فأجاب لاويص: «كان اسمه بعطار إذ كان في مقر الآلهة، ولكنه قد اتخذ له بعد هبوطه إلى العالم الأدنى أسماء أخرى: «بعلزبول، وإبليس، وسنطائيل، وبليال، وزميال، وأهريمان، وماره وأبدون والشيطان، وأشهرها الشيطان».
فردد الزعيم لفظة الشيطان مرات بصوت مرتعش يشابه خفيف الأغصان اليابسة لمرور الهواء، ثم قال: «ولماذا يا ترى يكره الشيطان البشر بكرهه الآلهة؟».
فأجاب لاويص: «إن الشيطان يكره البشر ويعمل على إبادتهم؛ لأنهم من نسل إخوانه وأخواته».
فقال الزعيم محتارا: «إذا فالشيطان هو عم البشر وخالهم».
فأجاب لاويص وقال بلهجة لا تخلو من التشويش والالتباس: «نعم يا سيدي، ولكنه عدوهم الأكبر، ومناظرهم الحقود، يملأ أيامهم بالتعاسة ولياليهم بالأحلام المخيفة، فهو القوة التي تحول العاصفة نحو أكواخهم، وتحرق بالقيظ مزارعهم، وتقرض بالأوبئة مواشيهم، وتلامس بالأمراض أجسادهم، هو إله قوي، شرير، خبيث يضحك لشقائنا ، ويكتئب لأفراحنا، فعلينا أن نتفحص أطباعه لنتقي شره، وندرس أخلاقه، لنبتعد عن سبيل احتياله.
فأسند الزعيم رأسه إلى نبوته، وهمس قائلا: «قد عرفت الآن ما كان خافيا عني من أسرار تلك القوة الغريبة التي تحول العاصفة نحو منازلنا، وتقرض بالأوبئة مواشينا، وسوف يعرف البشر كافة ما أعرفه الآن، قيطوبونك يا لاويص؛ لأنك أبنت لهم خفايا عدوهم القوي، وعلمتهم كيف يتقون حبائله».
وانصرف لاويص من أمام زعيم القبيلة، وذهب إلى مرقده فرحا بذكاء فكرته، نشوانا بخمرة خياله، أما الزعيم، ورجاله فقد صرفوا تلك الليلة يتقلبون على مراقد محاطة بالأشباح المخيفة، والأحلام المزعجة.
ووقف الشيطان الجريح دقيقة عن الكلام، والخوري سمعان يحدق فيه، وفي عينه جمود الحيرة والاستغراب، وعلى شفتيه ابتسامة الموت.
ثم استأنف الشيطان الكلام قائلا: «كذا ظهرت الكهانة في الأرض، وهكذا كان وجودي سببا لظهورها، وقد كان لاويص أول من اتخذ عداوتي صناعة، وقد راجت هذه الصناعة بعد موت لاويص بواسطة أبنائه وأحفاده، فنمت، وتدرجت حتى صارت فنا دقيقا مقدسا لا يتخذه غير أصحاب العقول المختمرة، والنفوس الشريفة، والقلوب الطاهرة، والخيال الواسع، ففي بابل كان الناس يسجدون سبع مرات أمام الكاهن الذي يحاربني بتعازيمه، وفي نينوى كانوا ينظرون إلى الرجل الذي يدعي معرفة أسراري وخفاياي كحلقة ذهبية بين الآلهة والبشر، وفي ثيب كانوا يلقبون من يصارعني بابن الشمس والقمر، وفي بابلس، وأفسس، وأنطاكية كانوا يضحون بأبنائهم وبناتهم إرضاء لخصمي، وفي أورشليم، ورمة كانوا يضعون أرواحهم في قبضة من يتفنن في كرهي وإبعادي في كل مدينة ظهرت أمام وجه الشمس، كان اسمي محورا لدوائر الدين، والعلم، والفلسفة، فالهياكل لم تقم إلا في ظلالي، والمعاهد، والمدارس لم تظهر بغير مظاهري، والقصور، والبروج لم ترتفع إلا برفعة منزلتي، فأنا العزم الذي يولد العزم في البشر، وأنا الفكرة التي تستنبت الحيلة في الأفكار، وأنا اليد التي حركت أيادي الناس. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا الشيطان الذي يحاربه الناس؛ ليظلوا عائشين، فإذا كفوا عن منازلتي يوقف الخمول أفكارهم، ويميت الكسل أرواحهم، وتفني الراحة أجسادهم. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا عاصفة هوجاء، خرساء أهب في أدمغة الرجال، وصدور النساء، وأجرف أميالهم إلى الأديرة، والصوامع؛ ليمجدوني بخوفهم مني، أو إلى منازل البغي والخلاعة؛ ليفرحوني باستسلامهم إلى مشيئتي، فالراهب الذي يصلي في سكينة الليل لكي أبتعد عن مضجعه هو كالمسمومة التي تناديني لكي أقترب من مضجعها. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا باني الأديرة، والصوامع على أسس الخوف، وأنا مقيم الخمارات، وبيوت الفحش على أسس الشهوة واللذة، فإن زال كياني زال الخوف واللذة من العالم، وبزوالهما تضمحل الميول والأماني في القلب البشري، فتصبح الحياة خالية مقفرة باردة كقيثارة الأوتار مكسرة الجوانب. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا موحي الكذب، والنميمة، والاغتياب، والغش، والسخرية، فإذا انقرضت ههذ العناصر في العالم، أصبحت الجامعة البشرية كبستان مهجور لا تنبت فيه سوى أشواك الفضيلة. أنا الشيطان الأزلي الأبدي، أنا أبو الخطيئة وأمها، فإذا ما زالت الخطيئة زال محاربها، وزلت أنت أيضا، وزال أبناؤك، وأحفادك، وزملاؤك، ورصفاؤك. أنا أبو الخطيئة وأمها، فهل تريد أن تموت الخطيئة بموتي؟ هل تريد أن تقف الحركة البشرية بوقوف نبضات قلبي؟ هل تريد أن تمحو السبب لتمحي المسببات؟ أنا هو السبب الوضعي، فهل تريد أن أموت في هذه البرية الخالية؟ أجبني أيها اللاهوتي، هل تريد أن تنتهي العلاقة الأولية الكائنة بينك وبيني؟».
وبسط الشيطان ذراعيه، وألوى عنقه إلى الأمام، وتنهد طويلا، فظهر بلونه الرمادي المائل إلى الاخضرار كأحد تلك التماثيل المصرية التي أبقاها الدهر مطروحة على ضفاف النيل، ثم حدق بوجه الخوري سمعان بعينين مشعشعتين كالمسارج وقال: «لقد أنهكني الكلام، وكان الأحرى بي وأنا جريح منازع أن لا أطيل معك الحديث، ومن العجيب أني قد استرسلت بإظهار حقيقة أنت أدرى بها مني، وبيان أمور هي أدنى إلى صالحك منها إلى صالحي، أما الآن فلك أن تفعل ما تشاء، لك أن تحملني على ظهرك، وتذهب بي إلى منزلك لتداوي جراحي، أو أن تتركني في هذا المكان لأنازع وأموت».
Page inconnue