وبعد ساعة كان صاحبنا مضطجعا بملابسه المشوشة على سريره المشقلب، وغطيطه يملأ فضاء ذلك الحي بنغمة أدنى إلى جعجعة الطاحون منها إلى صوت ابن آدم.
العاصفة
1
كان يوسف الفخري في الثلاثين من عمره عندما ترك العالم، وما فيه وجاء ليعيش وحيدا متزهدا، صامتا في تلك الصومعة المنفردة القائمة على كتف وادي قاديشا في شمال لبنان.
وقد اختلف سكان القرى المجاورة في أمره، فمنهم من قال: «هو ابن أسرة شريفة مثرية، وقد أحب امرأة فخانت عهده فهجر الديار، وطلب الخلوة توصلا إلى السلوان» ومنهم من قال: «هو شاعر خيالي قد انصرف عن ضجة الاجتماع، ليدون أفكاره وينظم عواطفه»، ومنهم من قال: «هو متصوف متعبد قد اقتنع بالدين دون الدنيا» ومنهم من اكتفى بقوله «هو مجنون».
أما أنا فلم أكن من رأي هذا ولا ذاك؛ لعلمي أن في داخل الأرواح أسرارا غامضة لا تكشفها الظنون، ولا يبوح بها التخمين، غير أني كنت أتمنى لقاء هذا الرجل الغريب، وأشتهي محادثته. وقد حاولت مرتين التقرب إليه، لأستطلع حقيقته، وأستفسر مقاصده، وأمانيه، فلم أظفر منه سوى بنظرات حادة، وبعض ألفاظ تدل على الجفاء، والبرودة والترفع.
ففي المرة الأولى، وقد لقيته سائرا بقرب غابة الأرز، حييته بأحسن ما حضرني من الكلام فلم يرد التحية إلا بهز رأسه، ثم تحول عني مسرعا، وفي المرة الثانية وجدته واقفا في وسط كرمة صغيرة بقرب صومعة، فدنوت منه قائلا: «قد سمعت بالأمس أن هذه الصومعة بناها ناسك سرياني في القرن الرابع عشر، فهل لك علم بذلك يا سيدي؟».
فأجاب بلهجة خشنة «لا أعلم من بنى هذه الصومعة، ولا أريد أن أعلم»، ثم أدار لي ظهره وزاده ساخرا: «لماذا لا تسأل جدتك فهي أقدم عهدا، وأكثر علما بتاريخ هذه الأودية؟»، فتركته مكسوفا نادما على تطفلي.
وهكذا مر عامان، وحياة هذا الرجل المكتنفة بالأسرار تراود خيالي، وتتمايل مع أفكاري، وأحلامي.
2
Page inconnue