفسى تحدثنى أن أركب الدرابزون فأنزل عليه! وكنت لا أنفك أتلفت فى كل ناحية، ولكنى لم ألق أحدا، فاستوحشت من هذا السكون، ولما بلغت آخر درجة نظرت فإذا أمامى بهو أوسع من دهليز، وفيه مقاعد قليلة، وعلى جدرانه صور شمسية لم أستبعد أن تكون لبعض «أهلي» فصعدت طرفى إليها ولكنها كانت عالية، والبهو مظلم. وأبصرت بابا مواربا إلى يسارى فنظرت منه ولم تكن بى حاجة إلى انحناء فإن قامتى الجديدة ليست مديدة، وأنا لا أنظر من ثقب المفتاح بل من فرجة الباب الموارب، ومع ذلك انحنيت كأنى ما زلت أنا. وأنسيت أنى قد صرت هذا الذى لا أعرف من هو، فأخذت عينى سيدة كدت أهجم عليها حين وقع عليها بصرى فقد كانت هى زوجتى بعينها، ولكن شيئا فى جلستها، وهيئتها، وثيابها، ردنى وكبحنى عن الاندفاع، فقد كانت إحدى ساقيها ملتفة بالأخرى، ولا أعرف زوجتى تفعل ذلك، وكانت فى حجرها كرة من الخيط وفى يديها مسلتان تنسج بهما الخيط، مداولة، على مقدار، وامرأتى لا ترى أن تشتغل بهذا عن معابثتى . وهذه ثوبها معرج وبين خطوطه الملتوية ترابيع بيض وحمر، وامرأتى تؤثر ما لا وشى فيه ولا تخطيط. وهذه شعرها فينان مفروق من الوسط ومرسل إلى الخلف، وفى شعر امرأتى شىء من التحجن. وهى ترفعه فوق الجبين وتلويه، وتثبته بما يمسكه.
وخطر لى أن لعل هذه هى «ماما» وخفت أن لا تكون، وحرت ماذا أصنع وكيف أخاطبها - وأخيرا وبعد تردد، قلت الرأى أن أدبدب وأحدث صوتا وضجة، حتى إذا التفت وتكلمت رجوت أن أعرف من تكون، والله المعين ....
وخبطت الباب، ودبدبت، وتقلبت أيضا - على البساط الوثير - وما كان ظنى أن أحسن هذا، ولا كنت أنويه أو أفكر فيه، ولكنى دفعت إليه دفعا، وأغرتنى به وزينته لى فيما أظن طبيعة هذا الجسم الصبيانى. فلما عاد رأسى إلى مكانه، واستقرت قدماى مرة أخرى على البساط، رأيت هذه التى ما شككت أنها امرأتى تنظر إلى راضية مغتبطة - وسمعتها تقول: «آه. سونه. عيد سعيد يا سونه. تعال هات بوسه».
فقلت لنفسى وأنا أخطو إليها وأمط بوزى، وأدانى ما بين جفونى، وأهز ساعدى هزا قويا: «إن اسمك يا هذا «سونه» وقد عرفناه، أو عرفنا ما يكفى. وقد يكون الاسم الكامل «حسونه» أو «حسنى» أو «محسن» أو «حسن» أو «حسين» أو غير ذلك مما يمكن أن يتألف من الحاء والسين والنون. أو من يدرى؟ فقد لا تكون فيه حاء، ولكن شيئا خير من لا شيء. ولست أتوقع أن أتلقى كتبا بالبريد، وإن كان هذا محتملا فى يوم عيدى السعيد، ولكنى أحسبهم سيجمعون ما يرد من التهنئات - إذا ورد شىء - ويحملونه إلى جملة، فلا خوف إذن. وسنعرف ما نجهل متى آن الأوان».
ولما صرت على أشبار منها نططت فإذا أنا فى حجرها، وذراعاى حول عنقها وفمى على خدها، فقبلت رأسى، وما بين عينى، وخدى، وقرصت وجنتى قرص مداعبة لا قرص إيجاع (وقد أسلفت أنهما منتفختان قليلا، فهما يغريان بالقرص) ثم عاودنى الحياء فنهضت ومشيت مطرقا إلى مقعد كبير منجد، فانحططت عليه وذهبت أحرك ساقى وأحك بقدمي ما يليهما من البساط وذراعاى على المسندين.
و قالت، ويداها لا تكفان عن النسج: «سيتغدى عمك معنا وقد سبقته هديته إليك».
فهممت أن أشيل نفسى عن المقعد. فأشارت إلى تردنى عن ذلك وقالت: «لا تعجل - فى المساء بعد اكتمال الجمع، نفتح الهدايا ... تعلم الصبر ...».
وكان لابد أن أقول شيئا فسألتها: «ولكن ألا يمكن أن أعرف الهدية ما هى؟ باللسان فقط».
قالت: «إن الله مع الصابرين. كل شىء فى وقته».
فأسلمت أمرى إلى الله، وهززت رأسى وكتفى، وقمت فسألتنى: «إلى أين»؟
قلت: «سأتمشى فى الحديقة».
قالت: «لا توسخ ثيابك ... ليس فى هذا اليوم».
فقلت فى نفسى: «يا له من يوم»!
أتعرف ذلك الصندوق الذى يضعه بعضهم لبريده على بابه وفى أسفله رقعتان كتب على إحداهما «موجود» وعلى الأخرى «غير موجود» ولا تبدو واحدة إلا بحجب الأخرى؟ كان هذا حالى فيما أحس. فأنا تارة أفكر بعقلى القديم الذى كان لى فى صورتى السابقة، وأصدر فيما أعمل عن وحيه، ثم ينحى هذا العقل، أو يطرح فى زاوية أو ركن، أو يحجبه حاجب، ويظهر العقل الجديد الذى يلائم حال الطفولة التى رددت إليها، وهكذا دواليك.
وهذه السيدة التى رأيتها جالسة تنسج، بدت لى فى أول الأمر زوجة، فدار فى نفسى لها ما يدور فى نفس الرجل لامرأته، ثم إذا بشىء يحجب هذه الناحية من إدراكى، أو يغلق طاقة، ويفتح أخرى، فأرتد غلاما ينط ويلعب، ويرتمى على حجر السيدة، ويكون معها كما يكون الولد مع أمه، ويفرح بلعبة أو هدية، ولا يطيق الصبر على تركها إلى المساء.
ولم أكد أقول إنى خارج إلى الحديقة حتى عاد عقلى القديم موجودا. فرحت أفكر فى المخرج وأحاذر أن تبدو على الحيرة، وأتظاهر بأنى أتلكأ وأنا أجوب الحجرات، وأفتح بابا وأغلق بابا، حتى وفقنى الله. وكان الخدم كثيرين - رجالا ونساء - ولا عجب أن يكثروا فى بيت طويل عريض كهذا، ولكن العجب أن تطيق العيش فيه هذه السيدة المزدوجة الشخصية التى أراها تارة أما وتارة زوجة، وهى مستفردة فيه ولا أنيس ولا جليس من إنسان أو كلب، ولكن عجبى لم يطل، فإن الأوضاع كلها مقلوبة.
وانطلقت أفكر وأنا أتمشى فى الحديقة، وأعجب تارة بألوان الزهر علي أغصانه، وأنزع غلائله طورا وأفركها بأصابعى ولا أبالى جمالها ولا أرحم رقتها - أقول إنى ذهبت أفكر فى هذه الحداثة التى يقول الكبار - وأنا منهم - إنها أحلى وأسعد وأرغد أيام الحياة، ومع ذلك أرانى ناسيا كيف كنت إذ أنا صبى، وماذا بلغ من استمتاعى بذلك الرغد الذى نتحسر عليه، بل أنا قد قضيت معظم الساعة أو الساعتين اللتين عدت فيهما حدثا فى استثقال هذه الطفولة والضجر منها والتبرم بها. أم ترى ذاك لأنى لست طفلا صرفا؟
وهذا العم الذى سيشق الأرض ويخرج لى من جوفها، كالجنى، كيف هو يا ترى؟ قد عرفت الأم وأحسست لها فى قلبى رقة لأنها تشبه زوجتى (التى لا يخلو قلبى من الموجدة عليها لكثرة معابثتها لى وحضها الولدين الشقيين على كيدى) وبقى أن نعرف العم الذى لم يكن لنا فى حساب. أطويل هو أم قصير؟ وثقيل أم خفيف ظريف؟ ووددت لو أن أمي أرتنى هديته لأعرف ذوقه ورأيه فى ابن أخيه، من اختياره.
وإنى لأدفع حصاة برجلى، وإذا بصوت يقول: «هش ...» فالتفت إلي مصدره فإذا رجل فى سراويل إلى نصف الفخذ كالتى يلبسها لاعب الكرة أو المصارعون، وتكتها طويلة غليظة كحبل الشراع إلا أنها ملونة، وطرفاها يتدليان من عقدتهما إلى قريب من الركبة، وعلى صدره قميص أو قطعة منه، وفوق رأسه قبعة قديمة، وقدماه فى حذاءين باليين عليهما طوائف شتى من الاوحال جف بعضها وما زالت بقيتها طرية، فأدركت أنه البستانى أو بعض أعوانه، فما يقوم على خدمة هذه الحديقة الواسعة الحافلة بصنوف الزهر والشجر رجل واحد.
واقتربت منه فقال: «سمعت أن البك مشرفنا اليوم».
قلت: «البك»؟
قال: «البك عمك».
قلت: «آه».
قال مستفسرا، وفى عينيه التماع خبيث: «العادة يا سعادة؟ فلم أفهم، ولى العذر، وبدا لى أن خير ما أصنع هو أن أوافقه، وليكن ما شاء الله أن يكون، وهززت له رأسى أن «نعم» وتبسمت. فقال: «عال. قبل الظهر تكون الأمانة تحت السرير».
فشكرته ووددت لو كان معى مال لأنفخه منه بشىء، وتساءلت فى سرى: «أليس لى «اعتماد» مفتوح فى ميزانية هذا القصر أنفق منه كغيرى من الغلمان - مصروف لجيبى كما يسمونه»؟
ورأيته يتراجع فى حذر ويتوارى وراء جذع شجرة كالقطة أبصرت كلبا يدلف إليها فتلفت إلى حيث كانت عينه تنظر، فإذا الفتاة الخادمة، فلم أكترث لها وهممت أن أمضى فى طريقى، وخطر لى أن ليتها ترافقنى فإنها جميلة وضاءة المحيا، وخليق بالتنزه معها فى هذه الحديقة أن يفيد الرجل المضمر فى هذا الاهاب الصبيانى، متعة.
ولكنها لم ترافقنى بل دعتنى إليها بإشارة من كفها، فذهبت إليها أعدو فانحنت على وقالت بصوت كالهمس: «لقد رأتك ماما من الشباك واقفا مع «عم أحمد» الجناينى فكلفتنى أن أقول لك إنه لا يليق بك أن تحادث مثله».
فدهش شقى المستور وسألها بلسان الغلام: «وما عيبه؟ أليس من خلق الله مثلى ومثلك؟ ما هذه الغطرسة»؟
فباستنى خطفا كما يشرب الطائر، يحسو حسوة ويرفع منقاره - أو رأسه الصغير - ويتلفت كأنما يخاف عواقب الطمع أو مطاوعة النفس، فقلت فى سرى لابد أن تكون هذه الأيام التى استظرفتها، ثقيلة غليظة الكبد، ومتنطعة سخيفة الرأى.
وآحسب آن وجهى ارتسم عليه ما يضطرب به صدرى فقد قالت الفتاة: «إنما تخشى أن توسخ ثيابك فى يوم عيدك. ثم إن ماما هى ماما ويجب أن نطيعها».
فقلت: «لا تعتذرى عنها، وقولى لها إنى سأكلم وأخالط من أشاء.. بل قولى لها إنى سأتمرغ فى التراب، وأتقلب فى الوحل، وأجرح جلدى بالشوك وأمزقه. ولتفعل ما بدا لها».
وانكفأت عنها أعدو فى الحديقة، وتمنيت لو أن فى وسعى أن أسلخ هذا الجلد كله كما تسلخ الشاة. واستثقلت هذه الطفولة التى تحاط من كل ناحية بالسدود والحواجز، والعقل والموانع، كأنما لا يكفيها أن لها من طبيعتها حدودا، ولا يسمع فيها من يقضى عليه بها إلا «إياك» و«حاذر». وآليت لأؤدبن هذه الأم غير هذا الأدب.. أو تظننى طفلا حقيقيا؟ سنرى ونريها..
ودرت أبحث عن «عم أحمد» الجناينى وأستعجله ما وعد، فقد كبر فى ظنى أن يكون ما وعدنيه وسيلة لركوب العم المنتظر - البك. فقد صار لنا بيك من الأعمام - بشىء من العبث، وحدثت نفسى أن هذه الأم - إلى الآن - أولى، ولا مانع فيما أرجو من قسمة الأمر بينهما نصفين.
ولكنى لم أجد الرجل، فقد شق الأرض وغاب فيها، كما شقها وبرز منها ....
الفصل السادس
وأخيرا جاء العم. وتلقيت قبلاته، وقاك الله السوء!
وهو شىء كل ما فيه ثقيل، تنفسه حشرجة، وصوته ضوضأة، وضحكه قرقعة، وقبلته كمص الماء من كوز نصفان، وكرشه برج دبابة، وشعرات شاربيه فتلات حبل مقروضة، وعينه - والعياذ بالله - شفر متفتل، وجفن محمر لا هدب له، وماء يسيل، وحاجباه شعرهما رقيق من أخر وكثيف من قدم، وأذنه مسترخية من رأسها ومنكسرة على وجهها كأذن الكلب، ورأسه على شكل البيضة، وقد ذهب أكثر شعره، وبقيت له طرة شعراتها متفرقة صلبة كأنها الشوك.
وما كدت أراه حتى قلت: بل هو أولى بكل ما يهيئ له هذا الجناينى الطيب العم أحمد ... قواه الله ووفقه! وتمنيت أن يجيئنى بثعبانين أو ثلاثة، أدس منها اثنين فى كميه، أعنى عمى، وألف الثالث حول عنقه الغليظ المقبل إلى صدره المنتفخ.
وكان يأبى إلا أن يجلسنى على ركبته، ولا أكاد أفعل حتى تدفعنى كرشه وتدحرجنى، فيقهقه ويطخطخ، فيبح، ويسعل سعالا مشقوق الصوت، ويسيل لعابه على ذقنه، ويمسك جنبيه بيديه، كأنما يجد فيهما وخزا، ولا يخطر له أن يخرج منديلا يستر به هذا الفم الأفوه الذى كأنه باب كهف، وما فيه من لثة ذابلة، وأسنان مسودة، سفلاها خارجة من الحنك وعلياها متقاعسة.
وكنت شديد الشوق إلى تلقى ما وعدنى العم أحمد، والتلهف عليه، فأنا لا أستقر، ولا أسكن، ولا أزال أنفى من هذا العم الذى رميت به من حيث لا أحتسب. وأمى تدعونى بغمز العين أو إشارة اليد إلى المراضاة، فلا يزيدنى هذا إلا تقطبا، وجفوة وسوء خلق، وهو لا يفطن إلى ما بى منه أو لا يحفله. ولا يكف عن «ملاطفتى» وممازحتى، ممازحة الفيل للقط، كأنه موكل برياضتى على احتمال المكاره!
وبعد لأى ما استطعت أن أفر من هذه الغرفة. فأسرعت إلى غرفتى، وأطللت على الحديقة من الشرفة فلم أجد أحدا، وخفت إذا أنا بقيت هنا، أن يصعد العم إلى. فيفسد التدبير كله ويحبط، فعدت من حيث أتيت، وجعلت أمشى على أطراف أصابعى وفى مرجوى أن يكون قد غلبه النعاس فأنجو إلى حين، فإن مثله، فى مثل ضخامته، ينام ولو كان على ظهر فرس جامح.
وبلغت الباب. ولم يكن مفتوحا كل الفتح. فاستوقفنى ما سمعت. فبقيت حيث أنا أتسمع. فسمعت أمى تقول: «إنه عنيد مثل ...».
وسمعت عمى يقول: «قوليها ... مثل أبيه ... تماما. ولكن المسألة أننا جميعا، وأنا وأنت فى الطليعة، نخضع لسلطانه كأنه ملك ذو صولجان، حتى فى حياة أبيه، وأيام كان لا يزال رضيعا، كانت جباهنا تعنو لأصابعه الصغيرة التى يطبقها على شاربى ويشد هأ هأ هأ».
فقالت أمى وهى تتنهد: «تاللة ما كان أحلى هذه الأصابع الحمراء ... وأحسب انا قد دللناه وأفسدناه».
فقال: «من المسئول عن ذلك؟ هه؟ من الذى كان يغضى عن كل ما يفعل؟ من التى كانت إذا رأتنى أنهره وأزجره تدور من ورائى وتحمل إليه ملء سلة كبيرة من الحلوى والفواكه»؟
فصاحت به أمى: «أنت كنت تنهره؟ أنت؟ صحيح، ولكن بصوت رقيق، لين. كما يناغى ذكر الحمام أنثاه، وإذا رأيته يبكى زويت وجهك وعبست جاهدا لتخفى الدموع التى تترقرق فى عينك، ثم تحمله وتوسعه تقبيلا».
فاستغربت أن ينطوى هذا الفيل الضخم على كل هذه الرقة، ولكنى ما عرفته إلا اليوم فلى العذر واضحا، وماذا تقول العامة؟ من لا يعرفك فهو يجهلك، صدقوا والله ... وسرنى أن يكون فى هذه الكرش العظيمة شىء غير المعدة والأحشاء. وصارت المسألة عندى هى: هل أمضى فيما انتويت من معابثته بمعاونة عم أحمد الجناينى بما لا أعمل؟ وزهدني فى ذلك أن قلبه كبير، وأغرانى به طمعى الجديد فى حلمه وحبه. وخيل إلى وأنا بين هذه الدوافع والجواذب، كأنى مشدود إلى حصانين يجريان فى اتجاهين مختلفين، وأحسست كأن ساعة انقضت فى هذا التردد، وأشفقت أن يضيع الوقت سدى، فتفلت الفرصة وتذهب إلى غير رجعة، وتأدى إلى صوت هذا العم الفاضل الطيب يقول: «إنك تعلمين يا فيفى ما أنطوى عليه لك من زمان طويل ...» فقلت في سرى - وأذنى مع ذلك مرهفة للتسمع - آه لقد عرفنا اسمك يا ماما! لم يسعنى إلا أن أتعجب لأهل هذا البيت الرحيب الذى يتسع «للتكبير» إلي أقصى حد وأبعد مدى، لماذا يحتاجون أن يلجأوا إلى «التصغير» فيه؟ فأنا «سونه» والله أعلم بالأصل المستكثر على. وأمى «فيفى» ولست أستغرب أن يكون ما يدعى به الاخرون ممن رأيت ومن لم أر «توتر» و«لولو» و«توحه» و«كوكو» ... وتذكرت بيتا نزلت فيه ضيفا - قبل أن أصغر - مع ستة غيرى من الإخوان. وكان صاحبه ممن لا يحتاج ابن الرومى أن يتعجب لهم كيف أخطأهم الجسم، فأرقدنا فى حجرة كالهيكل، رص لنا فيها سبعة أسرة غير الخزانات والمناضد والكراسى، كانت تبدو لنا مع ذلك فارغة. وكان الواحد منا يستطيع أن ينام على سريره طولا أو عرضا كما يشاء من فرط سعته. وأصبحت فقصدت إلى الحمام فإذا هو يصلح أن يكون ميدانا للركض أو ساحة للرقص. ولما صرت فى الحوض خيل إلى أنه حوض سباحة، وأنى فيه سمكة من «البساريا» فى مجرى النيل العظيم، وأشفقت أن أغرق، وصحت أطلب النجدة، وتوقعت أن يجىء مضيفى بدلو عظيمة يلقى بها إلى، فأصعد فيها، أو يدلى لى حبلا أشد به وسطى ويرفعنى فأخرج إلى الشط. وقلت لمضيفى لما نجوت: «لم لا تؤجر هذا الحوض للأسطول البريطانى فيتخذه قاعدة له»؟ على أن هذا كان منى ظلما له، فما عدا الرجل أن شيد بيته وفصله على قده. فلا وجه للوم أو السخرية.
وهنا تجرى الأمور على نقيض ما ينبغى. فيصغرون الكبير حتى ليمسخون الرجل ذا الشاربين المفتولين واللحية الكثة التى يضنيه حلقها كل صباح، فيجعلون منه غلاما أمرد ....
وصرفنى عن الاسترسال فى هذه الخواطر كلام آخر سمعته كان له وقع اللطمة القوية، فقد كان العم يقول: «وما قولك فى أن نجعل هذا العيد مزدوجا؟ إنك تعلمين أنى أنا وأخى عليه رحمة الله أحببناك وتنافسنا عليك. وقد آثرته على واخترته دونى، فنزلت على حكمك، وكنت على حق. فإنه كان خيرا منى. ثم اختاره الله إلى جواره ... فأكرمتك ونزهتك عن الالحاح عليك بحبى لك. وتركت لك هذه المهلة الطويلة - سبع سنوات كاملة - وأحسب أن فى سبع سنوات من الترمل الكفاية. ثم إن سونه يحتاج إلى عنايتنا ورعايتنا وتعهدنا معا، وأنت وحدك لا تقدرين على شىء ...».
ولم أطق أن أسمع غير ذلك.. هذا العم الذى راجعت نفسى فى أمره وأقنعتها بأنه رجل طيب كبير القلب، لم تخطئ فراستى فيه أول ما وقعت عينى على دمامته المجسدة! وهو الان يراود أمى! بل زوجتى ... أى نعم زوجتى التى يموهها الحلم ويزورها، ويلقى فى حجرها صوفا تنسجه، ليوهمنى أنها غيرها وأنها أمى! فيا له - الرجل لا الحلم - من سفيه مستهتر، ومتهتك سادر لا يبالى أن يخطف زوجات الرجال وهم ينظرون - أو يسمعون.. وما أراه يريد أن يتزوجها إلا على مالها، فإنها تبدو ذات ثراء، بل هى كذلك بلا مراء. ويزعم الخبيث المحتال أنه إنما يفعل ذلك رقة على ولدها - الذى هو أنا فيما يتوهم وتتوهم معه - وليقوم حضرته بأمرى. بففف! ولم تبق عندى ذرة من الشك فيما صار أهلا له. وآليت لأكونن أبغض الناس إليه، وأثقلهم عليه، ولأوقدن له نارا تزغرد شعاليلها، ويسطع مريجها، ويضرب لظاها عليه مثل الخباء. وكلما تفرق عنها ما يسعرها، أو خبا شواظها، حششت لها حتى تعود ذات معمعة وقرقعة كضحكته الثقيلة، وحينئذ نرى أيهما يطيب له - الزواج أم الفرار؟
الفصل السابع
وانكفأت إلى غرفتى، وأوصدت بابها، وتذكرت أنى فعلت ذلك بارحة طلبا للنجاة من عبث الولدين - تري كيف هما الان؟ - وأمهما، فصرت إلى هذا الحال المقلوب - أنا الرجل الكبير ارتددت غلاما صغيرا، زوجتى انقلبت أما لى يخطبها لنفسه عم وقح لا يبالى أن لها بعلا متنكرا - بكرهه - فى هذا الاهاب الذى جمعت وضم بعضى إلى بعضى وحشرت فيه، والولدان الحبيبان على الرغم من العفرتة والشيطنة ماذا أصابهما يا ترى؟
وقطعت بضعة فراسخ فى هذه الغرفة الصغيرة، بين جيئة وذهوب، ثم انحططت على السرير من التعب والملل، وإذا بباب الشباك يفتح على مهل وبحذر، والعم أحمد الجناينى يدخل من الفرجة برأسه أولا، ورأى أن ليس معى غيرى فاطمأن ودخلت بقيته، فبادرته أسأله: «بماذا جئتنى»؟
قال: «بجماعة من النمل».
قلت: «نمل؟ وما خير النمل؟ ماذا أصنع به»؟
قال: «إن له لقرصا كلسع النار وكيها.. ثم إنه ما تطلب فى كل مرة».
قلت: «ألم يكن يسعك أن تأتى ببضعة قنافذ حديدة الشوك، أو بما هو خير - عقارب شائلة الاذناب، أو أفعوان خبيث، أو طائفة من الحيات»؟
فبهت الرجل، وتلعثم، ولم يعد يدرى ماذا يقول.
ورميت إليه كيس النمل وقلت: «خذ. خذ. لقد خيبت أملى».
فقال وهو يحاول أن يتألفنى من نفرتى: «يعز على أن أخيب لك أملا يا سيدى. ولكن هذا ما اعتدت أن تطلب دائما، على أنى أستطيع أن أجمع لك قليلا من الضفادع، إذا أمهلتنى ساعة أو نحوها».
فلوحت بيدى وقلت يائسا: «ضفادع ونمل؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ ألا تفهم؟ إن ههنا جريمة يوشك أن ترتكب، ولا يجدى فى منعها ضفدع أو نملة.. كلا. لا أقل من أفعوان كبير ... أو لعل العقارب تكفى. وعسى أن يكون أمرها أسهل».
فقال: «يا سيدى ماذا جرى لك؟ أى جريمة؟ هل أنت مريض»؟
وهم بالدنو منى وجسنى، فتراجعت وأشرت إليه أن خلك حيث أنت. وقلت بلهجة مرة: «هل أنا مريض؟ لا أسمع غير هذا السؤال كلما عجز الناس أن يفهموا عنى ... كلا لست مريضا. ولم أمرض قط، وليس فى نيتي أن آمرض إذا كان يسرك أن تعرف هذا. فاذهب وهات العقارب، وإلا فهذا آخر العهد بيننا ... وخذ هذا النمل معك، فما بى إليه حاجة، وما غناء نملة صغيرة يدوس الواحد منا ملايين منها ولا يحس أنه داس شيئا؟ أو خله هنا ... اتركه فقد ينفع الصغير من النمل فى الصغير من الأمور».
وذهب الرجل يبحث عن العقارب أو لا يبحث، فما عاد إلى فى نهاره، ولا رأيت وجهه إلا بعد العشاء لما ... ولكن هذا سيجىء فى أوانه فلا داعى لتقديمه.
وطال انتظارى، سنة أو سنتين، فيما أحس، وما مضت إلا دقائق إذا صدقت الساعة الموضوعة قريبا من السرير.
وضاق صدرى ففتحت الباب وخرجت إلى الردهة، فرأيت الفتاة المعهودة تهم بدخول غرفة أخرى فقلت: «سسس..».
فتنبهت وارتدت إلى وقالت بابتسام: «أليس لى اسم يا بابا»؟
قلت: «معذرة فقد نسيت».
قالت: «نسيت اسمى»؟
قلت: «نسيت أن أدعوك به». وأردت أن أعدل بها عن هذا فسألتها: «غرفة من هذه؟ أعنى لماذا تدخلينها الان»؟
قالت: «غريب. أنسيت أيضا أن عمك يستريح قليلا بعد الغداء».
قلت، وقد خطر لى خاطر: «كلا، لم أنس، ولكنى أريد أن أكلمك، فهل أستطيع أن آحدثك فى غرفة.. عمى»؟
قالت: «طبعا. تعال ...».
وتناولت ذراعى. فقلت لها وأنا أقاوم شدها: «اسبقينى وسألحق بك».
ففعلت، ودخلت الغرفة، وحملت كيس النمل ودسته فى جيبى.
ولما لحقت بها رأيتها تخرج من الخزانة منامة كبيرة تتسع لثور، وتطرحها على السرير وتضع على الأرض قريبا منه، صندلا وقبقابا، كبيرين كما لا أحتاج أن أقول. ولم أسألها لماذا هذان، فقد أدركت بذكائى، أن الصندل ليتبختر به فى الغرفة، والقبقاب ليدخل به الحمام. فيا له من تزيد!
وأردت أن أصرفها فقلت: «ألم تنسى شيئا»؟
قالت: «ماذا»؟
قلت: «إنه أكول، والجو حار، وسيظمأ، فأين الماء البارد»؟
قالت: «إنك تمزح».
قلت: «لا، أبدا. إنى جاد جدا».
قالت: «ما عليه إلا أن يدق الجرس فنحمل إليه ما يريد».
قلت: «ولماذا لا تعفين نفسك من رؤية وجهه الغليظ»؟
قالت: «أراك اليوم ساخطا عليه فهل أغضبك منه شىء؟» قلت: «كل شىء يسخطنى عليه». واندفعت فقلت: «لقد سمعته يغرى..! أمى بأن تتزوجه..».
قالت: «لا»؟ غير مصدقة.
قلت: «نعم، سمعته بأذنى هذه». وشددتها بأصبعين على سبيل التأكيد.
قالت: «وهل.. هل قبلت»؟
قلت : «أخشى».
قالت: «يا للمصيبة. بعد سيدى تتزوج هذا ...»؟
فقبلتها، فما كان يسعنى غير ذلك. ولكنها كانت قبلة شكر واغتباط، لا قبلة ... كلا وأقسم! وقلت لها: «لم يخب ظنى. أنت أجمل فتاة، وأطيب فتاة، وأشرف فتاة، رأيتها فى حياتى الطويلة (فتبسمت راضية ومستغربة) والان يجب أن نقصى هذا المحتال عن البيت، فإن أمى صغيرة ساذجة (فكادت الابتسامة تصبح ضحكا) فما قولك؟ لقد أطلعتك على السر، ووافقتنى على أنه رهيب، فلا ينبغى أن تخذلينى ...».
فقعدت على كرسى وقالت وهى تحدق فى وجهى: «لا أدرى.. إني فى حيرة ... أنظر إليك فأراك صغيرا، وأسمع منك مثل كلام الكبار».
وهزت رأسها، وطأطأته، فدنوت منها وأرحت يدى على كتفها وقلت: «آه! هذا سر آخر أشعر أن فى وسعى أن أأتمنك عليه، ولكنى أخشى أن لا تفهمى، أو لا تصدقى، أو تظنى أنى جننت».
فرفعت رأسها وزوت ما بين عينيها النجلاوين وقالت: «سر؟ أى سر؟ لقد كثرت الأسرار اليوم؟»
فنازعتنى نفسى أن أبيحها إياه، وأن أقول بشجو، وأطرح عن صدرى هذا العبء الثقيل وأشركها فى أمرى، لعلها تستطيع، ولكنى أنا خليق أن أستريح بعد البث، ولكنى كنت أشفق أن تظن بى الخبل، أو تعد الأمر كله هذيان غلام يجمع به خياله الطائش، فقلت: أخطو بحذر.
وسألتها: «هل تصدقين أنى لا أعرف من أنت ولا ما اسمك لأنى ما رأيتك إلا اليوم»؟
وما كدت أقول ذلك حتى عضضت شفتى، فقد أدركت - بعد الأوان - أنى بدأت من حيث كان ينبغى أن أنتهى، فلا عجب إذا كانت قد وثبت إلى قدميها، وتناولت كتفى وهزتنى بعنف وسألت: «إيه؟ لا تعرفنى؟ لم ترنى من قبل؟ ماذا أصابك اليوم؟ إنك من أول النهار حالك حال لم أعهده منك، فماذا جرى لك؟ قل لى ...».
فنحيت يديها عنى، وتحسست رقبتي التى كادت تنخلع وقلت: «آلم أقل لك؟ كلا! لا يمكن أن تفهمى أو تصدقى، فلأقصر فإنه أرشد. وخلنا فى عمى وآمى..» وضحكت «لم يكن ينقصنى إلا آم وعم يسقطان على من السماء، ويتم بهما ...».
ولم أتمها فقد صاحت بى: «ماذا تقول؟».
فانفجرت، وقد نفد صبرى، وصحت، كما تصيح: «أقول إنى لست هذا الغلام الذى تسمونه «سونه»، وما كنت أعرف أن هذا اسمه إلا بعد أن نادتنى به أمى ... وهى أيضا ليست أمى بل زوجتى ... قولى ما شئت وظنى بعقلى الظنون، فما عدت آبالى ولكنها الحقيقة، أيضا أن هذا العجل السمين الذى تظنونه عمى، ليس عمى، فما لى أعمام ...».
وأمسكت - اضطررت أن أمسك - فقد سقطت على الأرض مغشيا عليها! لم تقل شيئا، ولم تصرخ، بل هوت، كما يهوى الثوب، الفارغ، فاضطربت، وتلفت، وأشفقت أن أستنجد بأحد فتحدثهم بما سمعت، فيحملونى إلى مستشفى الامراض العقلية، ولمحت زجاجة كولونيا فخطفتها وصببت منها على وجهها، وعلى كفى وأنشقتها، وجعلت أضرب لها وجهها، حتى فتحت عينيها ثم جلست وقالت وهى تفرك عينيها: «ياله من حلم» وتنبهت إلى وجودى فسألتنى: «سونه، ماذا جرى لى»؟
قلت: «لا شىء. رأيتك تترنحين كالسكرى ثم تسقطين».
وحدثت نفسى أن خير ما أصنع هو أن أشجعها على الظن بأنها كانت تحلم، وأنها سمعت فى غيبوبة لا منى.
سألتنى: «هل كنت تقول لى شيئا»؟
قلت: «نعم، كنت أسر إليك ...».
فصاحب بى وكفها على جبينها: «لا، لا، لا، لا تفعل ... يكفى يكفى ...».
قلت: «ولكنك كنت موافقة على أن هذا الزواج لا يجوز ويجب أن يحال دونه»؟
قالت: «إيه؟ زواج»؟
قلت: «نعم. هل نسيت ما حدثتك به من أن عمى يريد أن يتزوج أمي»؟
قالت: «آه. صحيح.. وو ...».
قلت: «وكنا نتشاور فى الوسيلة لمنع ذلك، وإذا بك يغشى عليك».
قالت: «أهذا كل ما كان»؟
قلت: «كله».
فتنهدت، وقالت: «الحمد لله. ولكنه حلم لن أنساه. ما أفظعه»!
قلت: «ماذا رأيت فيه»؟
قالت، وهى تنهض إلى قدميها: «لا، لا، لا ... لا أستطيع. أووف يا حفيظ يارب»!
وسحبتنى معها وخرجت بى من الغرفة.
وهكذا ضاعت الفرصة، وعدت بالنمل مدسوسا فى جيبى كما جئت ورجعت إلى غرفتى، وعضنى الجوع، ولم أجد شيئا يؤكل. فاستلقيت علي السرير فأغفيت، ورأيت فيما يرى النائم انى صبى صغير من خشب، وأنى أرتدي ثيابا من ورق، وعلى رأسى طربوش أسمر من لباب الخبز، فأخوف ما أخاف النار والفيران. وبصرت بملعب على بابه رجل ينقر علي طبلة بعصوين ويدعو الناس أن يدخلوا، فتسللت من بين الأرجل، وإذا علي المسرح صبيان مثلى من خشب يرقصون، فما إن رأونى حتى كفوا عن الرقص وصاحوا جميعا: «هذا أخونا التائه قد رد إلينا». ودعونى إليهم فقفزت فإذا أنا على صلعة رئيس الجوقة التى تعزف، وقفزت مرة أخري فإذا أنا معهم، فأقبلوا على يحيوننى ويعانقوننى. ودخل علينا عملاق يشبه عمى، نهرنا وزجرنا عن العناق وساقنا أمامه. وإذا نحن فى المطبخ وإذا كبش عظيم يشوى على النار، وانطرح العملاق على كرسي ونفخ نفختين ثم قال: «النار تكاد تخبو وتهمد، وعشائى لم ينضج، فتعال أنت (وأشار إلى) لألقى بك علبها فتذكو».
فجعلت أتوسل إليه وأقول إنى يتيم ولا أريد أن أموت - فعطس فقلت: «يرحمك الله» ودنا منى أخ من خشب خيل لى أن فيه مشابه من أحد ولدي وهنأنى بالنجاة، وقال إن صاحبنا يعطس إذا رق قلبه وأدركه العطف وسمعت العملاق يصيح مرة أخرى: «ولكنى لن أتعشى إذا تركت النار تخبو، فتعال آنت». وأشار إلى الأخ الذى يشبه ابنى فبكى، وبكيت ثم رفعت رأسى وقلت: «كلا. إذا كان لابد من إلقاء أحدنا علي النار فأنا أولى». فعطس العملاق عطستين، فتبادلنا التهنئات، ونظر إلي وقال: «تعال أقبلك». فقفزت حتى صارت قدماى على لحيته، فضمنى إليه بأصبع، ثم حطنى على الأرض وقال: «كنت أرجو أن أنعم شيه ولكنه لم يبق لى مفر من أكله ملهوجا ... لا بأس لا بأس».
فأقبل بعضنا على بعض يعانقه ويهنئه. والعملاق يهبر ويلقى فى فمه ولا يلقى إلينا عظمة، فالتهبت جوعا وتلوت أمعائى، وذهبت عيناى فى رأسى واسترخيت فانحنى ظهرى، وصر، ورثيت لنفسى، وانهملت دموعى كالخيط المتصل، وأحاط بى إخوتى ينقرون على كتفى، ويسألوننى: «مالك تنتحب»؟ ويهزوننى فرفعت عينى إليهم فإذا أمى حانية على تسألني: «مالك يا سونه»؟
قلت: «جوعان..».
قالت: «الأكل حاضر يا حبيبى. قم».
الفصل الثامن
وكانت المائدة حافلة بما طاب من «الآكال والأشواب» التى كان ابن الرومى يحسد التجار على الفوز بمثلها. وأحسب أن ما أثقلت به إنما كان من أجل هذا العم المحتال. فما يعقل أن تجتزئ هذه الكرش العظيمة باليسير أو الرقيق أو «تلك التى مخبرها ناعم. تلك التى منظرها شاحب». ان لا يفتأ يكظ لى طبقى ويحضنى على الأكل، ويزين لى طيبه وخفته علي المعدة، وحسن ما يفيده من المتعة والصحة، كأنما يجد فى الوصف لذة كلذة الالتهام، أو كأنما هو يأكل بعينه وأذنه فضلا عن فمه - بجوارحه وحواسه جميعا - ولا يزال يبدئ ويعيد فى الثناء على الطباخ. وكان جالسا أمامى - أعنى عمى لا الطباخ - وزوجتى - أعنى أمى - بيننا إلى صدر المائدة فلم يفتنى ما كانا يتبادلان من لحظات مختلسة أو نظرات صريحة، فقلت فى نفسى: «يا خبيث، أو تحسب أنى أجهل أن التودد إلى الابن وسيلة إلى قلب الأم؟ وأن الثناء على حذق طباخها وسيلة أخرى؟ ولكنك تجهل أنى رجل فى زى غلام. وما أظن بك إلا أنك كنت حقيقا أن تجتوى هذا الطعام وترتد شهوتك عنه لو اطلعت على الحقيقة».
ولم تكن بى حاجة إلى ترغيبه وحضه. ولكنى كنت أتقزز عن الطعام، من سوء ما يصنع، فقد كان تلقامة، يعظم اللقمة ويلقى بها فى فمه كأنما يرميها فى كهف. وكان يأخذ اللحم بمقدم أسنانه، ويتمخخ العظم، ويتلمظ، ويتمطق، وتعلقت بشاربيه قطرات من الحساء. وانتشر بعض الفتات على ذقنه وصدره، حتى كرهت أن أنظر إليه، وصرت أتعجب لهذه المرأة ماذا أعجبها منه؟ ولكن النساء لغز، والذى يعرفهن معرفتهن لم يخلق بعد.
وكنت أحدث نفسى كلما وقعت عينى عليه أنه لا ينقصه من العملاق الذى روعنى فى منامى إلا أن تركب له فى عذاريه مخلاة من لحية، ولا ينقصه من الدواب إلا أن تملأ المخلاة شعيرا.
ونهضنا عن المائدة بعد أن انتقل ما كان عليها - أو معظمه - الى جوفه. وآن أن نتفرق لنستريح استعدادا للمساء والحفل الذى سيكون فيه. وكنت أتظاهر قبل ذلك بالفتور وثقل الجفون. فلما أخلى سبيلى ذهبت أثب صعدا إلى غرفته وأخرجت كيس النمل من جيبى، وحللته، وأفرغت معظمه فى ساقى المنامة وكميها، وأطلقت البقية بين المخدات وأغطيتها، وكررت بسرعة إلى غرفتى وقفزت إلى السرير، دون أن أخلع نعلى وتناومت.
ولم يكن هذا ما أبغى، ولكنه كان ما وسعنى. وما حيلتى وقد خذلنى الجناينى، ولم يجئنى، إلا بهذا النمل الذى لا خير فيه ولا غناء له؟ ولقد زعم أن قرصه كى، فعسى أن يصدق. وخامرنى الشك فى إمكان شعوره بدبيب النمل ولكعه جلده، فإنه سميك غليظ. ولكنى تمنيت على الله أن يحرمه النوم والراحة على الأقل، فيسوء خلقه، وترى هذه المسكينة المخدوعة، من شكاسته وجلافته وعسره، ما كان يحرص على ستره بحلاوة اللسان. والله قادر على أن يضع سره فى أضعف خلقه.
وآخذنى النوم وأنا أتعلق بالأمل فى النمل، وأتحول شيئا فشيئا إلى الاعتماد عليه والثقة به. وما أدرى أطال نومى أم قصر. ولكن الذى أدريه أنى استيقظت مذعورا على صرخات مجلجلة ودبدبة شديدة فى الردهة، وأصوات مختلفة ولجب عظيم. فأيقنت أن الله قد أجاب دعوة هذا الطفل الغرير البرىء الطاهر النفس. وترددت، هل آخرج أو أبقى؟ وزهدنى فى الخروج علمى أنى جنيت هذا وخوفى أن يفضحنى وجهى، ورغبنى فيه أن اختبائى شبهة كافية، وقرينة دالة. ولا يعقل أن أظل مستغرقا فى نومى - وإن كنت طفلا - على الرغم من هذه الزعقات الشديدة، والصرخات العالية، والهرج العظيم، والخبط والدب. واشتهيت أن أراه وهو ينط، ويتلوى، ويتعوج، ويتحرق ويشتم. وتصورت منظره وهو يفعل ذلك فضحكت. لم يبق محل للتردد والاحجام.
ولم أجد فى الردهة غير أمى والخدم من رجال ونساء. وكانوا جميعا يتلاغطون ويضوضون، ولا يحفلون أن أمى بينهم. فسألت عن الخبر وأنا أتكلف الجهامة، فالتفتت إلى أمئ، وأراحت يدها على رأسى وقالت بحنو: «مسكين.. تعال نم فى غرفة أخرفة أخرى بعيدة من هنا.. لا حول ولا قوة إلا بالله! ألا يستطيع الولد أن يستريح ساعة »؟
وهمت أن تمضى بى، فثبت قدمى. فما يجوز أن تفوتنى ثمرة مجهودى! وسألتها: «ولكن ما هى الحكاية؟».
قالت: «علمى علمك. كل ما أعرفه أن عمك خرج يصيح ويصرخ، ويضرب الأرض برجليه، وفى يده إحدى قطعتى المنامة. فلما خرجنا إليه أسرع فدخل وأقفل الباب وظل يصيح من خلفه ويسب ويلعن ... وقد سكن الان قليلا ... فعد إلى غرفتك أو تعال معى».
قلت: «كلا» ونحيت يدها «سأدخل عليه لأرى ماذا جرى له».
ودققت عليه الباب فصاح من ورائه: «لا يدخل أحد..».
قلت: «أنا سونه يا ... عمى».
فصرخ: «امش يا خنزير يا قليل الحياء».
قلت وأنا أغالب الضحك: «أقول لك أنا سونه».
قال: «آه! تقتل القتيل وتمشى فى جنازته. هيه؟ تحشو لى ثيابى نملا وتجئ تسأل عنى ... لتنعم بمنظر جلدى المشوى.. طيب يا ملعون والله لأؤدبنك».
فالتفت إلى أمى، وكانت قد تبعتنى لما سمعت صوته، وقلت: «هل سمعت؟ إنه يزعم أنى وضعت له نملا فى ثيابه. فمن أين أجىء بهذا النمل، ولا نمل فى البيت»؟
فجذبتنى أمى من ذراعى وقالت: «سخيف ... ثقيل.. تعال».
فطربت، وكدت أرقص، من الفرح، وهممت بأن أنط وأبوسها، ولكنى رددت نفسى مخافة أن ترتاب فيفسد التدبير.
ولما عاد كل امرئ من حيث جاء، وسكنت الضجة، دخلت الفتاة الحسناء التى كنت لا أزال أجهل اسمها، وأشارت إلى وسبقتنى إلى الشرفة، ثم قالت لى بصوت كالهمس: «فى المرة المقبلة أرجو أن تكون أكثر حرصا».
قلت: «ماذا تعنين»؟
ونسيت أنى كنت فى الصباح قد رجوت منها أن تكون فى حلفى على عمى.
قالت: «لا تحاول أن تكابر، فليست هذه بالمرة الأولى، ثم إنك قد تركت هذا الكيس». ورفعت به يدها لأراه.
فسألتها: «أين وجدته»؟ وأدركت أنى اعترفت.
قالت: «لمحته على السرير فأخذته».
قلت: «هل رآه»؟
قالت: «لا، كان هذا قبل دخوله لينام».
قلت: «إنه يتهمنى على كل حال» وهززت كتفى.
قالت: «نعم، ولكن الكيس دليل مادى يقدمه إلى ماما فتقتنع، أو تشك على الأقل، فلا ترميه بالتحامل عليك. أما الان ...».
ومطت شفتيها.
قلت : «هاته».
قالت: «ليعثروا به عندك؟ كلا.. سأحتفظ به».
قلت، وآنا أهز كتفى: «إنه كيس فارغ».
قالت: «لم يكن فارغا جدا لما وجدته. وقد تسأل عنه: من أين لك هذا؟ فتلجأ إلى الكذب. ولست أحب لك هذا».
قلت: «ألم أقل لك إنك أجمل فتاة وأطيب فتاة رأيتها»؟
فابتسمت، وشردت نظراتها، وقالت كأنما تناجى نفسها: «لا أدرى لماذا أحبك كل هذا الحب، وإن كنت شيطانا صغيرا».
فوددت أن أسآلها: هل تشيطنت عليها؟ ولكنى رأيت شرود لحظها، واستغراق خواطرها لها فعدلت. ومضت هى فى المناجاة فقالت: «غريب. فى الصباح تعجبت لاستحيائك أن أدلك لك جسمك - وآنا الان أتعجب لنفسى - آشتهى آن أبوسك وأستحى أن أفعل! لعلها عينك، فإن فى نظراتها لشيئا».
فهممت أن أكر إلى ما أفضيت به إليها فى الصباح. وخفت أن ترتاع كما ارتاعت، وألفيتنى أستطيب ما أجد من حنوها على وأنسها بى، ومراضاتها لى. وحدثت نفسى آن فى وسعى أن أحبها بذلك الجانب من نفسى المكنون فى ضمير الفؤاد، لا لعطفها، بل لذاتها، ولحسن وجهها واكتمال آنوثتها. ولكن ما الرأى فيما نكبت به من هذا المظهر الصبيانى؟ ولأخلق بها أن تسخر منى أو تسايرنى ضاحكة لاهية.
وردنى ذلك إلى التفكير فى أمرى، وأمر زوجتى وولدى، ماذا صنع الله بهم؟ ماذا قالوا وفعلوا حين أصبحوا فوجدوا سريرى خاليا؟ أو وجدوا جسمى ممدودأ عليه ولا حياة فيه ولا روح؟ أليس واجبى أن أبتغى وسيلة إليهم، وأن أبلغهم أنى ما زلت حيا أرزق، وإن كنت قد مسخت طفلا، ليطمئنوا؟ وإنى لأجهل فى أية رقعة من الأرض أنا. وللذى صيرني غلاما قادر على أن ينفينى من الأرض ويقذف بى إلى كوكب أخر. ولكن أرى الناس هنا كما عهدت. فأنا ما زلت على الارض، وهم يتكلمون لغتى، فأنا فى بلادى، فليس لقاء أهلى بممتنع. ولكن هبنى لقيتهم فهل يعقل أن يصدقوا أن الطفل الأمرد هو رجلهم الذى اختفى بقدرة قادر؟ أو مات؟ وهبنى اتخذت التليفون وسيلتى إلى إبلاغهم ما كان ألا يعذرون إذا ظنوا أن غلاما يتماجن عليهم فى محنتهم؟ ولكن ألا أن تنوب عنى هذه الفتاة الكريمة فى أداء هذا الواجب؟ وماذا يكون حكم الله إذا ذعرت مرة أخرى وأغمى عليها؟ لا بأس من التجربة علي كل حال. ولنمض على حذر. والله المعين.
وسألتها: «أليس هنا تليفون»؟
فكأنما لطمتها على وجهها.
ولما أفاقت من دهشتها قالت: «يخيل إلى أنك تريد أن تطير لى عقلى فهل سلفت منى إساءة إليك حتى تعاملنى هذه المعاملة»؟
فسألتها مستغربا: «لماذا؟ ماذا قلت مما يمكن ان يحمل على هذا المحمل»؟
قالت: «تسأل عن التليفون كأنك لا تعرف ... وفى الصباح تقول لى إنك لا تعرف اسمى، ولم ترنى من قبل و...».
قلت: «ألا تزالين تسيئين بى الظن، وتحسبين أنى لا أقول الحق»؟
قالت: «رجعنا إلى ماكنا فيه صبحا! (وتنهدت) الأمر لله (وكأنما تذكرت فقالت) هل تعنى أنك لا تعرف أن فى البيت تليفونا»؟
قلت بابتسامة مرة: «وأنى لى أن أعرف؟ ألم أقل لك ...»؟
قالت: «لم أر طفلا أعسر منك أو أصعب مراسا».
قلت: «حلمك ... كل ما أريد منك، ويطمعنى فيه حبك لى، هو أن تذهبى أنت إلى التليفون، فى غفلة من الرقباء، وتطلبى رقما سأكتبه لك، وتقولى لزوجتى أو أحد ولدى أو الحاجة، إنى ...».
ولم أتمها، فقد راحت تنفخ نفخا شديدا كأن فى جؤفها بركانا فائرا، ثم التفتت إلى والعبرات ترفض على خديها وقالت: «ألا ترحم ضعفى؟ ألا يعطفك على أنى محتاجة إلى عمل هنا؟ هل تريد أن أخرج من البيت»؟
وثنت رأسها ووضعت كفيها على وجهها وانتحبت. فكاد قلبى يتفطر. وأقبلت عليها أدعوها إلى السكينة، وألاطفها، وأقسم لها أنى لن أعود إلى ما تكره منى.
فقلت وهى تنحى الدمع عن خديها بأصبعها: «لست أكره منك شيئا، وأنت تعرف ذلك ولكن أخشى على عقلى من مثل هذا الكلام. فاصنع معروفا و..».
فلثمت جبينها، ومسحت لها دموعها ووعدتها أن أكف. كلا ... لا فائدة. وصدق من قال: «ماحك جلدك مثل ظفرك
فتول أنت جميع أمرك»
ولكن كيف؟ كيف؟ هذه هى المسألة..
الفصل التاسع
قضيت بقية النهار - ألا متى يصبح «ذاك» النهار؟ - فى سجن. ولست أعنى أنى حبست فى مكان، أو غلقت على أبواب، أو حيل بينى وبين الحركة والتنقل. كلا. فقد كنت أصعد وأهبط، وأدخل وأخرج، وألعب وأرتع وأنط، فى البيت والحديقة، كما أشاء بلا تقية أو حذر. ولكنى كنت وحدى لا رفيق لى، ولا ترب ألاعبه ولا شىء ألعب به. فاستوحشت وكانت أمى فى مخدعها أغلب الوقت. وما كان لى لذة فى مجالسة امرأة يخالط إحساسى بأنها أمى إحساس آخر بأنها زوجة. ولا كانت لى رغبة فى حديث هذا العم الذى نام، وشخر ونخر، بعد أن هزم جيش النمل، وكان الخدم مشغولين فى جناحهم بإعداد ما كلفوه للاحتفال «بمقدمى السعيد» أو عيد ميلادى كما يزعمون. وما جدوى الخدم، وأنا بى حاجة إلى من أبثه شجنى فيصدق ولا يرتاع أو يغشى عليه أو يفر منى، أو يحدق فى وجهى ويتفرس كأنما يحاول أن يرى أمارات الجنون التى يرجو أن ترتسم أو تبرز على صفحته، أو يجسنى لعلى محموم يهذى، أو يذهب يقهقه ويجاملنى فيسايرنى وفى ظنه أنى أتخيل ما أقول وأصف.
وكان أمرى يحيرنى، ويورثنى اضطرابا وقلقا شديدين، فإنه إن يكن هذا حلما فقد طال وثقل، والأحلام لاتطرد على هذا النحو المنتظم، والاغلب فيها أن تتغير مناظرها وصورها ومواقفها وسائر ما يتمثل فيها لرائيها بغير ضابط، وهذا الذى أنا فيه والذى أراه، يجرى على نسق الحياة الدنيا، ويسير الهوينى جدا، كتأتأة الطفل الذى يتعلم الخطو، ومتى بالله ينتهى حلم يأبى إلا أن يبدأ من بداية العمر، وتبطئ الساعات فيه كل هذا الابطاء فى الدوران؟ وسأحتاج إلى سنين وسنين كالدهر طولا حتي أكبر، آو أفيق، وأرانى مرة أخرى على سريرى فى غرفتى التى أوصدت بابها ... أترى كسروه على، أم تركونى أنام إلى العصر الذى أنا فيه الأن؟ من يدرى؟ أم الأمر جد، وقد رددت طفلا؟ إن يكن هذا هكذا فلماذا بقى عقلى عقل رجل؟ أم تراه سيصغر شيئا على الأيام - أو على الساعات - حتى ينقلب هو أيضا عقل غلام حدث؟ فانى أرى نفسى تنازعنى أن أصنع ما يصنع الصبيان وأن أركب الحياة والناس بما يركبهما به حدث غرير، ولو تم هذا التحول لكنت به أسعد وأشقى - أسعد لأن. حداثتى تستوفى حيئذ حقها بانتقاء هذا التلفيق والترقيع، وأشقى لأنى أبت صلتي بما عشته وألفته وأنساه، وتتغير شخصيتي التى أنا بها ما أنا، ولست أرضى لنفسى هذا، ولست مستعدا أن أرضى سلفا عن شخصية جديدة أجهلها، وأعتاضها من شخصيتي القديمة المألوفة، ثم لماذا تكتب لى وحدى هذه المحنة دون خلق الله جميعا، ويقضى على أن أحيا حياتين مختلفتين، وأمر بعهد الحداثة وما يليها مرتين؟ وإذا ظل الحال يجرى على هذا المنوال فأصغر بعد أن أكبر، فمتى يمكن أن أستريح وأعفى من هذا العناء المتكرر؟
وكنت وأنا أدير هذا فى نفسى أتمشى فى الحديقة، فخطر لى أن مد البصر إلى المستقبل متعبة، وأن الساعة التى أنا فيها أولى بالعناية، وأن أول ما ينبغى هو أن أعرف أين أنا؟ أى بلد هذا وأى حى؟ لأعرف أقريب أنا أم بعيد من أهلى وبيتى، ويحسن أن أعرف ماضى «الجديد» فقد أقحم - على حاضر أعيشه وأحياه بماض يعد «مستعارا» وهذا ترقيع لا تصلح به الحياة التى أعطيتها فإما أن أعطى ماضيها معها أو أعاد إلى الحاضر الذى زحزحت عنه وأجلبت لا أدرى كيف؟
وعلى فرط ما أجهدت رأسى، لم أر إلا أن الموقف يدعو إلى القنوط، فما من وسيلة مثلا إلى إقناع أهلى، إذا تسنى لى أن أتصل بهم، بأنى أنا أنا - أعنى أنى أنا المفقود الذى اختطف وأن كل ما حدث أنى صببت فى هذا القالب، فأصبحت «طبعة جيب» من الرجل الذى كنته وكيف يمكن أن يصدقوا أو يقتنعوا؟ ولكن الا يمكن أن يقتنعوا إذا ذهبت أخبرهم أخبار ماضى معهم وأروى لهم ما كان بينى وبينهم فى حياتنا المشتركة؟ ممكن إذا أصغوا، ولم تطر عقولهم قبل أن أفرغ من الكلام.
إذن أسلم أمرى إلى الله، فلا سعى ولا محاولة ؟ وماذا يسعنى خلاف ذلك إلا إذا أردت أن أحمل إلى مستشفى المجانين لأعالج وأداوى من الخرف الذى أروع به الناس.
وكنت قد صرت تحت شجرة برتقال سكرى مثقلة الأغصان يما تحمل من هذه الفاكهة الطيبة. فجرى ريقى. فمددت اليد وقطفت وذهبت أقشر وأمص وقد أذهلتنى حلاوة البرتقال عما كنت فيه، فلما شبعت وهنئت، رحت أتعجب وأقول إنى أرانى كبيت ذى شقتين أو جناحين، فلا أدخل واحدة إلا بالخروج من الأخرى، ومتى كان فتح باب من هذه، أغلق باب تلك، وإن هذا ليكسبنى ازدواجا ورحابة، ولكنه يكلفنى شططا، فإن إحدى الشقتين يجب أن تظل سرا مطويا، وإلا حلت بى متاعب لا ينقصنى أن أعانيها، وستسكن هذه الشقة وطاويط الخواطر السود، ولكن ما حيلتى؟ وهل يعوض هذا أن الجانب الاخر يستطيع أن ينعم بمرح الصبيان وخفة الحداثة وطيش أحلامها وذهولها بجدة الحياة الفياضة عن الجد؟ ربما ... جائز ... وإذا كان قد جاز أن أصير طفلا فلماذا لا يجوز أى شىء اخر؟
واليوم عرفنا أنه الجمعة، وغدا يجىء السبت، وأحسب أن سيكون على فيه أن أذهب إلى المدرسة، وإن كانت عينى لم تقع فى هذا البيعلى كتاب أو دفتر أو قلم، أم ترى للدرس غرفة خاصة؟ وكيف أذهب إلى مدرسة لا أعرف أين هى؟ وهبهم حملونى إليها فى سيارة، أو رافقنى إليها خادم، فإلى أى الفرق أقصد؟ وأى التلاميذ أحيى، وعن أيهم أعرض، ومن ألاعب ومن أتقى؟ واه لو كان الذى تقمصت بدنه قد ورثنى عداوات وخصومات وثارات؟ وأخرج يوما أو ليلة أتمشى فإذا ثلاثة أو أربعة - أو أكثر أو أقل - من الحاقدين الموتورين أو المولعين بالشر - لوجه الله تعالى - قد كمنوا لى وراء شجرة، ثم انقضوا على وأوسعونى لكما وركلا وتمزيقا؟ آو قذفونى بحجارة فشجوا لى رأسى وأسالوا دمى وهشموا عظمى؟ وكيف أتقى هذا وقد أهمل الذى تخلى لى عن بدنه أن يترك لى ببانا يعرفنى ماضيه وعلاقاته الحسنة والسيئة؟ أما إنه والله لاهمال! أو لعلها سرعة الإبدال أنست الذى تولاه أن يعنى بهذه التوافه. وماذا كان الداعى إلى كل هذه العجلة؟ وما ضره لو كان تأنى، بل عدل؟
وخفت أن يذهب عقلى، فقد بدأت أخلط، فأقصرت، وبدا لى أن أذهب أعدو فيرفض عنى هذا الكرب عرقا.
الفصل العاشر
وكان مساء ...
أي والله كان مساء ... وأى مساء؟ لن أنساه ما حييت، فقد كان سلسلة رجات تميد بى منها الارض، حتى لقد كنت - أفرشح وأنا واقف وأباعد ما بين رجلى التماسا للثبات، من فرط شعورى بالزلزلة.
ولكنى أسبق الحوادث، فلأبدأ من البداية.
والبداية أنهم عمدوا إلى حجرة رحيبة مستطيلة رفعوا عن أرضها السجادة الوثيرة - لئلا يوسخها الغلمان بأحذيتهم الموحلة - ومدوا فى وسطها مائدة طويلة أقاموا عليها مقصفا، ولا قصف هناك ولا شبهه، فما كان ثم إلا الديكة، والحمام، والسمك، واللحم، والحشو وما إليه والحلواء من فطائر وولائق وما أشبه، والفواكه، وفى وسط المائدة فطيرة عظيمة مخلوطة بالصنوبر واللوز والجوز والفستق - على الرغم من انقطاع الوارد من ذلك فى هذه الحرب - غرزوا فيها عشر شمعات بعدد سني عمري. فتأمل! لو جعلوها مائة أو مائتين لما أخطأوا أو أسرفوا، فقد عشت فى هذا النهار وحده قرنا كاملا وزيادة!
وأضيئت الأنوار كلها حتى بتنا كأننا فى عرس.. فشعرت بيد غليظة تعصر قلبى، إذ تذكرت أن زوجتى المسكينة تندبنى الآن، وأن ولدى قد غاض معين المرح من نفسيهما، وحلت فيهما الترحة والغصة وأنا هنا يحتفي بي الناس ويسروننى ويبروننى.
و أقبل الغلمان فرادى وجماعات، وأنا أحييهم وأرحب بهم، وإن كنت أنكرهم ولا أعرفهم، وكانوا يسلمون ولا يزيدون على الابتسام، ولا يجرون ألسنتهم بكلمة تهنئة، وأحسبهم ما كان يعنيهم إلا الطعام الذى سيطعمونه، أو لعلهم كانوا على استحياء من أمى، وفزع وجزع من منظر العم الذى لا حاجة إلى تعريف جديد به.
وصاروا كثرا، وغصت بهم الحجرة التى سيقوا إليها، ورأيتهم صامتين يتخالسون النظر فقلت فى سرى: إنه لا يطلق ألسنتهم ولا يحل عقدتها إلا الطعام، فنهضت وأشرت إليهم أن تعالوا إلى المائدة، فهزت أمى رأسها أن لا، وأشارت بأصابعها مضمومة أن تأن ... وأن الله مع الصابرين.
فدنوت منها وسألتها: «ما الداعى إلى التأخير»؟
قالت: «أما إنك لغريب ... ألا تنتظر الباقين؟ لماذا تأخروا يا ترى»؟
ومضت إلى الباب ونادت: «يا لولو.. لولو».
فتعجبت للولو هذه من عساها تكون. ولهذا الولع بتصغير الكبار فى بيت يصلح أن يكون ثكنة لفيلق كامل.
وجاءت لولو فإذا هى فتاتى الحسناء التى خلعت لها قلبها وذعرتها بما حدثتها به فى الصباح، والتى أكاد أرجح أنها ما تحولت إليه الحاجة.
وقالت لولو بأدب - تالله ما أحلى اسمها، وإن كان يذكرنى باسم كلب كان لنا وأراد لص أن يسرق بيتنا فدس له سما فى طعام تمهيدا للسطو المنوى: «نعم يا ستى».
قالت الست: «اسألى بالتليفون عن حمادة وسعيد لماذا تأخرا واستعجليهما».
حمادة، سعيد؟ ما أغرب هذا الاتفاق! وهممت أن أسألها من يكون هذان؟ ولكنى تذكرت أنى أعرفهما، أعنى أن المفروض أنى أعرفهما، ولابد أن العلاقة وثيقة ما دامت أمى تعطل الحفلة كلها وتؤخرها من أجلهما.
وخرجت لولو. ولكنها لم تذهب إلى التليفون، بل دارت على عقبيها وقالت ويدها على الباب: «ها هما يا ستى».
وصدق حدسى، وكنت أرجو أن يكذب. فما كان حمادة وسعيد غير ولدي الشقيين. ودارت بى الأرض حتى لم أعد أدرى أواقف أنا على قدمى أم على رأسى. ولما استقرت الأشياء فى مواضعها، وعادت، كما كانت، ثابتة لا تترنح ولا تميل كل مميل، مسحت العرق المتصبب من جبينى ومددت يدى إليهما واحدا بعد واحد. فضغطها كل منهما ضغطة خفيفة، وغمز بعينه. نعم هما الشقيان ولا شك، فإن هذا الضغط وذاك الغمز دأبهما أبدا. وهى لغة لهما يعنيان بها أشياء شيء - تترجمها أنت على مقتضى الحال إذا كنت تعرفهما، فمرة يكون المراد التهنئة أو التحية، وتارة يكون التذكير بعبث شاركا فيه، وسرا به، أو بعبث اتفقا معك عليه، وطورا يكون إنذارا بما ينويان أن يركباك به، فإنهما يأنفان أن يأتيا شيئا من هذا القبيل لم يسبق الإنذار به والتحذير منه، وهكذا إلى آخره إن كان لهذا آخر.
ولم يكن يبدو عليهما قلق، أو ما يشى بقلق، فكدت أجن ... أهذا حال فتيين أصبحا فإذا أبوهما قد شق الأرض - والسرير - واختفى؟ أو وجداه جثة هامدة؟ مستحيل! إذن ماذا؟ أترانى هنا وهناك فى آن معا؟ أيمكن أن أكون انفلقت اثنين، فبقى منى واحد، حيث كنا جميعا، وجىء بواحد إلى هنا؟
وكررت إليهما الطرف فإذا هما على عهدى بهما، لا يحفلان أن أمى لا تنفك داخلة خارجة، وأن هذا العم الضخم قائم كأحد تمثالى رمسيس فى مدخل وادى الملوك بطيبة، فهما يدغدغان هذا تحت إبطه، وذاك فى خاصرته، ويدسان أيديهما فى جيوبهما، ويخرجان مالا أدرى، ويضعانه بخفة فى قفا ثالث أو أذن رابع فيصرخ وينط، ويدفع يده إلى ظهره، فيقرقر الشقيان سرورا، وتوقعت أن لا أنجو من عبثهما، ولكن هذا لم يكن يعنينى قدر ما كان يعنينى أن أتبين ماذا صنع الله بى هناك ... عندهما ... أعنى شطرى الثانى الذى انفلقت عنه، إذا كنت انفلقت شطرين.
وآليت لاجلون هذا الأمر فجذبت حمادة من ذراعه ونأيت به عن الجماعة التى وقف معها، وتوقعت وأنا أمضى أن ينظر إلى يمؤخر عينه على عادته فأدرت وجهى إليه لأرى هل فعل؟ وصح ظنى، فكان ما توقعت، فزال كل شك يمكن أن يختلج فى الصدر.
وسألته: «من أين جئت»؟
قال: «ومن أين أجىء إلا من البيت»؟
قلت: «! ...! وكيف حال الأسرة»؟
فقهقه اللعين وأشار إلى أخيه سعيد وقال: «إنه يسألنى كيف حال الاسرة»؟
قلت: «ماذا يضحكك»؟
قال: «أتكره أن أضحك يا سونه هانم»؟
فدهشت وسألته: «سونه هانم؟ هل سمعتك تقول سونه هانم»؟
قال ببساطة وبابتسامة فيها معنى التحدى: «إن أذنك حادة».
فغلى الدم فى عروق الرجل الباطن وسأل ببرد متكلف: «ولماذا بالله»؟
قال بلهجة الزراية: «هذا الشعر البناتى الجميل، والصوت الستاتى الناعم».
فالختلط الأمر فى جوفى، وتنازعتنى دوافع شتى، وأشبهت مجلس سكارى يتلاغطون ولا يصغى منهم أحد. فهذا رجل ثار غضبه وتلهب فهو يهم أن يصيح: «اخرس»! هذا غلام يدفع رجله ليركل حماده وكفه ليلطمه . ولكن الرجل يتذكر أن حماده ابنه - أو أن له وجه ابنه - فيكظم غيظه ويرد القدم الممدودة، ويجذب الكف المرفوعة فتهوى كأنما ليس فى كمها شيء. ويؤلم الغلام عجزه عن التشفى فيجول الدمع فى عينيه.
وقال حماده وقد رأى ما أسفرت عنه هذه المعركة الباطنة: «ألم أقل لك إنك بنت»؟
واصطلح على عجز الغلام الظاهر وشفقة الأب الباطن. فأوليت حماده ظهري وخرجت من الغرفة كلها إلى ردهة مجاورة، ورأتنى لولو مستندا إلى الحائط، وأصابعى تنكف الدمع فخفت إلى، وسألتنى: «مالك؟ هل حدث شىء»؟
وجمعتنى، وضمتنى إليها، فدفنت وجهى فى بطنها، وتركت الدموع تنهمر.
وأحست أنى هدأت فرفعتنى عنها ومسحت لى وجهى.
انتحت بى ناحية وسألتنى: «خبرنى ماذا جرى»؟
قلت: «زعم حماده أنى كالبنت بشعرى وصوتى».
قالت: «اخص عليه، وفى عيد ميلادك أيضا»!
قلت: «المصيبة أنه مصيب. فإن شعرى وصوتى يبدوان حتى لى أنا كما وصف».
قالت: «بل هو قليل الأدب».
فقالت البطانة المحجوبة عن عينيها بلسان الظهارة الصبيانية التى يسمونها سونه: «لا، لا، لا، لا تقولى هذا. إنه ولد طيب. وقد رباه والداه فأحسنا تربيته. صدقينى فإنى أعرف».
قالت: «بل أنت الطيب لا هو. يشتمك فى بيتك، وينغص عليك عيدك ... هل هذا من حسن الادب والتربية»؟
قلت: «إن مظهرى، كما وصفه، وأنا أعترف بهذا. وكيف أكابر فى واقع محسوس ملموس؟ ولكن قذفه به فى وجهى مؤلم ... أما لو كان يعرف»؟
فسألت: «يعرف ماذا»؟
قلت: «لا شىء، يحسن أن أعود إلى ضيوفى».
ودخلت فى هذه اللحظة سيدتان، على إحداهما مسحة من ملاحة، والأخرى شابة تامة الحسن. فلم أعرفهما كما لا أحتاج أن أقول، وإن كانتا قد أوسعتانى تقبيلا وتهنئة. وكان من غريب أمرهما أن إحدهما - سريعة الكلام، ولكنها تتكلم بأقصى حلقها، ففى صوتها مقمقة لا تخف على الاذن، والأخرى كلية اللسان ولثغاء بالراء.
وقد غافلتهما، وهززت رأسى للولو مستفسرا عنهما، فابتسمت وخبطت كفا بكف فملت إليها وقلت: «إنما أريد أن تحدثينى عنهما، لا أن تعرفينى بهما».
فقالت: «إنهما كما تعرف أختان، وقد تزوجت الكبرى ومات عنها زوجها فرجعت إلى أهلها، فكان هذا من من سوء حظ أختها. فقد كان خطابها كثرا فقلوا بفضل أختها».
فاستزدتها فقالت: «الصغرى لا تخلو من سذاجة. وكلما خطبها خاطب، راحت الكبرى تدور من ورائها وترمى نفسها على هذا الطالب، وفى مرجوها أن تفوز هى به فتنفره، وهكذا، فلا أمل للصغرى فى زواج ما لم يسق الله من يحمل الكبرى ويريح أختها من حماقتها».
فسألتها - لم يسعنى إلا أن أسألها: «وأنت يالولو، أصدقينى، أليس لك خطب»؟
فدفعتنى بيدها وقالت وهى تضحك: «لا تسخر منى».
قلت: «إنك كنز، حصان رزان، لبيقة عطوف. وإن الذى يظفر بك لسعيد».
قالت وهى تتنهد: «ومن ذا الذى يرغب فى خادمة فقيرة؟ ثم إنى راضية قانعة بما أنا فيه. ولله الحمد».
وتنهدت مرة أخرى، وندت عن صدرها «إيه» طويلة ممطوطة ثم تنبهت وقالت لى: «اجر العب مع ضيوفك ... اذهب ... ماما تشير».
ودخلنا إلى حيث المائدة، وتقدمت الصفوف، وإلى يمينى ويسارى حماده وسعيد، ولم أخترهما أنا وإنما اختارتهما أمى - تلك التى أعرف بشقى المستور أنها زوجتى - فحمدت اختيارها على الرغم من تطاول حماده على بالقول الجارح والوصف الممض، واصطففنا أمام المائدة من الجانبين. وحمدت لأمى مرة أخرى أنها أعفتنا من العم والسيدتين ومضت به وبهما إلى غرفة أخرى وتركتنى مع أترابى أحرارا. وما كادت تخرج، حتى صارت الغرفة كالحمام الذى ليس فيه ماء، فعلا الصياح، وكثر اللغط، وتدافعت الأيدى، وانطلقت صرخات من هنا وههنا، لأن واحدا داس على قدم جاره، أو ضرب ساقه العارية بطرف حذائه، المحدد، أو رفسه بمؤخره، أو قرصه، أو فعل غير ذلك مما يغرى به الغلمان.
وكان حمادة وسعيد لا يأكلان إلا بقدر، وكنت أحثما وأشجعهما فيبتسمان ولا يزيدان، فسرنى وساءنى هذا - سرنى منهما القصد وقلة التهالك، وساءنى أن أراهما يأكلان دون الشبع.
وآن أن ننفخ الشمعات ونطفئها، وكان شر ما فى ذلك أن الأم وضيوفها عادوا ليشهدوه، فخفتت الأصوات، وصارت همسات مقرونة بخبطات خفية ووخزات الجنوب، ونخسات من الخلف، وركلات تحت المائدة، وكان بالى إلى الجمع وعينى عليه لا على جارى اللذين كانا يبدوان ساكتين رزينين. وقد أقلقنى منهما هذا السكون، فإنى أعرفها، لا يكون سكون طائرهما إلا نذيرا بالشر.
وأدنيت الفطيرة بالشموع المغروزة فيها، واحتجت مع ذلك أن أشب عن الأرض لأطولها. ولم تكف نفخة واحدة، فتكرر النفخ مرات إلى اليمين وإلى اليسار، وشغلت بذلك عن كل ما عداه، حتى إذا فرغت منه تناولت الشوكة والسكين وعكفت على الفطيرة أقطع منها وأوزع. وناولت منها الكبار نصيبهم، فحملوه فى أطباقهم ووقفوا حلقة على مسافة منا يتحدثون، وإذا بهؤلاء الصبيان ينفجرون ضاحكين مقهقهين، مكركرين، مطخطخين، ويلقون بالأطباق على المائدة فترتج وتقع الأشواك أو بعضها على الأرض، ويروح بعضهم يصفق، والبعض يضرب المائدة بجمع يده أو ببطنها، وأنا أنظر إليهم، وأدير عينى فيهم، وفمى فاغر كالأبله من الدهشة.
ولكنهم كانوا معذورين، فقد كان منظرى يضحك الثكلى. وتصور غلاما فى ثياب جديدة نفيسة، وجيوبه تطل منها وتتدلى قشور الفواكه، من مثل الموز والبرتقال والليمون الحلو! حتى العرى أدخلت فيها «قصاصات» من هذه القشور، وعقدت على هيئة الأنشوطة، حتى زيق السترة المحيط بالعنق تدلى من تحته قشر الموز، حتى الرأس رشقت وردتان على جانبيه، وزين اليافوخ بنثار الزهر.
وكنت حقيقا أن أحمل كل ذلك على محمل المداعبة، ولكن العيون ضربت على من حدق نطاقا، وكانت سخرية النظرات والضحكات بينة، لاخفاء بها، ولم يخالجنى شك فى أن حمادة وسعيد هما اللذان صنعا بى هذا، ولو اقتصر الأمر على قشور الفاكهة التى حليت بها ثيابى لما كبر على ذلك، ولكنهما - والويل لهما، وإن كانا ولدى - رشقا لى الورد فى شعرى ونثرا لى غلائل الزهر عليه تشبيها لى بالبنات وتشنيعا على، ولمزا فعابانى فى وجهى، وحقرانى على ملأ من أحداث لاشك أنهم سيجعلونى مضعه فى أفواههم طول الأسبوع، بل الشهر على الأرجح.
ورميت الورد، ونفضت نثار الزهر عن رأسى، أول شىء، فقد كان هذا هو الذى أمضنى وأرمضنى، ونزعت أمى ما على ثيابى، وهى تضحك - سامحها الله - وتقول لى: إنه مزاح لاينبغى أن يغضبنى.
ولكنى كنت مغيظا محنقا ولافائدة من محاولة التسرية عنى، فدفعت يدها عنى بعنف، وانطلقت خارجا من الغرفة إلى الحديقة، ورحت أتمشى، مطرقا، وأفكر فيما ينبغى أن أصنعه، فما بقى مفر من أن أصنع شيئا أميط به عنى هذا الذى يلصقه بى الولدان اللعينان، ويجعلانى به أضحوكة وهزؤا بين الغلمان، ولافائدة ترجى من الترقق بهما والحنو عليهما، فما يعرف أحد ما أعرف من نفسى، وكل مايعرفه هؤلاء الصبيان أنى ولد مثلهم، وأن حمادة وسعيد مازحانى هذا المزاح الثقيل، وزعمانى كالبنت، وأنى جبنت فالخير كل الخير أن أؤدبهما، وإن كانا ضيفى، وإن للضيف لحرمة عند الكبار، ولكن الصغار لايرعون حرمة لشىء، وسيحملون حلمى على الجبن وضعف القلب، ويتقرر فى نفوسهم أنى كما زعم الخبيثان فلا أزال بعد ذلك أقع كل يوم فى بلية، وأتعرض لحديث الأولاد وسخرهم وعبثهم.
واستقر رأيى على أن أضربهما علقة، فى هذه الليلة، وفى هذه الحديقة، وأنسانى الغيظ والموجدة، أنى لو كنت فى إهابى المنزوع لهان ذاك وتسنى، وأنى صغير مثلهما، ولعلى أضعف منهما وأضوى جسما وأقل شدة عظام.
ودرت لأدخل وأستدرجهما إلى الخروج، ثم آخذهما بما فعلا. ولكنى لم أحتج إلى تكلف ذلك. فما كدت أخطو خطوات، حتى رأيتهما مقبلين على مهل. فوقفت في مكانى، أنتظرهما، فلما صارا أمامى قال أكبرهما (سعيد): «لقد كان منظرك ممتعا».
كأنما يباهى بما صنع، ولا يحفل ما أورثنى من ألم وخجل، فلم أقل شيئا، ورميته بنظرة سخط واشمئزاز.
وقال الاخر (حمادة): «ما كان أحلى الورد فى شعرك ... لو كان الوقت اتسع لضفرت لك منه إكليلا ... يا خسارة ... إذن لكنت كالعروس ليلة الزفاف».
فطار عقلى، وارتميت عليه اريد أن آخذ بتلابيبه، وأجذبه إلى الأرض وألقيه على وجهه أو شقه، وأعجنه بقدمى، ولكنه كان كأنما توقع ذلك. فقد انحرف عن طريقى بخفة، فوقعت على الأرض - بوجهى - كالحجر، وانغرس أنفى فى التربة الطرية، فلبثت هكذا ثوانى، لا أتحرك، ثم رفعت رأسى وجذبت رجلى ونهضت متثاقلا، وشرعت أمسح ما لطخ به وجهى من الطين، وهما يضحكان، ومن ورائهما جمع يضحك معهما، فقد تبعهما الباقون، وأنا لا أدرى.
وصار موقفى أبعث لى على السخط، ولهم على الهزؤ، وأدركت أنه لا خير فى مثل ما صنعت، فقلت لحماده: «لو لم تكن جبانا لما أجفلت ...».
فضحك وقال بهدوء غريب: «إنما تنحيت عن طريقك إشفاقا عليك، فإنك مسكين هش لاعظم فى بدنك، ولوشئت لدفعت فى صدرك فحطمت لك ضلوعك أو لبططت لك أنفك وشوهت وجهك البناتى».
قلت: «طيب خذ». وألقيت نفسى علية مرة أخرى، وحرصت على أن لا أدعه يفلت كما فعل من قبل، ولكنه أخذ بناصينى وثنى عنقى، حتى خلت من ألمى أنه سينقطم، وراح يضرب صدغى بجمع يده، وبطنى بركبته حتى أيقنت من شدة الوجع أنى طائح هالك لا محالة ثم خلانى ودفعنى بكلتا يديه فانطرحت على ظهرى، انطراح من لا ينوى أن يقوم بعد ذلك أبدا.
ولم أكن - وأنا راقد - أفكر فى شىء أو أحس شيا سوى هذا الفتور الذى جعلنى أخلد إلى رقدتى، وسمعت صوتا تأدى إلى من بعيد يقول: «يظهر أنه استحلى الرقدة، فتعالوا يا جدعان».
وتالله ما أقسى قلوب الصغار وأغلظ اكبادهم، إن صح أن لهم أكبادا، وهو ما أشك فيه، فقد تناولونى من ذراعى، ورجلى، ورفعونى بينهم عن الأرض وراحوا يطوحوننى يمينا وشمالا، كأنى لعبة فى أيديهم، لا مخلوق مثلهم مشف على الهلكة، وكنت لا أصيح، ولا أقاوم، لأنه لم تبق لى قدرة على صياح أو حركة وإن كنت مدركا لما يفعلون محسا به. ولو كان الأمر إليهم لقتلونى وما عبأوا شيئا. وما زلت إلى هذه الساعة أتعجب لشدة نقمتهم على من تقمصت جسمه، وقلة عطفهم عليه ورحمتهم له، فما سمعت واحدا منهم يزجرهم أو يدعوهم إلى القصد وينهاهم عن الشطط، فلولا أن عم أحمد - جزاه الله خيرا - أقبل فى تلك الحظة، لظلوا فى لهوهم القاسى. وما كادوا يبصرونه حتى تخلوا عنى وذهبوا يعدون فى أرجاء الحديقة، فهويت إلى الأرض مرة أخرى، كالحجر ....
الفصل الحادي عشر
وأفقت فى سريرى، على أمى بجوارى، وعمى يتمشى فى الغرفة، ولولو تضع كمادة على خدى الوارم.
وسمعت عمى يقول: «لقد كان رأيى دائما أن هذا الولد يجب أن يزاول ألعابا رياضية، رياضية لتشتد عظامه، وتقوى عضلاته، ولكنك تبالغين فى الخوف عليه من النط والقفز، فانظرى ماذا صار؟ ولد صغير أصغر منه - يدقه هذا الدق ويطحنه حتى تنقطع أنفاسه، لو كان بنتا لما كان هناك بأس، ولكنه ليس بنتا ...».
فقالت أمى تقاطعه: «ألا تكف عن هذا اللت والعجن»؟
فدار وواجهها - بكرشه - وقال محتجا: «لت وعجن؟ أنا أريد أن يصبح رجلا وأنت تربينه تربية البنات. وأنصحك مرة وأخرى. فتقولين إني ألت وأعجن! سبحان الله العظيم! طيب ... ولكنى لن أكف عن اللت والعجن حتى تغيرى كل هذا. إنه ابن أخى - يعنى ابنى - كما هو ابنك. ماذا تخشين عليه؟ أن تنكسر ساقه؟ أو ذراعه؟ أن يدق عنقه؟ كل الأولاد فى كل الدنيا يلعبون ولا يصيبهم سوء.
فلماذا يصيبه السوء وحده دون هذه الالاف المؤلفة؟ وهبيه انكسر، فالكسور تجبر».
فتنهدت وقالت: «طيب.. طيب، آمنا وصدقنا، ولكن هذا ليس وقت الكلام ثم إن الدكتور قال يجب أن لا نزعجه بكثرة الكلام، فاصنع معروفا ...».
فقاطعها بدوره وقال ساخرا: «الدكتور؟ دكتور لماذا؟ لأن ولدا ضربه علقة؟ تقلبين الدنيا لأن خبطة ورم منها خده؟ هذا إسراف فى التدليل ... هذا ...».
فصاحت به: «يا أخى أنا فى عرض النبى، اسكت ...».
فصاح بدوره: «أسكت كيف؟ إنك تفسدين حياة الولد المسكين، فكيف أسكت»؟
قالت: «طيب، تول أنت إصلاح حياته. بس فيما بعد. ولنتركه الآن مستريحا».
ونهضت بعد أن ألقت على نظرة، وإلى لولو أخرى، وسحبت عمى من الغرفة، وخيرا صنعت. فقد بدأ رأسى يوجعنى من صوته «اللجب» المضوضى.
ولم يكن بى شىء يستحق الذكر غير هذا الورم الذى زاد به خدى أنتفاخا. وكان فتح فمى ربما كلفنى بعض التعب وقد استغربت أن يكون الأمر احتاج إلى طبيب، ولكنى أحسب أن أمى أفزعها الاغماء، فاستدعته، وكنت لما هجمت على حماده أشعر أنى أقذفه منى بجبل، فإذا أنا هش ركيك البناء خرع، لا أقوى على شىء، وأخجلنى هذا الذى تبينته من أمرى ومن صدق حماده فى وصف وهنى وخورى، وجال الدمع فى عينى وأنا راقد وعلى خدى الكمادة، فربتت لولو على ذراعى وقالت بابتسام: «علقة تفوت ما حد يموت. تعيش وتأخذ غيرها».
وكانت تمزح ولا تقصد إلى التعبير. فأطلق ذلك لسانى فقلت: «لم أكن أعرف أن جسمى واه إلى هذا الحد. وقد كنت واثقا حين هجمت عليه أنى سآكله بعظمه».
ففتحت عينيها مستغربة، وسألت: «أنت.. تقول إنك هجمت عليه»؟
قلت «نعم. فقد تحرش بى و استفزنى فنفد صبرى فألقيت بنفسى عليه كان ظنى أنى سألقى عليه درسا لا ينساه، فتلقيته أنا عنه».
قالت: «لا أزال أستغرب ... كيف هاجمته»؟
قلت: «ألست أقول لك إنه استثار غضبى»؟
قالت: «ولكن.. لقد كنا نظن أنه هو البادئ بالعدوان».
قلت: «العدوان باللسان. نعم، أما باليد فأنا البادئ».
قالت، وكأنها تحدث نفسها: «غريب ...».
قلت: «ما هو الغريب».
قالت: «أن تكون أنت المعتدى، عهدنا بك أن يعتدى عليك، فتلوذ بالفرار ولا تثبت لاحد.»
فصرت أنا المتعجب وسألتها: «أهذا كان دأبى»؟
قالت: «كأنك لا تعرف! إنك اليوم على خلاف ما عهدنا ... فى كل أمر ... مدهش هذا التحول».
قلت فى سرى: «ما خفى كان أعظم، وإذا كان يدهشها إلى هذا الحد أن ترانى أتحول من الفر إلى الكر، فكيف لو اطلعت على المغيب من تحول الرجل الشديد المحتنك إلى فتى ضعيف القلب منسرق المنة»؟
وقلت لها - كالمعتذر: «لو كنت أعرف أنى ضعيف إلى هذا الحد لبقيت محافظا على تقاليدى».
فزاد عجبها ولم ينقص، وقالت، وأغضت عن المزح الذى فى قولى: «كيف لم تكن تعرف؟ هل هذا معقول»؟
قلت: «والله ما أقول إلا الحق، ولقد حملت عليه وأنا على يقين أنى ساخذه فى راحتى، كأنه لعبة صغيرة، ثم آلطعه وأقضى عليه. ولكنى كنت أجهل ما أنا. فما سبق أن امتحنت قوة هذا الجسم ومبلغ جلده».
فجست جبينى، وفى ظنها أنى أهذى من حمى أو غيرها. فلما لم تجد شيئا قالت: «إنك تدير لى رأسى بهذا الكلام الذى تلهج به طول النهار ... فيحسن أن تسكت لئلا تتعب».
فسكت، فإن الاسترسال فى هذا المعنى عبث لا طائل تحته.
وكنت أرى رقتها وحدبها وهى تمرضنى، فأعجب لمثلها فى مثل جمالها كيف أخطاها الزواج، وما أخطأها فى الحقيقة، فإنها غضة السن، ولكن مثلها يخطف خطفا؟
وقلت لها بعد قليل: «أراك هربت منى الليلة كما تقولين إنى كنت آهرب من الأولاد ...».
فعبست - تكلفت التعبيس - وهل يحسنه من يضحك الجمال فى وجهه ويضيء؟ وقالت: «لست فاهمة».
قلت: «سألتك هذا المساء لم لم تتزوجى؟ فهربت من الجواب الصريح».
فضحكت، وقالت: «آه هذا ... لا لم أهرب ... قد يسليك أن تعلم أن رجلا ليس من طبقة الخدم مثلى خطبنى ...».
وضحكت مرة أخرى.
فقلت معترضا: «لست أرى موجبا للضحك ...».
قالت: «نعم. رجل ذو مال ... حكاية ظريفة. هل تريد أن تسمعها»؟
قلت: «طبعا ... ولكن لماذا هذه السخرية ... أو هذه المرارة فى لهجتك؟.. ما عيب الرجل ذى المال»؟
قالت: «لا عيب فى ماله. وإنى لأكون كاذبة إذا ادعيت الزهد فى المال والنعيم والراحة».
قلت: «العيب فيه هو إذن»؟
قالت: «انتظر ... أصر أن أتعلم الموسيقى ...».
قلت: «فن جميل يزيد الحياة طيبا وسعة».
قالت: «صحيح ... واشترط أن أتقن العزف على الكمان. وعليه النفقات كلها ...».
فظننت أن الذى زهدها فى الرجل طول الزمن، فسألتها، فقالت: «كلا ... فإنى أتنظر بغير خطبة ... فلماذا لا أنتظر بخطبة؟ ولم يكن هذا كل ما طلب وشرط. فلا بد أن أتعلم الرقص أيضا».
قلت: «أراه رجلا يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون».
قالت: «كتف؟ ... كتف إيه»؟
فابتسمت وقلت: «يعنى أنه ذكى يفهم».
قالت: «طيب ... وكان ابن خمسين وأصم وله ساق من خشب ...».
فلم أقل شيئا. ولكن الغلام الذى لبست جلده ضحك. أما الرجل الذي فى جوفه فحدث نفسه أن الدنيا لا تكون دنيا إلا إذا اجتمع فيها كل صنوف الناس.
وعادت تقول بابتسامة: «ولى محب عاشق ولهان آخر ... أظنك تعرفه ...».
قلت: «أنا أعرفه؟ ... من هذا»؟
قالت: «عم أحمد الجناينى».
قلت: «آه ... هذا الذى نهيتنى عن الكلام معه»؟
قالت بحدة: «لم أنهك. وإنما نقلت إليك كلام الست ...».
فأستغربت حدتها، وقلت: «إنه رجل طيب ... وله على فضل ... أذكره ولا أجحده. وإن كان قد خيب أملى قليلا».
فصارت هى المستغربة، وسألتنى بلهفة: «خيب أملك؟ كيف؟ إنه يحبك حبا شديدا، ويحب التراب الذى تمشى عليه ...».
فسألتها مستدرجا لها: «هل قال لك ذلك»؟
قالت ببساطة: «مرارا كثيرة ... إنه لا يكاد يكون له حديث إلا عنك».
فحدثت نفسى أن فى الزوايا خفايا كثيرة، وفى الدنيا أعاجيب لا تنتهي. هذه فتاة يخلب جمالها الألباب. وفى وسعها لوشاءت أن تقطع هذه العزوبة وتتزوج فى أية طبقة.
فما يستطيع أن يقاوم فتنتها من تتصدى له ... فتعرض عن المال والجاه. وتقصر أملها على بستانى فقير، تحذيه شر من الحفى ... فالحق أن الحب أعمى. والحظ أيضا. وماذا ترى أعجبها من هذا البستاني؟ وماذا يروقها من حديثه، أو مجلسه أو حاله على الجملة، حتى تروح تنشد لقاءه، وتنعم به - أيضا فى غفلة من الرقباء؟ وإنه لرجل طيب، ولكن هذا لا يكفى. وقلت لنفسى: «خسارة. خسارة والله».
ويظهر أنى تكلمت بصوت عال، وأن هذا صار عادة لى. فقد سألتنى: «ماذا تقول»؟
قلت: «لاشىء ...».
قالت: «ولكنك كنت تقول شيئا».
قلت: «نعم، كنت آعرب عن أسفى لأن عم أحمد جاءنى بنمل، ولم يجئنى بما هو أجدى وأفعل وأكفل بأن يحمل صاحبنا على الهرب».
قالت، وهى تضع سبابتها على شفتيها: «أظنه اتيا الآن ... ليعودك فإنى أعرف دبة رجله».
قلت: «إذن سأتناوم حتى تنقشع السحابة أو ينحسر ظل الجبل». وغطيت عينى بذراعى.
ولم يخطئ ظنها، فقد كان هو القادم بعينه - أو بطوله وعرضه وكرشه - ولم أره لأنى لم أرفع ذراعى عن عينى ولكنى سمعتة يقول هامسا: «أهو أحسن»؟
وأحسبها هزت رأسها فما سمعت صوتها. فعاد يقول: «عال! الحمد لله. مسكين هذا الولد. عسى أن يصبح بخير ...».
ثم كأنما خطر له خاطر وهو يمضى. فارتد وقال: «اسمعى يا لولو. أرجو أن لا ... لا تذكرى شيئا عن زيارتى هذه لستك فإنها ... فاهمة؟ آشكرك».
وخرج ورد الباب بحذر وخفة لئلا يوقظنى.
وسألت لولو: «ماذا يعنى»؟
قالت: «إنه ثقيل ولا مؤاخذة، ولكنه طيب القلب».
قلت. «ولكن ماذا يعنى»؟
قالت: «ستى دائما تعيره أن قلبه يرق لك على الرغم من الثورات العنيفة التى يثورها. وهو أيضا يقول عنها ذلك ... الحقيقة أن الاثنين، يحبانك حبا لا مزيد عليه».
قلت: «شكرا لهما ... وهل تحبيننى مثلهما»؟
قالت: «أتشك فى ذلك»؟
قلت: «قدر حبك لعم أحمد»؟
فاتقد وجهها واعترفت إذ سألتنى: «من أدراك»؟
قلت: «فضحك وجهك ونم عليك هذا الأرجوان الذى صبغه».
فآطرقت حياء فقلت أطمئنها: «لا تخافى على سرك. فسيظل مطويا مع سرى».
فرفعت رأسها وسألت: «سرك؟ وما هو»؟
قلت: «آه ... هذه هى المسألة ... إنه لا يبقى سرا إذا أفضيت به إليك».
قالت: «يا لك من ماكر! هل تعرف أنك تبدو لى أحيانا أكبر مما أنت؟»
قلت: «أوه. جدا. جدا».
الفصل الثاني عشر
وآن أن أنام. ولم يكن يرنق فى عينى نوم. نعم كنت متعبا مهيضا. وكنت أرانى أحيانا بين اليقظان والوسنان. ولكنى لم أكن أشعر بمقاربة النوم أو ثقل الجفون.
ولكن قيل لى إن النوم وجب، فقلت وهو كذلك، ورأيت أن هذا يتيح لى أن أخلو بنفسى فتظاهرت بالطاعة فذهبوا عنى وصرت وحدى فوسعنى أن أفكر فى أمرى، فى سراح ورواح، وأمان من أن يتطفل على خلوتى أحد بوجوده.
وقلت لنفسى هذا يوم الجمعة قد انقضى، لا بسلام، بل بعلقة، ولا عجب أن يطرد النحس فيه من البداية إلى الختام. وقد انتهت الحفلة يما لا أعرف. فما عنيت بأن أسأل. ولا صدقت لحظة واحدة أن هذا عيد ميلادى. وكيف يكون وأنا لم أولد هنا ولا لهؤلاء القوم الذين ما عرفتهم إلا فى هذا اليوم؟ ولست آدرى هل ينتظر منى فى صباح الغد أن أذهب إلى المدرسة أو تعفينى العلقة منها أياما؟ وعلى أن هذا لم يكربنى كما يكربنى ما صرت إليه، وما أقصيت عنه فماذا أصنع؟ هل أوطن نفسى على السكون إلى هذه الحداثة الجديدة، وأحتمل أن أكبر شيئا فشيئا، سنة بعد سنة حتى يأذن الله مرة أخرى أن أعود رجلا، بعد أن كنت قد فرغت واسترحت من هذا العناء؟ ولماذا يقضى على أنا وحدى بهذا التكرار؟
وعدت أتساءل: أهذا حلم أم أنا أرى حقا؟ فإذا كان حلما فلعلنى إذا تحركت أن أستيقظ.
وأغمضت عينى وجعلت أدفع يدى ورجلى وأضرب بهما الهواء وأتقلب بعنف. ثم فتحت عينى وأجلتهما فيما حولى وأنا أتوقع أن أرى غرفتى القديمة التى أسرى بى منها، ولكنى على الرغم من الظلام لم أر أنى قد عدت إليها. فهبط قلبى وكاد اليأس يخامرنى من النجاة أو الأوبة إلى ما خلفت.
ثم ضحكت - أضحكنى أنى أتكلف هذا العبث لأستيقظ، وما كنت نائما، ولو كان شىء خليقا أن يوقظنى، لتكفلت بذلك العلقة السخنة.
وسألت نفسى: «والان ما العمل»؟ وجلست ونزعت الكمادة التى تركوها على خدى وحدثت نفسى أن الطبيب الذى عادنى وأنا غائب عن وعيى وعن هذا العالم الجديد الذى قذف بى عليه، حمار. وكيف عجز أن يتبين أن هذا الاهاب الصغير، محشو برجل كبير ولم يفطن إلى هذه الغلطة الجسيمة؟ وما قيمة ورم قليل فى الخد وأنا كلى وارم؟
وكيف غاب عنه أن جلدى مكظوط ومشدود لأن ما هو أكبر منه حشر فيه؟
وكففت عن هذا فما فيه خير. وقلت إن الطبيب لم يكن معنيا إلا بما يستحق عليه أجره. ولو كان عنى بالفحص الجدى لاطلع على معجزة ولوقع على مالم يقع عليه طبيب من قبل. ولصار بذلك علما خالد الذكر. ولكنه لايعرف إلا مافى كتبه ولايجعل باله إلى الأعراض البارزة جدا، ويدخل متأثرا بما قيل له، وقد عادنى وكل مافى رأسه أنى ضربت علقة. فلم يكلف نفسه أكثر من النظر إلى المواضع التى أصابها الضرب. ولو أهمل ما قيل له، ودقق فى الفحص لعلم أنى مدسوس فى جسم غير جسمى.
وبدا لى أن الطبيب سيضيع وقتى، إذا كنت أعود إليه كلما اعتزمت أن آتركه. وماذا كان يسعه؟ أهذا صندوق يستطيع أن ينزع مساميره ويرفع غطاءه ويخرجنى منه؟ إذن فلندعه إلى ما هو أجدى.
وخطر لى أن أجدى من ذلك أن أنهض وأحاول أن أتصل بأهلى! وقد عرفت أن ههنا آلة تليفون، وقد نام البيت، ففى وسعى أن أستخدمه، وبحسبى أن أسمع صوت زوجتى أو غيرهما ممن فى البيت، فما أطمع أن يصدقونى إذا قلت لهم إنى رجلهم! ورأيتنى وأنا أهبط على درجات السلم بحذر وعلى أطراف أصابعى أتساءل: «كيف يكون الحال إذا طلبت بيتي فأجابنى صوت كصوتى الذى أمسيت به وأصبحت بخلافه؟ أى إذا تبينت أنى لا أزال هناك وإن كنت هنا»؟
وطردت هذا الخاطر فإنه مثبط ومزعج، وذهبت أنسل من غرفة إلى أخرى وأتلفت وأستثبت قبل أن أدخل حتى اهتديت إلى التليفون، وكان فى غرفة تشبه غرفة مكتب إلا أنه لا كتب فيها ولا شىء سوى مكتب ألصق بالحاط ووضعت عليه ربطات مختلفة مزدانة ذات ألوان بهيجة، خطر لى أنها عسى أن تكون «الهدايا» التى أهديت إلى فى «عيد ميلادى» ونسوا - لا أدرى كيف؟ - أن يقدموها إلى، أو حتى أن يذكروها. ولكنى لم أعن بها وانصرفت عنها إلى التليفون، وهو فيما أعلم، أو فيما كنت أعلم، مجعول لتيسير أسباب الاتصال بين الناس، ولكنه كان فى ليلتى هذه كأنما جعل لمكيدتى وامتحان صبرى، فما رفعت السماعة عنه مرة وأدرت رقم تليفونى إلا خلتنى فى نادى سمر وقصف، وما أكثر ما سمعت مما لو قرأته فى كتاب، أو شهدته على مسرح أو فى سينما لقلت إنه شطط فى التخيل، ومبالغة فى الاغراب، وكثر المتطفلون على، وكانوا ينهروننى ويأمروننى أن «أخرج» ويوبخونني ويقولون لى إن استراق السمع عيب، كأنما كنت قد فعلت ذلك، أو تعمدته، أو كأنما هم لا يعدون أيضا متطفلين على! وشتمنى واحد بألفاط لم أكن أعلم أنها مما يجرى به اللسان حتى بين المرء ونفسه، فتعجبت للإنسان وما ينطوى عليه من جبن أصيل، وسوء أدب وقلة مروءة، وظننى بعضهم فتاة لأن صوتى قد صار كصوت البنات كما أسلفت، فراح يغازلنى ويحاول أن يتعد معى!
وكدت أخرج عن طورى، فقد أجهدنى وأتلف أعصابى هذا الخلل الذي أصاب التليفون، ورأيتنى مرات أهم بأن أصيح لأطرد هؤلاء الطفيليين الواغلين الذين لا يزالون يحشرون أنفسهم كلما طلبت الرقم كأنهم، آلوا على أنفسهم ليحولن بينى وبين الاتصال بمن أريد، وخفت عاقبة الصياح فألقيت السماعة وعدت أدراجى إلى غرفتى، لأطمئن، فقد جري بظنى أن لعل بعضهم قد زارنى ليرى كيف حالى.
ولكنى وجدت كل شىء هادئا كما تركته. فقلت أنفض الأرض حول البيت فإن الليل فرصتى، فلن يأخذ أحد على متوجهى.
وكان باب الشرفة مفتوحا ليدخل الهواء. فخرجت إليها ومددت، فجذبت غصنا من الشجرة التى لفتت نظرى فى الصباح والتى تسلقها عم أحمد لما جاءنى بالنمل. وجلست على حافة الشرفة، وثبت رجلى بين فرعين. وانتقلت إلى الشجرة. وتذكرت أنى كنت فى حداثتى الأولى أحسن تسلق الشجر. وشجعنى ذلك وقوى قلبى، وإن كان الحذر لم يزايلنى، وكان فى أغضانها خشونة آذت هذا الجلد الرقيق الريان، وخطر لى وأنا أتأفف أن حمادة على حق، فما هذا بجلد صالح لجسم رجل. وتذكرت وأنا أنتقل هابطا بين الغصون شجرة جميز سهوق فى بيتنا الذى نشأت فيه كنت أوثرها على السلم. ولكنى كنت ولدا قويا مصكا لا أعيا بعمل لا كهذا الخرع الذى دسونى فيه.
وبعد مشقة عظيمة صارت قدماى على الأرض. فنفضت التراب والورق. وشرعت أتلفت. وتمنيت لو كنت أعرف أين العم أحمد الان، فأذهب إليه وأستعين به فإنى بغيره خليق أن أسير على غير هدى. ولم يكن فى رأسى خطة واضحة. وكان كل ما يخطر لى هو أن أحاول أن أعرف آين آنا من الكرة الأرضية؟ فقد رجح عندى أنى ما زلت عليها. ولقد كان هذا أولى بالنهار. ولكن ما فات مات. ولا فائدة من الأسف.
وطار طائر ففزعت لحركة جناحيه المفاجئة وخفقهما. وكنت قد نسيت الظلام وما عسى أن يطالعنى به. فسألت الله السلامة. ولست ممن يخافون الليل وسواده، ولكنى انتقلت إلى جسم جديد، أجهل كنهه. ولقد امتحنته فى المساء فخيب أملى فمن أدرانى الان أنى لست متهورا فى هجومى به على هذا الليل الأسود؟
وما كاد هذا يمر بخاطرى حتى رأيت عينين واسعتين شاخصتين فاضطربت وزاد اضطرابى أنى لا أرى الجسم الذى تطلان منه. ولم أدر أهما عينا أفعى أم قط أم بومة؟ وتراجعت ويدى على فمى لأكتم الصرخة التى أحسست أنها ستنطلق. ولم أر أن ذا العينين يدنو منى فاطمأن قلبى قليلا. وخطر لى أن أجرب. فقلت: «بس» فاختفت العينان. فأقدمت وسرت خطوات. وإذا هما أمامى مرة أخرى. فقلت: «بس» فاختفتا ثانية. فمضيت فى طريقى وقد أيقنت أن هذا قط أسود ولكن خوفى ما كان يخف إلا ليشتد، ولا يذهب إلا ليجىء. فقد كان القط - كلما قلت «بس» - يتركنى أو يختفى، او يمضى أمامى، ولكنه كان فيما يخيل إلى، كأنما ينط ويدور ويرشقنى بهذه النظرة الجامدة الساكنة التى لا يتغير تعبيرها؛ وكان ربما كبر فى وهمى أنه عفريت، خرج لى فى فى زى قط، ولكنى كنت أطرد هذا الخاطر وأقول إن «سونه» قد تفزعه العفاريت أو القطط ولكن سونه يحتل بدنه عقلى أنا الناضج الذى لا تخيفه هذه الأوهام.
وصار القط رائدى، فهو يمضى قدامى، وأنا أمضى خلفه. فما كان يهمل أن يبدو لى بعد كل اختفاء، وما كان أغرب أن أمشى مهتديا بعينين تومضان في ظلمة الليل، ولشد ما وددت أن ألمس الجسم الذى هما فيه. فقد كانتا كأنهما منزوعتان ومرسلتان فى الفضاء وحدهما، وبمجردهما.
وإنا لنخبط فى هذا الليل - أنا والقط أو أنا وعيناه - وإذا بزمارة الإنذار تنطلق مؤذنة بغارة جوية. يا خبر أسود! وما العمل الآن؟ لقد بعدت عن البيت حتى اختفى فأنا لا أراه ولا أعرف موقعة من الجهات الأربع. فأين أختبئ إذا احتجت إلى الاختباء؟ وسيلتمسوننى فى غرفتى ليحملونى معهم إلى مخبأ - إذا كان لهم مخبأ - أو ليطمئنونى ويذهبوا عنى الروع. ولن يجدونى. وحينئذ تقوم القيامة. وكيف حال أهلى يا ترى الآن؟ أهلى أنا لا أهل الذى أنا مدسوس فيه؟ وحدثت نفسى أنه لا خوف عليهم أن يجزعوا كما أرى الذى ابتليت بجسمه يجزع. فقد راح ينتفض ويرعد حتى كاد يخلع لى فؤادى. ثم ذهب يعدو ويدردب من الخوف ويحملنى معه هنا وههنا من فرط الفرق والحيرة. وأنا أصيح به - من الباطن: ماهذا؟ ليس هكذا يصنع العقلاء.. ألايمكن أن تقف وتسكن حتى أفكر لك؟ فلا يقف ولايسكن ولايتيح لى فرصة للتفكير. فأنا محمول معه بكرهى إلى حيث لا أعلم.
وسمعت طلقة مدفع فقلت: «آه جاءك الموت ياساكن جسم سونه الأهوج الاخرق الوهنان» أترى عقله قد أخلق وتمزق واحتاج أن يرقع بعقلى؟ وليته يدعنى أرقعه له! إذن لاستطعت أن أجرى أمره على استواء.
وذهبت أعدو معه، وهل كان يسعنى أن أتخلف؟ وإذا بى أصطدم بما حسبته أول الأمر شجرة أو نخلة، ثم تبينت أنه إنسان مثلى، فقد قال: «أخ» كما قلت ووقعت على الأرض ولكن يدى كانت مطبقة على قطعة من ثوبه عرفت، فيما بعد، أنها تكة سراويله، فأدركت أنه العم أحمد. على أنه أعفانى من إضناء عقلى فقد سآلنى: «من هذا؟ لكأنى به سونه»؟ فعرفته من صوته قبل أن أعرفه من شارته ورايته - أعنى تكته.
وقال سونه - أخزاه الله: «خبئنى ياعم أحمد»!
فخجلت، ولو كنت باديا، ولم اكن مختبئا، فى جسده الخوار لتصببت عرقا. وماكنا سمعنا سوى قذيفة واحدة فما كل هذا الفزع والجزع؟ ومن حسن الحظ آن العم أحمد لايستطيع أن يرانى فى مخبئى الآدمى، وإلا لذبت خجلا.
وربت العم أحمد على كتف سونه - ولو استطعت لدفعت يده، فما كانت بى حاجة إلى طمأنية - وقال: «لاتخف! تعال معى.» قلت: «إلى أين»؟
قال: «إلى البيت طبعا ... لماذا خرجت؟ وكيف خرجت فى هذا الوقت»؟
فاختلفت أنا وسونه: هو يريد أن يحدثه عن الغراب الذى طار عن الشجرة فأطار لبه، والقطة التى أرعبته فى الظلام بعينيها، وأنا أشعر أن فى وسعى أن أكاشف هذا الرجل بسرى، ألست قد تبينت أنه يحب لولو والحب يلين القلوب وينشط الخيال ، ويكبر القلب، ويقوى العطف، والرجل الذى يحب لولو لابد أن يكون له نظر وذوق، وإن كان لايحتاج إلى نظر كثير ليفطن إلى جمالها، فأخلق به - بفضل فطنته ونظره - أن يرى أنى مخبوء فى هذا البدن الذى ليس لى، وأنى فى الحقيقة موءود فيه! وعسى أن يساعدنى على الاهتداء إلى بيتى وأهلى فأتصل بهم ولو من ناحيتي أنا.
ولم يطل الخلاف، فقد تغلب سونه فإنه ذو اللسان، وأنا أخرس أو لا لسان لى على الأصح، فقد بقى هناك مع جسمى الفارغ، فلشد ماتتحكم الأجساد فى النفوس وتسيطر عليها! هذا أنا - أسكن جسدا لم يسو على قدى، ولم يصنع على قياسى، فهو يستطيع أن يصنع بى ماشاء، ولا أستطيع أنا إلا أن آتأسف وأهز رأسى هزا مجازيا، فما لى رأس كما لاحاجة بى أن أقول.
ولم أكن أعرف أن سونه كذاب مذاع، فأدهشنى فشره ومعره، وأخجلنى أيضا، وحاولت أن أغمزه ليقتصد فيما يزور ويختلق من الأباطيل والترهات، ولكنه لم يحفل غمزى أو لم يشعر به، وراح يخبر عن خرافات لا أصل لها، ولم يقع منها شىء ويقول فيما يقول إن ماردا سد الطريق فى وجهه، فرماه باية الكرسى فاحترق المارد وخلا فى وجهه - اعنى سونه - الطريق.. وزعم أيضا أن ذات مئزر أبيض همت بعناقه وضمه إلى صدرها الذى كانت الابر البارزة منه تلمع فى الظلام ولو ضمته لانغرزت الابر فى صدره هو فمات - فقلت فى سرى: ليتك مت! إذن لأمكن أن أنقل إلى جسم آخر لاتخجلنى سكناه - ولكنه حاورها وفر.
وصارت القطة فى أساطيره ذئبا، تارة، وكلبا عقورا تارة أخرى. أما الغراب فكان ساحرة يطير بمقشة كما رآها على مايظهر فى بعض الصور المتحركة.
فقلت لنفسى: «والله إنك لذو خيال ياهذا، ولكنه خيال لايعدو خيال الصبيان من أمثالك ولايجاوز بك آفاقهم.
فإذا كان لابد لك من الكذب والادعاء فهلا كنت استشرتنى لألهمك ماهو أبرع من ذلك»؟
ولكن المدهش أن العم أحمد لم يدهش، ولم يشمئز من هذا الكذب الصراح، بل كان يشجعه عليه ويستزيده منه ويبدى له التصديق، والاستطابة، ويحمد الله - تعالى - على نجاته تارة ويثنى على شجاعته وقوة قلبه طورا، وهكذا إلى أن بلغنا البيت فقلت لنفسى ستسمع بضع أساطير أخرى حين تجتمع علينا الأم والعم والخدم. فما يليق أن يحرمهم السيد سونه الاستمتاع بمثل ما استمتع به الجناينى من ثرثرة لسانه الحلو الذى يظهر أنه يفرح بقدرته على دهورته فى شدقه.
وتحسسنا طريقنا حتى هبطنا إلى حجرة مسدودة النوافذ، وفيها نور ضئيل أخضر من مصباح بترول صغير موضوع على الأرض فى ركن، وكنت اتعجب لعم أحمد ودخوله البيت كأنه من أهله، وفى هذه الملابس التى لايليق أن يلقى بها أحدا وخاصة إذا كان هذا الأحد سيدة، وزاد عجبى أنى رأيتهم لاينكرون وجوده بينهم واجتراءه وتسحبه عليهم هكذا.
وأقبلت الأم والعم ولولو والبقية، وصار كل امرئ يرمينى بسلسة متصلة غير منقطعة فن الأسئلة، ولا ينتظر جوابها.
ولما كلت الألسنة، وفترت همتها قال سونه: «لما سمعت الزمارة خرجت لأتفرج فقابلنى عم أحمد وعاد بى».
بهذا الإيجاز المخل! فلو استطعت لقرصته! فعادوا يقولون كيف يفعل ذلك وهو لم يشف؟ وكيف يخاطر بحياته الغالية؟ وكيف وكيف حتى ضجرت فى جوفه، ولكنه كان يبتسم ولا يستثقل حملتهم اللفظية.
وما كاد أكثرهم يكبح لسانه ويكف عن اللغط حتى خيل إلى أن الأرض تميد. فقد انطلقت المدافع مرة واحدة، انطلاقا متتابعا، وكانت كأنها قريبة منا، وكنا نحس أن بعضها منصوب على بابنا، فقالوا: يا ستار استر ... وجمعتنى أمى فى حجرها وأحاطتنى بذراعيها وألصقت وجهى بصدرها، ولم أكن أنا خائفا ولكن سونه كانت تصطك ركبتاه وأسنانه، ولم يكفه هذا فأنشأ يبكى بصوت عال! ولا يكتم أنه «خائف يا ماما»، حتى هذا لم يكفه فصرخ، ولم يكن هذا لائقا، ولكن ما حيلتى وهو الذى فى وجهه العين الباكية، وفى فمه اللسان الدائر؟ ولو كان الأمر إلى أنا وحدى، لأقعدته على كرسى وألزمته الرزانة والاتزان ورباطة الجأش، ولوضعت له رجلا على رجل، وجعلت فى يده سيجارة، فإن التدخين يطيب فى مثل هذا الوقت، ويعين على إفادة السكينة. وعلى ذكر التدخين أقول إنى لم أر فى هذا البيت الطويل العريض أحدا يدخن، فلم أستطع أن أحتال وأسرق سيجارة أدخنها سرا وخفية، ولعل هذا الحرمان هو الذى أضعف إرادتى فراح سونه يركض بى بغير عنان.
ولم يطل الآمر، وانطلقت الصفارة المؤذنة بانتهاء الغارة، فما راعنى إلا أن هذا الفتى الاخرق قفز من حجر أمه وانطلق يصفق ويقول: «هيه ...» ممطوطة طويلة.
وأخجلنى سونه مرة أخرى ونحن نصعد درجات السلم عائدين إلى غرفنا. فقد تعلق بذراع أمه وراح يموء كالقطة، فلما سألته عما به قال إنه خائف ... فبالله مم يخاف هذا الرعديد؟
وزجرته همسا: «اختش يا شيخ ... عيب».
ولكن من يقول ومن يسمع؟ أنا من جسده فى مثل غيابات الجب التى ألقى فيها يوسف - عليه ألف سلام - وما أحسبه - أى يوسف - خاف مثل هذا الخوف الذى يخافه سونه، ولو فعل لكان معذورا، فقد كان فى جب، وكان وحده. أما هذا فما عذره؟ وهو فى بيت، بل قصر معمور، وأنا معه لا أفارقه، وأونسه وإن كنت لا آنس به؟ وهو - أعنى سونه - على رأس السلم، وتحت ذراع أمه التى تهدئ من روعه وتعده آن تبقى معه، فكيف يصغى إلى هذا الصوت الخافت الذى يشبه صوت الضمير، ويهمل صوت أمه الواعد بالأمن والاطمئنان وأين فى الناس من يلقى باله إلى الضمير الذى لا يحسن إلا التنغيص؟
وتذكرت أيام كنت أنا حدثا مثله فى حياتى المستقلة، وقبل أن تتصل أسبابى بأسبابه - أى سونه - وكيف كنت أقطع طريق الصحراء الموحشة، وحدى، فى الليل البهيم، وأجتاز منطقة القبور اختصارا للطريق، فى الظلام الدامس، ولا أفزع ولا أتهيب، ولا يخيفنى عفريت، أو قاطع طريق، أو مجرم متربص، وكان البيت الذى نشأت فيه فى حارة عتيقة، وكان الغلمان - غيرى - يقطعونها عدوا حتى فى النهار المشمس، لشدة ما ينتابهم من هولها، وكان بئر السلم - والعياذ بالله - يجعل قلب أجرأ الناس كلعبة اليويو، فى صعود وهبوط بين الحذاء والصدر، فقد كان يوقع فى الروع أنه مباءة العفاريت والقتلة، ومع ذلك لم أكن أقول: «ياماما أنا خائف» كما يقول هذا الفتى الذى سود وجهى.
وقال عمه ساخرا: «خائف؟ من أى شىء يا سيدى»؟
فهمست فى أذن سونه، أوبخه: «سامع»؟ «وانت مالك»؟ لعمه، لا لى.
فدهشت، وطربت! وصحيح انه قالها بضعف، وبلهجة الطفل المدلل الذى اعتاد أن يسىء أدبه وهو آمن، ولكنه قالها والسلام. وبارك الله فيه! ولا فض فوه! ورجوت بعد أن سمعت منه ذلك أن ينتهى بنا الأمر إلى حسن المواطنة وطيب العشرة.
وانثنت أمه علية تقول له: «لا يا بابا ... عيب ... هذا عمك».
فترك سونه عمه و العيب، وكر راجعا إلى رأس أمره وقال: «أنا خائف».
فكررت أنا أيضا راجعا إلى سخطى عليه ... ولعله إنما أراد أن يخرج من المأزق فلاله ولا عليه. ولكنه ما كان ينبغى أن يعود فيلهج بالخوف مرة أخرى. والحق أقول إنه خيب أملى.
الفصل الثالث عشر
وصارت المسألة عندى بعد ذلك، وأنا راقد على سريرى - أعنى على سريره هو كما هو ظاهر - فى حضن أمى، وظهرى إليها، ووجهى إلى الحائط، ويدها على لأطمئن، هى هذه: «هل أطيق العيش فى هذا الجسد»؟
وقلت لنفسى: ينبغى أن أحصى مزايا هذا التحول ومساوئه.
فمن المزايا أنى رددت طفلا غنيا، وكان من السهل أن أن يقلبنى الذى قلبنى، طفلا فقيرا، يسكن كوخا حقيرا، ويعانى مرارة الفاقة وذل الحاجة.
ثم إن هذه الأم رقيقة القلب حنانة، وهى إلى هذا تشبه زوجتى، بل هى هى بعينها، فأنا لا أشعر أنى فارقت زوجتى، فإنها معى أبدا، وإن كنت قد حرمت ما يجنيه الزوجان من متع القرب، ومن الهين رياضة النفس على هذا الزواج الروحانى وأخلق أن يعيننى - أو يرغمنى - على الاكتفاء به، أن لى هذا الجسد.
ويبقى الولدان، وفى وسعى أن أراهما متى شئت، كما رأيتهما الليلة. وإن بينى وبين أصغرهما لثأرا، ولكنى بعد أن أصخه كما صخنى، أستطيع أن أفىء به وبأخيه إلى الصداقة والمصافاة، ويكبران وأكبر، فما أغرب، وأحلى، أن نصبح أترابا ونسيم سرح اللهو معا، ونركب الحياة بشبابنا، وأكون لهما صديقا لا يعلمان أنه أبوهما، وأوقظ رأيى لهما، وأجعل تجاربى فى حياتى الأولى رائدى فى السهر عليهما ورعايتهما وتسديد خطواتهما، ولا يكونان هما معى إلا على حال الصديق مع صديقه من الود والالفة ورفع الكلفة وطيب المشاركة فى الجد والهزل! أى نعم، وبذلك أصل ما انقطع، وإنه لعناء أن أتناسى أنى أبوهما. ولكن لا بد مما ليس منه بد.
ولكن البلاء والداء العياء، أنى لا أرانى مطيقا لاعتياض هذه الشخصية الفجة التى لم تنضج، من شخصيتي القديمة، كلا هذا عسير، وهو المعضلة الكبرى فى الامر كله، وما أرى الذى آتانى هذا الجسد الصغير إلا قد أخطأ وكلفنى شططا، ولو كان أهرمنى وأعلى سنى، وأسكننى جسدا مقوس القناة وجعل لى وجها مغضنا، كالمدينة بادية من طيارة، واشاع الشيب فى رأسى، لكان أهون، وأخف محملا. ولكان أيسر على أن أتقبل هذه الوثبة إلى الشيخوخة وأسكن إليها لأنها هى التى تقترن فى الذهن بالحياة مع امتداد العمر، والمرء يتوقعها ويعرف أنه يدلف إليها، ولكن استمرار الحياة لا يقترن فى الذهن أبدا بهذه الرجعة، أو بهذا الهبوط إلى سفح الجبل بعد أن قارب المرء ذروته. وليس فى الحياة لا وقوف ولا رجوع إلى الوراء، فكيف يمكن ان أوطن نفسى على هذا المستحيل؟
وقد ألفت نفسى وانتهى الأمر، وعرفت أنها نفسى، ورضيت بها، وعنها، وإن خالف رأى الناس فيها رأيى، فكيف يعقل، وأنا لا أزال أحس هذه النفس، واعتز بها وأباهى، وأحرص عليها، وأضن بها أن أغالط أقول بل نفسى هى هذه الجديدة التى ما عرفتها ولا خالطتها ولا بلوتها من قبل، ولا حمدت منها شيئا على قصر عهدى من قبل، ولا حمدت منها شيئا على قصر عهدى بها؟ وإنى لادرك أن نفسى باقية معى، ولكن المصيبة أنها لا تتبدى، ويحجبها هذا الجسد الصغير الذى أسكنته. وأخوف ما أخاف أن يحصل على الأيام امتزاج بين النفسين، وما يدرينى أن ثمرة المزج لا تكون ائتلاف أسوأ ما فيهما جميعا؟ لا يا سيدى يفتح الله ... هذا خلط غير مأمون العاقبة، ثم إنى لا أريد خلطا، ولا مزجا ولا شعشعة. وما شكوت أو تذمرت حتى يفردنى بهذا من قضاه على، وجعلنى به بدعا فى الناس. فلا أنا أنا ولا أنا غيرى.
وأفزعنى خاطر استطردت إليه: ذلك أنى قلت لنفسى إن الذى حدث لى لا يعدو أن يكون شبيها بالرفو والرقع، وإذا جاز هذا وتسنى فيما يلبس، فإنه لا يجوز ولا يسهل إذا كان الأمر أمر شخصية. وصحيح ان الشخصية الجديدة التى يحصل بها الرفو أو الرقع، جديدة، لأنها حديثة عهد بالوجود والحياة. ولكنها تبدو للشخصية القديمة التى يراد رفوها - لا أدرى لماذا فما كانت آخلقت وبليت - أقول إنها تبدو دونها، وأقل منها قيمة، وأهون شأنا، وأقل نفاسة، لأنها لم تنضج ولم تستوف الحظ المقدور لها من اكتمال الجوانب - وهذا كله يبدو لى خلطا لا يحسن به الحال أو يستقيم الأمر، أو يطيب العيش. ولما كان الذى سلخ جلدى، ثم لمنى ودسنى فى هذا الجسد الصغير قد صنع معجزة، فلا بد أنه قادر أن يأتى أيضا ما يفتضيه ذلك، فمن المعقول إذن أن يقل عقلى على الأيام ويصغر، حتى ينقلب مناسبا لهذا الجسد الصبيانى. ولعله استغنى عن معالجة التصغير بنفسه، ثقة منه بأن الجسد الصغير سيفعل فعله من تلقاء نفسه. وتذكرت وأنا أدير هذا فى نفسى أن بعضهم كان يقول عن خياط فيه شذوذ إنه كان لا يقيس طول الزبون وعرضه بل يطرحه على منضدة ويخط له حدوده بالطباشير كما يفعل الحذاء حين يرسم قدمك على الورق بالقلم الرصاص. قالوا: وكان يقول للزبون إذا أشتكى ضيق الثوب: «كش فيه». فيظهر أن القدر يكلفنى الآن ما كان هذا الخياط يكلف زبانه من التجمع فى الثوب الضيق، ويطالبنى بأن «أكش» فى جسد سونة حتى يصبح كلانا على قد صاحبه. وما أرى سونه سيتجشم عناء. فإن العناء كله من نصيبى.
وهالنى هذا، وشق على أن يقل عقلى، وأخذنى النوم وأنا فى حيرة واضطراب وجزع من أن يصبح عقلى أصغر مما أمسى.
ورأيت فيما يرى النائم أنى ولد صغير فى كوخ لساحرة عند سفح جبل، ولم أكن أعرف من أنا، ولا من أين جاءت بى، وكان كل ما أعرفه أنها تسخرنى لخدمتها وترهقنى بها، فتناولنى دلوا عظيمة وتبعث بى إلى الجبل! فلا أزال أصعد فيه حتى أبلغ قمته، وهناك أملؤها وأعود بها إليها. ولا أزال فى هذا الكد المضنى طول النهار.
ثم تغير الحلم فصرت فيه كلبا لعجوز فقيرة، ولكنها طيبة القلب، فكنت إذا جعت نبحت، وقلت: «وو.. وو.. إنى جوعان. فانظرى فى هذه الخزانة لعل فيها عظمة»، ولا أزال أوهوه، وأمد صوتى، وأعوى متضرعا حتى تجيئنى بطعامى. وإذا بالعجوز الطيبة الكريمة تنقلب مستبدة ظالمة، فتصنع لى ثيابا - سترة وسراويل - وتلبسنى طربوشا، وتضع فى يدى عصا، وتقول لى اخرج وأضحك الناس - والأطفال خاصة - بألاعيبك وحذقك فيها، واجمع فى هذا الطربوش ما يجودون به عليك من قروش أو ملاليم، فأخرج متذمرا متأففا، مستهجنا هذه الملابس الآدمية التى لا تليق بكلب مثلى، ولا يسعنى إلا الطاعة، وإلا ضربتنى وأوجعتنى. وقد أثرت العجوز، فاتخذت غنما كثيرة تبيع ألبانها وأصوافها وصغارها، فنضت عنى ما كانت كستنى، ووكلت إلى حراسة الغنم فى رعيها وسقيها ومرابضها، حتى أخذنى البهر من الحر والمشى، وأضمرنى الكلال، وهى لا ترحمنى ولا تريح عصبى، ولا يعطفها على ما أسلفت فى خدمتها ولا تزداد إلا حرصا وجشعا - ولا ترى لأحد شيئا إلا أحبت أن يكون لها.
الفصل الرابع عشر
ولكل شىء آخر - حتى الليل الطويل الغاص بالأحلام المزعجة - ولم يكن نومى هنيئا، ولا مريحأ، فما كاد الصبح يتنفس حتى تمطيت وحمدت الله على اليقظة من نوم قصير مضطرب، وتثاءبت وفتحت عينى وقلت لنفسى: «صباح الخير ياسونة، وعسى أن يكون يومك أطيب من أمسك.» وحدثت نفسى أن اليوم السبت، فالأرجح أن أذهب إلى المدرسة، والله المعين. فما أعرف أين هى؟ ولا أدرى فى أى فرقة أنا؟ وتذكرت أنى لم أر فى هذا البيت كتابا أو كراسة أو ورقة أو قلما. بل لم أر حتى لعبة لغلام مثلى، فما أغربه من بيت! وما أعجبها من حياة! وألفيتنى أتساءل: «أتراهم علمونى شيئا»؟ وابتسمت، فما أحتاج إلى التعليم فإنى كبير فى الحقيقة، وأخلق أن يروع التلاميذ ويدهشهم مايفاجئهم بعد اليوم - من اليوم فصاعدا - من علمى وسعته! وسيكون أمر المدرسة والتعليم فيها أهون ما أعانى: وإن كان «الحساب» سيضنينى ويرهقنى، فقد كنت - احسبنى ما زلت - أبغضه لأنى لا أحسنه وما أكثر ما قلت لحماده وسعيد - ولدى - بارك الله فيهما - وصديقى وأخوى بعد اليوم - حين كانا يجيئانى بمسألة من الحساب: «اسمعا! إنى طول عمرى حمار فى هذا الحساب. ولا أدرى كيف كنت أجتاز الامتحانات المدرسية فيه، ولكن الله كان يستر ويلطف، فينتهى الأمر بسلام وخير. وإنى لأذكر أنه كان يراقبنا فى امتحان الشهادة الابتدائية معلم فرنسى طويل اللحية. وكان ينحط على الكرسى وينام، فلما صرنا إلى الحساب لم أستطع شيئا، وأيقنت أنى لا محالة مخفق، فكدت أبكى. وتلفت فرأيت جارى على مسافة ذراع منى، مكبا على ورقته يكتب. وكنت أعرفه حاذقا بارعا. فدفعت إليه بورقتى وأشرت إليه إشارة الرجاء والاستعطاف فرق لى قلبه. وكتب لى حلول مسائل ثلاث، فنهضت بالورقة وأيقظت بها المراقب. وخرجت قبل غيرى قانعأ بما جاد به زميلي».
فيذهبان عنى إلى أمهما فإنها تفهم ما لا أفهم من هذا الحساب، وما أظن إلا أن المرأه أقدر عليه.
نعم سيكون الحساب علة شقائى مرة أخرى.
والجغرافيا أهون ولكنها ثقيلة، وكان معلمها يأمرنا أن نغنى بأسماء الخلجان والأنهار والرءوس والبلدان لنحفظها عن ظهر قلب فحفظناها إلى حين ثم نسيناها وكيف تبقى أسماء لا تقترن بشىء يذكر بها؟ فكيف يصنع معلمى الجديد؟ إنه لا شك من طراز أحدث فلعل له طريقة أخرى أجدى.
وانقلبت على جنبي الأيمن فصار وجهى إلى باب الشرفة، وتوقعت أن تدخل لولو بعد قليل وتصبحنى بوجهها الحسن وابتسامتها الحلوة، وهممت أن أقول: تالله ما أجملها وأبرع حسنها! ولكنى قلت بدلا من ذلك: «إيه»؟ بلهجة المنكر لا المستفسر ، وجلست فى السرير، وفركت عينى، وجعلت أطرف، ثم رحت أستثبت، فقد أصبحت فى غرفة أخرى غير التى أعرف أنى قضيت الليل فيها، أفترانى سأنتقل كل صباح - أو كل ليلة - إلى بيت جديد وبدن جديد؟ ولكن هذه ... هذه غرفتى! أى والله هى بعينها.
ووثبت إلى الأرض، وذهبت أعدو إلى الباب فأدرت فيه المفتاح، أو أردت أن أديره، ولكنى كنت عجولا فخرج ووقع على الارض، فانحنيت وتناولته وأنا أسخط على نفسى ودفعته فى الثقب، أو جعلت أدفعه فلا يدخل من فرط اضطرابى وارتعاش يدى، وبعد لأى ما فتح الباب، فانطلقت خارجا كالصاروخ، وداخلا على زوجتى فى غرفتها، وكانت لا تزال نائمة، فطرحت الغطاء الرقيق الذى تستر به جسدها وجذبتها من ذراعها. فقامت معى تقول: «إيه؟ مالك»؟
قلت، أو صحت: «قومى يا امرأة ... انظرى إلى ... ألست كما كنت؟ هل تغيرت»؟
قالت: «ماذا، جرى لك؟ ما هذا النط الذى تنطه كالقرود»؟
قلت محتجا: «قرود؟ أسألك كيف تريننى فتقولين إنى أنط كالقرد»؟
قالت: «ماذا أصنع إذا كنت تنط مثلها تماما»؟ قلت: «طيب. دعى هذا وقولى كيف تريننى»؟
قالت ببرود: «مالك؟ كما كنت سوى أن خدك وارم».
قلت: «خدى وارم؟» ورفعت يدى إليه اتحسسه.
وسمعتها تقول: «قرصة نملة على ما يظهر».
قلت: «وكيف تريننى فيما عدا ذلك»؟
قالت: «أراك قليل الذوق. توقظنى فى الفجر لتسالنى سؤالا باردا ... ماذا جرى لك؟
قلت: «إنها تسأل ماذا جرى لى»؟
وخطر لى أنها لا تعرف فلها العذر، وأدرت عينى فى نفسى. فألفيتنى على عهدى بها، لا كما كنت أمس - أعنى.. تعرف ما أعنى - ودفعت يدى إلى وجهى، فشعرت بخشونة الشعر النابت، وإلى شفتى العليا فإذا عليها الشاربان، فتشهدت وتنهدت، وارتميت على كرسى.
وسمعتها تقول وهى تضع رأسها على المخدة: «اذهب ونم فما زالت من الليل بقية».
فوقفت، وقلت: «أنا أنام؟ مستحيل ...».
قالت، وأدارت وجهها عنى: «شأنك. أما أنا فسأنام. فاذهب عنى من فضلك».
قلت أعاتبها: «وتتركيننى»؟
قالت مستغربة: «أتركك؟ لست فاهمة. مالك اليوم»؟
قلت: «أولا لا تقطبى، ثانيا اجلسى أقص عليك حكاية، وبعد ذلك قولى لى هل يجوز أن أخاطر فأنام مرة أخرى»؟
فاعتدلت وقصصت عليها ما كان مما رأيت فى الحلم وهى تضحك. فلما فرغت قالت: «هذا جزاؤك ألم أحذرك؟ ألم أنهك أن تذكر الشيخه صباح إلا بخير»؟
قلت: «ولكنك أنت التى قصت علينا حكاية البستانى والملك فأوحت إلى ما تمثل لى فى منامى».
قالت: «بل هذا من غضب الشيخة صباح عليك».
وكانت أعصابى لا تزال مضطربة من أثر الحلم، فلم أجادل ولم أكابر.
ولما أضحينا قلت لها: «ما قولك؟ اليوم السبت وليس على عمل ...».
قالت: «سبت إيه؟ إنه الجمعة»!
قلت: «الجمعة؟ كيف يمكن؟ لقد كان أمس الجمعة».
قالت: «ألا ترى أن الولدين لم يذهبا إلى المدرسة»؟
قلت: «صحيح! وغريب أن أعيش الجمعة مرتين فى أسبوع واحد ... على كل حال ... أريد أن أقترح أن نركب السيارة إلى طنطا ونزور الشيخة صباح».
قالت، ويداها فى حجرها وعيناها إلى فوق كأنما ترى الشيخة صباح فى السقف: «إنى لا أشبع من النظر إلى حسن وجهها».
قلت: «اتفقنا إذن».
ورفع السجف، ودخلت علينا الشيخة صباح فى شملتها البيضاء تمشى كأنها ملكة، فنهضت واقفا، فافتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة، وناولتنى يدها فانحنيت أريد أن ألثمها، ولا أخشى أن تسىء بى امرأتى الظن. ولكنها جذبتها فاعتدلت وقلت لها: «أنا أعرف أنك لا تأخذين منا شيئا. فخذى هذه الساعة».
فهزت رأسها، ولكنى وضعتها فى كفها، وثنيت عليها أصابعها. وقلت: «إنها ساعة أمى. وكنت أعتز بها وأضن».
فتطلق وجهها وتهلل. فقد كانت تعرف عظم محبتى لأمى. والتمعت عيناها، ورفت على شفتيها ابتسامة، ورفعت الساعه إلى أذنيها وأصغت، ثم هزت رأسها مسرورة، ونحت الشملة عن صدرها. ووضعت الساعة هناك.. قرييا من قلبها.
ثم تناولت رأسى بين يديها، وتحركت شفتاها بدعاء لم أسمعه.
وقالت امرأتى ونحن نعود إلى السيارة: «الأن تستطيع أن تنام مطمئنا».
قلت وأنا أستوى على مقعدى: «ولا تقصين على مثل هذه الحكايات»؟
فرنت الى فى سكون، كأنما تتوضح شيئا، ثم ابتسمت وهزت رأسها أن نعم.
فجمعتها بين ذراعى وبستها.
فقالت: «فى الشارع؟ ألا تستحى»؟
قلت: «هذا من فرحتى بك. واحذرى أن تغالطينى مرة أخرى».
قالت: «أنا أغالطك»؟
قلت: «نعم. فى المنام».
فضحكت ... ووسعنى أن أضحك مثلها ....
Page inconnue